الشيوعية والطريق الواضح
هل تحولت الشيوعيَة إلى عقيدة لا يُقْبل الجدل فيها مع أنها أم الديالكتيك وأخته

عبد الرزاق دحنون – العربي القديم
ينتبه الوعي البشري إلى تصحيح مسار الدرب التي خطّتها الأقدام في رحلة البحث عن أنجع السبل نحو التفريق بين التفكير المستقيم والتفكير الأعوج. والسؤال: هل يملك البشر ذمام المبادرة لتصحيح المسار، فينتبه الغافل من غفلته ويعود إلى جادة الصواب قبل أن تقع الفأس في الرأس؟
رحم الله ابن الرومي -عليّ بن العباس- المولود في بغداد من أب رومي وأم فارسية عام 836 ميلادية. والقائل: أمامك فانظر أي نهجيك تنهج/ طريقان شتى مستقيم وأعوج. النهج في اللغة: الطريق. وقيل طلب النهج أي الطريق الواضح. ونَهجُ البلاغة: كتاب مشهور جُمعت فيه خطب الإمام عليّ بن أبي طالب ورسائله وأقواله الأخرى. والنهجُ: اسم مجلة فكرية كانت تصدر عن مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي.

من سنوات خلت جادلتُ رفيقاً شيوعيّاً مخضرماً من مدينة إدلب في الشمال السوري، فأكد لي أن النظام في كوريا الشماليّة يسير في نهج الشيوعيَة بنكهة كوريَة. وقد أسس لهذه النهج الرفيق كيم إيل سونغ وعائلته الابن الرفيق كيم جون إيل ومن ثمَّ الحفيد الحالي الرفيق العظيم كيم جون أون والناس تعيش في ظلِّ الشيوعيّة أفضل بأشواط مما يعيش الناس في ظل النظام الرأسمالي المتوحش في كوريا الجنوبيَة.
قلتُ: ع بتحكي عن جد يا رفيق؟
قال: عن جد، وبكلّ تأكيد، عموم الأحزاب الشيوعيّة لها علاقات طيّبة مع جمهوريّة كوريا الديمقراطيَة الشعبيّة، هي تسير في النهج المعادي للإمبرياليّة والرأسماليَة المتوحشة وتبني الشيوعيّة.
قلتُ: يعيش الناس في كوريا الجنوبيَة حياة أفضل بأشواط من حياة الناس في كوريا الشماليَة. ولا مقارنة بين الشطرين، الفروقات هائلة، تكاد تكون جنة ونار. ودليلي: أصدقاء لي عمّال من حارتنا في مدينة إدلب يعملون في كوريا الجنوبيّة في ميكانيك السيارات من سنوات وحياتهم جيدة هُناك.
قال: أنت شيوعي وتقول ذلك، خاطرك، نلتقي فيما بعد. كأن أفعى لدغته، استأذن، وانصرف، رحل على عجل، وهذا وجه الضيف، لم أره بعدها مطلقًا فقد أخرجني ببساطة من جنته الشيوعيّة. وفي المثل الدارج: نحصد ما نزرع. فأنت لن تحصد قمحًا إذا زرعت شعيرًا. ولن تحصد سلامًا إن زرعت إرهابًا. ولن تحصد ديمقراطية إن زرعت استبدادًا. ولكن هيهات أن يُرضيه هذا الكلام.
أنا لا أفهم الأمر، هل تحولت الشيوعيَة إلى عقيدة لا يُقْبل الجدل فيها مع أنها أم الديالكتيك وأخته. وهذا يُخالف أبسط مبادئ الشيوعيَة التي حكى عنها فريدريك أنجلز في كُتيب من بضع صفحات عنونه (مبادئ الشيوعيّة) كان نواة كتاب (البيان الشيوعي) الصادر في لندن شتاء عام 1848. وفي ظني العقيدة والشيوعيّة ضدان، خطان متوازيان لا يلتقيان.
يؤكد الباحث العراقي الجليل هادي العلوي البغدادي: (العقيدة هي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي. والعقيدة هي المسؤولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حريّة الضمير والوجدان. وهي وإن كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تاريخيّ معين، يجب أن تبقى في منأى عن النضال اليوميّ لئلا تكون كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء).
في حادثة حقيقية رواها الرفيق الشيوعيّ الجسور أعلاه، تُجسد العقيدة بأبشع صورها، وكان يراها مثالاً فذاً لصلابته وبطولته وتفانيه في خدمة حزبه ونهجه. يقول: كانت الأيام بردًا زمهريرًا، وكنتُ أسكن مع زوجتي في بيت على قدِّ الحال في حي الناعورة في مدينة إدلب، يتألف من غرفة واحدة وشبه مطبخ وحمام. وفي مساء ذلك اليوم أوقدنا المدفأة بالمازوت وجلسنا نشرب الشاي. بعد قليل سمعت طرقاً على شباك الغرفة الوحيد وصوت نداء أحد الرفاق في الشارع، فتحت النافذة فإذا أربعة رفاق من الخلية الحزبية التي أنتمي إليها قد نقلوا اجتماعهم الحزبي إلى بيتي لضرورات أمنيّة. أغلقتُ النافذة وقلت لزوجتي أين سأضعك الآن؟ بعد مشاورات رضيت أن تدخل في خزانة الثياب وتنتظر هُناك إلى حين انتهاء اجتماع الخليَة الحزبيَة السريّ حول المدفأة. وفعلاً بقيت محبوسة في خزانة الثياب في حدود ثلاث ساعات دون حركة ولا صوت، هذا هو الشيوعيّ الحقيقيّ الذي يُضحي في سبيل عقيدته. قلتُ في سري -طبعًا- الله لا يعطيك العافية على هذا السلوك المشين.
رويتُ هذه الحكاية للأديب الساخر حسيب كيالي حين زرته صيف عام 1992 في دبي -كان محسوبًا على الحزب الشيوعي وسجن أيام الوحدة بين سورية ومصر- فقال بعد أن ضحك كثيرًا- أضحك الله سنكم-: والله لو كنت مكان تلك المرأة المسكينة لأخرجت الخيزرانة من خلف الخزانة وبدأتُ ضرب هؤلاء الرفاق بما فيهم الزوج ولحقت بهم وهم يصرخون ويركضون أمامي ولا أتركهم حتى حدود تركيا.