السوري بين أعباء القيم وركام الخذلان: حكاية الإرهاق الأخلاقي
براء الجُمعَة * – العربي القديم
حين تُثقل الكوارث كاهل المجتمعات، تتجاوز الأزمات حدود الألم الجسدي والمادي لتغوص في أعماق النفس البشرية، فتُشكّل معاناة تتحدى القيم الأخلاقية للفرد والمجتمع. في السياق السوري لا تقتصر الحالة على النزوح، الفقر، والدمار؛ بل تبرز في شكل أعمق وأكثر تعقيداً: الإرهاق الأخلاقي. إنه الشعور بالعجز أمام معاناة لا تنتهي، والمواجهة اليومية لقرارات تتناقض مع المبادئ الإنسانية في سبيل البقاء.
ما هو الإرهاق الأخلاقي؟
الإرهاق الأخلاقي هو حالة نفسية مرهقة تنبع من التوتر بين ما يؤمن به الفرد من قيم أخلاقية وما يُجبره الواقع على فعله أو قبوله. في الوضع السوري يتحول هذا المفهوم إلى تجربة جماعية تتغلغل في مختلف طبقات المجتمع، إذ يجد الفرد نفسه تائهاً بين طموحات أخلاقية عادلة ومتطلبات واقعية تفرض عليه التنازل عن تلك المبادئ أو تبرير انتهاكها.
حين يفرض الواقع خيارات قاسية
منذ بداية الثورة السورية، أجبرت الظروف القاسية الأفراد على اتخاذ قرارات لا تخلو من صراعات نفسية مؤلمة.
– الهجرة والتخلي عن الجذور: الأسر التي اضطرت للنزوح عن مدنها وقراها تركت وراءها ذكرياتها و كل ما يعكس هويتها الثقافية والاجتماعية، في محاولة لتأمين مستقبل أبنائها.
– القبول بأعمال قسرية: في سوق عمل يعاني من الانهيار، يُجبر الشباب على العمل في ظروف تستنزف كرامتهم، دون أن يملكوا حق الاختيار.
– الصمت على الظلم: يجد كثيرون أنفسهم عاجزين عن مواجهة الانتهاكات خوفاً على حياتهم أو حياة أحبائهم، ما يخلق شعوراً عميقاً بالذنب والخذلان للذات.
الخذلان: الوجه الآخر للإرهاق الأخلاقي
الخذلان المتكرر من المجتمع الدولي، والجهات التي كان يُفترض أن تُقدّم الدعم، عمّق من وطأة هذا الإرهاق.
– خذلان دولي: الوعود البراقة والمساعدات غير الكافية زادت من شعور السوريين بأنهم مُجرد أرقام في تقارير دولية.
– خذلان مجتمعي: انهيار أنظمة الدعم التقليدية داخل المجتمعات السورية، سواء بسبب النزوح أو الفقر، أدى إلى تفكك الروابط الاجتماعية وترك الأفراد لمواجهة أزماتهم وحدهم.
الصراع النفسي بين القيم والواقع
الإرهاق الأخلاقي لدى الإنسان السوري ليس مجرد نتيجة للمعاناة فقط، بل هو انعكاس للصراعات الداخلية التي تشتعل بين الأبعاد الأخلاقية والواقعية.
– الشعور بالذنب: الأب الذي يختار إطعام أبنائه على حساب الجار الجائع، أو الأم التي تُسكت أطفالها عن البكاء في مخيم بارد خشية إثارة غضب الآخرين.
– الأخلاق كسلاح للضغط: أحيانًا تتحول القيم الأخلاقية إلى أدوات للضغط النفسي، حيث يُتوقع من الأفراد الالتزام بمسؤوليات أخلاقية قد تفوق طاقتهم، مما يضاعف إحساسهم بالإرهاق.
وجه الإنسان السوري في مرآة الإرهاق الأخلاقي
رغم كل المعاناة، يظل الإنسان السوري يقدم نموذجاً في الحياة والاستمرارية.
– الإبداع في مواجهة المحنة: ابتكار حلول لمواجهة الأزمات، مثل مشاريع صغيرة كريمة في المجتمعات أو التعليم البديل، يُظهر كيف يحاول السوري التمسك بكرامته حتى في أحلك الظروف.
– إعادة بناء الذات: ورغم النزوح والقهر الكبير، يسعى السوريون للحفاظ على هويتهم من خلال إعادة إحياء تقاليدهم وعاداتهم الثقافية والاجتماعية، مما يعكس إرادة قوية في الحفاظ على توازنهم النفسي رغم قسوة الظروف.
هل من أمل؟
الإرهاق الأخلاقي ليس نهاية الطريق؛ بل يمكن أن يكون بداية لتحولات حيوية إذا ما تم الاعتراف به والعمل على تخفيف أسبابه.
– دعم نفسي ومجتمعي: يجب أن تركز الجهود على توفير مساحات للتعبير عن المشاعر، وتقديم الدعم النفسي للمتضررين.
– تعزيز القيم الإنسانية: بدلاً من أن تكون القيم الأخلاقية عبئاً إضافياً، يمكن تحويلها إلى أدوات للحياة والتعافي، من خلال تعزيز قيم التراحم والمساندة، والاعتراف بإنسانية كل فرد دون ضغط أو تحميل زائد للمسؤوليات.
– إعادة بناء الثقة: المجتمع السوري يحتاج إلى استعادة ثقته بنفسه وبالعالم من حوله، عبر مبادرات ملائمة تعبر عن الحاجات الحقيقية للانسان السوري تُعيد الأمل في القدرة على التغيير والبناء.
الإرهاق الأخلاقي هو أحد الأبعاد النفسية العميقة التي تكشف عن الصراع الداخلي بين المبادئ الإنسانية والواقع القاسي، وهو ليس مجرد انعكاس لمعاناة الانسان السوري فحسب، بل نتيجة مباشرة للضغوط المتراكمة على الفرد والمجتمع. مع أن هذا الإرهاق يعكس معاناة عميقة قد تبدو مستعصية، فإنه يحمل في طياته إمكانات للتغيير والنمو إذا تم التعامل معه بطريقة صحيحة.
الاعتراف بتجربة الإرهاق الأخلاقي وفهم أبعاده يعد خطوة أساسية نحو تعزيز التعافي النفسي والمجتمعي. عبر تقديم الدعم النفسي المناسب، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، وإعادة تعريف وتعزيز القيم الأخلاقية بما يتناسب مع الواقع، يمكن للسوريين استعادة قدرتهم على التوازن والتعاون.
ليس الإرهاق الأخلاقي نهاية مأساوية، بل يمكن أن يكون نقطة انطلاق نحو إعادة بناء علاقة متجددة مع الذات والمجتمع. في ظل هذا الإرهاق تبرز إنسانية السوريين وقدرتهم على تجاوز المحن، ليصبحوا نموذجاً لصمود الإنسان أمام أسوأ الظروف، ورسالة للعالم بأن المعاناة ليست نهاية الطريق، بل قد تكون بداية لإعادة بناء الروح وحياة أكثر عدلاً ورحمة.
______________________________
* مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي