الاعتقال النفسي بين سجن الأوطان وسجن الإنسان: هل هو مجرد جدران وقضبان؟
في الزنازين المظلمة لا تكون الجدران هي الحاجز الحقيقي بل الأفكار السوداء، الأسئلة التي لا إجابة لها: "ماذا سيحدث؟"، "هل سأخرج يوماً؟"
براء الجمعة * – العربي القديم
عندما نتحدث عن الاعتقال، تنحصر أذهاننا سريعاً بالزنازين الباردة المرعبة، الجدران المعتمة، والقضبان التي تفصل المعتقل عن العالم. لكن هل الاعتقال يقتصر على ما هو ملموس؟ هل الاعتقال هو فقط ذلك القيد الحديدي الذي يلتف حول المعصم، أم أن هناك اعتقالاً آخر، أشد قسوة وأعمق ألماً، يطال الروح والفكر قبل الجسد؟
في أرض مزقتها النزاعات والأزمات والمعاناة، لا يقتصر الاعتقال على الأفراد فقط. الأوطان نفسها قد تُعتقل، وقد تصبح الحريّة، بمعناها النفسي والفكري، حلماً مؤجلاً لا يتحقق. في هذا السياق، يصبح مفهوم “الاعتقال النفسي” أداة لفهم أوسع لحالة الإنسان، سواء كان فرداً يعاني خلف قضبان ظاهرة أو مخفية أو مجتمعاً يُكبّل بقيود خفيّة.
الاعتقال المزدوج: الجسد والروح
الاعتقال الجسدي تجربة مباشرة، محسوسة، تُفرض فيها القيود على حرية الحركة، ويُجبر الإنسان على البقاء في مكان واحد، تحت مراقبة دائمة. لكنه، رغم قسوته، قد يكون أحياناً أقل وقعاً من الاعتقال النفسي. الاعتقال النفسي يتسلل بصمت، يزرع الخوف والقلق في أغوار الروح، حتى تتحول القيود إلى جزء من الذات.
المعتقل النفسي يَعيش في حالة من الترقب المستمر، وكأنما الزمن قد توقف عند لحظة بعينها. في الزنازين المظلمة، لا تكون الجدران هي الحاجز الحقيقي؛ بل الأفكار السوداء، الأسئلة التي لا إجابة لها: “ماذا سيحدث؟”، “هل سأخرج يوماً؟”، “هل ما زلت موجوداً في ذاكرة من أحب؟”. هذه التساؤلات ليست مجرد كلمات عابرة؛ إنها جدران معنوية تحاصر العقل وتغلق أمامه أبواب الأمل.
لكن الاعتقال النفسي لا ينحصر داخل السجون. إنه تجربة يمكن أن يعيشها الإنسان في حياته اليومية، خارج الزنزانة. فكم من إنسان يعيش في ظاهره حراً، لكنه مُكبّل بالخوف من المجهول، بالخجل من ذاته، أو بقيود اجتماعية لا تُرى بالعين، لكنها ثقيلة كالصخر.
الأوطان بين القيود الظاهرة والخفية
تماماً كما يُعتقل الأفراد، يمكن للأوطان أن تُعتقل. حين تُخنق الأصوات الحرة، وحين يُفرض الصمت على الفكر، يُصبح الوطن سجناً واسعاً بلا جدران. اعتقال الأوطان ليس حادثةً تقع فجأة؛ إنه عملية تدريجية تُسلب فيها الروح الوطنية، وتُقيد المجتمعات من قدرتها على الحلم.
الوطن المعتقل هو ذلك المكان الذي تصبح فيه الحرية مجرد وهم. تُقمع فيه الأحلام قبل أن تولد، ويُجبر الإنسان على التعايش مع قوالب جاهزة من الفكر والسلوك. في هذا الاعتقال، تتحول العلاقات الاجتماعية إلى واجهات زائفة، ويصبح الأمل شجرةً تُقطع جذورها تدريجياً.
ما يميز هذا النوع من الاعتقال أنه لا يعتمد على القضبان الحديدية، بل على القيود النفسية التي يزرعها في عقول الأفراد. إنه اعتقال يصعب كسره، لأنه يجعل من المعتقل ذاته حارساً على سجنه. الخوف، الإحساس بالعجز، والقبول بالأمر الواقع، كلها أدوات تُستخدم لتثبيت هذا الاعتقال في نفوس الأوطان وأبنائها.
من الحرية الفردية إلى الحرية الجماعية
إذا كان الإنسان حراً، هل يكون وطنه حراً بالضرورة؟ أو إذا كان الوطن حراً، هل يعني ذلك أن أفراده يعيشون الحرية الكاملة؟ الحرية الفردية والجماعية ليستا وجهين لعملة واحدة بالضرورة، بل هما حالتان متكاملتان. فحرية الفرد تتأثر بمحيطه الاجتماعي والسياسي، وحرية المجتمع تُبنى على قدرة أفراده على التعبير عن أنفسهم دون خوف.
في الأوطان المعتقلة، حتى الأحلام تصبح مقيدة. كل محاولة للتفكير / الرأي الحر أو الإبداع تُقابل بعقبات لا حصر لها. وفي ظل هذه الظروف، يتحول الخيال إلى ملاذ وحيد. الخيال هو النافذة التي يمكن للإنسان من خلالها أن يرى عالماً مختلفاً، ويعيش لحظات من الحرية الحقيقية، حتى لو كانت داخل ذهنه فقط.
ما بين الذاكرة والأمل
الاعتقال النفسي ليس حالة نهائية؛ بل هو دائرة مغلقة يمكن كسرها. تبدأ الخطوة الأولى في التحرر من هذا الاعتقال بامتلاك الشجاعة لمواجهة الذات والواقع. الوعي بالمشكلة هو نصف الحل، والقدرة على تخيل مستقبل أفضل هي الخطوة الأخرى.
لكن التحرر ليس عملية فردية فقط. إنه فعل جماعي يتطلب دعماً متكاملاً. الأوطان التي تُسجن نفسياً تحتاج إلى أفراد يؤمنون بالتغيير، يؤمنون بأن الحلم ممكن، وأن الحرية ليست مجرد شعار، بل ممارسة يومية.
إن ذاكرة الأوطان المعتقلة مليئة بالآلام، لكنها أيضاً مليئة بأمثلة على الشجاعة والسعي. هذه الذاكرة يمكن أن تكون أساساً لبناء أمل جديد. الأمل ليس مجرد شعور عابر؛ إنه فعل دؤوب، قوة تُعيد تشكيل الواقع وتُحول الألم إلى حافز للتغيير.
التحرر كفعل نفسي وفكري
التحرر النفسي ليس مجرد تحرير الجسد من القضبان، بل هو تحرير العقل من الخوف، تحرير الروح من الاستسلام، وتحرير المجتمع من الصمت. يبدأ التحرر بتفكيك القيود التي نزرعها في عقولنا وقلوبنا، تلك القيود التي تجعلنا نعتقد أن السجن قدرٌ لا مفر منه.
الأوطان لا تتحرر فقط بالثورات أو التغيير السياسي، بل تتحرر أيضاً حين يُصبح الإنسان قادراً على التفكير بحرية، حين يُصبح الإبداع جزءاً من الحياة اليومية، وحين يُصبح الحلم بالمستقبل أفضل قوة دافعة للتغيير.
السجن ليس قدراً
السجن الحقيقي ليس في القضبان التي تُحيط بنا، بل في القيود التي نقبل بوجودها في أذهاننا. والحرية الحقيقية ليست مجرد كسر هذه القيود، بل في القدرة على بناء حياة مليئة بالمعنى.
إن الاعتقال، سواء كان جسدياً أو نفسياً، ليس نهاية الحكاية. إنه جزء من مسيرة الإنسان نحو فهم أعمق للحرية، ونحو بناء أوطان تُحتضن فيها الأحلام لا تُقيّد، وتُقدّر فيها الإنسانية لا تُحتقَر. في النهاية، الحرية تبدأ من صرخات داخلنا، والاعتقال ينتهي حين نقرر أن تكون الأوطان دولة الانسان
_____________________________________________
*مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي