الدولة بوصفها مصيراً: الحرب كأفق سياسيّ في فكر شبنغلر
لا يتعامل شبينغلر مع السياسة كفنّ للخداع، بل كـ ممارسة وجودية للقتل المشروع. السياسة لا تُمارَس من أجل النصر، بل من أجل الوفاء للروح التاريخية

محمد صبّاح – العربي القديم
«تُمثّل السياسة البُعد الأسمى والأكثر قوّةً لكلّ وجودٍ تاريخيّ… إنّ الدول لا توجد إلا من أجل الحرب، ولا غاية لها سوى الحرب» أوزفالد شبنغلر، الپروسية والاشتراكية، §17
حين يكتب الفيلسوف الألماني أوسفاد شبنغلر بهذا الوضوح الدموي، لا يُقدّم أطروحة سياسية بل يُفجّر قَدَراً وجودياً. الدولة، في نظره، ليست آلةَ حكمٍ ولا تعاقداً عقلانياً، بل وحدة مصير مسلّحة لا تثبت في التاريخ إلا بشرط استعدادها الأبديّ للقتل. إنّه يتحدّث عن الدولة لا كمؤسسة، بل كـ تجلٍّ عنيف للروح التاريخية. وهنا، تتقاطع لغته مع كارل شميت، كما تستدعي شبح ميكافيلي، وتستلهم رمزية إسبرطة ضد أثينا، لا بوصفهما مدينتين، بل نمطين أنطولوجيّين للوجود السياسي.
الدولة والسيادة الدموية: تواطؤ شبنغلر مع كارل شميت
يشترك شبنغلر مع شميت في رفض الأسطورة الليبرالية للدولة كحياد قانونيّ أو كضامن لسلام اجتماعيّ. السياسة، عند كليهما، ليست إدارة بل حكمٌ على الحياة والموت. لكن بينما يجعل شميت القرار السياديّ هو لحظة ظهور السياسي، فإنّ شبنغلر يُجرّده من طابعه القانوني ويُعيده إلى شروط العنف البدئي: الدولة لا تُقرّر، بل تُقاتل. القرار لا معنى له ما لم يكن قابلاً للحمل على السلاح.
إذا كانت السياسة عند شميت تفترض صديقاً وعدواً ، فهي عند شبنغلر تفترض جثثاً فوق تراب التاريخ. السياسة ليست تفريقاً بين الذوات، بل اختبارٌ لمقدار ما تستطيع الجماعة أن تنزفه لتبقى.
السياسة بين المكر والدم: شبنغلر يتجاوز ميكافيلي
ميكافيلي هو الفاتح العلماني للسياسة. لقد أخرج الأمير من سماء اللاهوت إلى جغرافيا الخديعة والدهاء. لكنه، رغم ذلك، لم يقطع تماماً مع الاحتراس الأخلاقي. السياسة عنده تظل لعبة حدودها النجاح، لا الخلاص.
أما شبنغلر، فلا يراوغ. لا يتعامل مع السياسة كفنّ للخداع، بل كـ ممارسة وجودية للقتل المشروع. السياسة لا تُمارَس من أجل النصر، بل من أجل الوفاء للروح التاريخية. الأمير عند ميكافيلي يحتال كي يبقى، أما عند شبنغلر، فهو يُستدعى كي يموت صامداً إن لزم الأمر.
الميكافيليانيّ يريد الحفاظ على السلطة. أمّا شبنغلر، فيفكّر في السلطة كمجرّد عرض جانبيّ لحرب جوهرية. السلطة لا تُحفظ بالحيلة، بل تُفدى بالدم. ولذلك، لا يكون الحاكم عاقلاً، بل مقدّساً بالعنف.
بين العضلات والكلمات: إسبرطة ضد أثينا كرمزية وجودية للدولة
الدولة كما يُعيد شبنغلر تشكيلها، تُشبه إسبرطة: ليست كياناً قانونياً بل نظاماً تربوياً عسكرياً طويل الأمد. إنها جماعة لا تُنتج إلا الجاهزية للقتال، حيث لا يُوجد فرد، بل مقاتل مؤقّت.
إسبرطة لا تفكّر، بل تُنفّذ. لا تُجادل، بل تُموت واقفة. إنها مضادة لفكر أثينا، لأنّها لا تُؤمن بالحوار، بل بالحدّ القاطع للسيف.
أثينا، بالمقابل، راهنت على الكلمة، على السوق، على المسرح، على الشكّ بوصفه تمريناً مدنياً. لكن أثينا شبنغلر ليست مدينة، بل انحراف حضاريّ. إنها رمز لتراخي القوّة وتآكل الرغبة في الموت من أجل شيء. ولذلك، يضعها في سلة واحدة مع الصين والهند و «العالم الكلاسيكي في قرونه الأخيرة» ، حيث يتقاعد الإنسان من البطولة، ويُسلّم نفسه إلى ميتافيزيقا الانسحاب.
لا يُقارن شبنغلر إسبرطة بأثينا فحسب، بل يُقارن الوجود العضلي للإنسان بالوجود المتكلّم. الدولة، إذا لم تُدرَّب على القتال، فستتحوّل إلى وسيط سلبيّ في حروب غيرها، تموت دون أن تعرف لماذا.
الدولة كجهاز وجوديّ للموت المشروع: لا عدل، لا أخلاق، لا خلاص
في هذا المنظور، لا توجد الدولة من أجل القيم _ لا عدالة، لا حرية، لا حتى أمن. إنّها توجد لكي تُعلن عن الاستمرار في وجه الفناء. كل فكرة لا تُمتحَن بالسلاح، لا تصلح أن تُؤسّس دولة. ولهذا السبب، تكون الحرب عند شبنغلر ليست طارئة، بل مكوّناً وجودياً دائماً. ليست خللاً في النظام، بل قلب النظام نفسه.
لا توجد سياسة من دون دم، ولا دولة من دون استعداد دائم لارتكاب القتل باسم البقاء. الإنسان الذي لا يعرف كيف يموت من أجل فكرته، لا يستحقّ أن يكون مواطناً. والمجتمع الذي يرفض الحرب، لا يبقى حياً، بل يُستعمل بوصفه ساحةً لحروب الآخرين.
نحو تأويل فلسفيّ مضاد: هل يمكن التفكير في الدولة بعد الحرب؟
يطرح نصّ شبنغلر أمامنا سؤالاً مرعباً بقدر ما هو واضح: هل الدولة هي فقط آلة للموت؟ هل وجودها في ذاته إعلان استباقيّ عن حرب قادمة؟
في غياب مشروع أخلاقيّ بديل، يبدو شبنغلر صريحًا بشكل قاتل: ما من فكرة تستحق الحياة، إلا إذا استطاعت أن تموت من أجلها.
لكنه يترك لنا جرحاً فلسفياً لا يندمل:
هل الفكر الذي لا يتحوّل إلى سيف، هو فكرٌ باطل؟
وهل السياسة التي لا تُعلن حرباً، تستحق أن تُسمّى سياسة؟
وربما يكون هذا هو جوهر الاختلاف بين إسبرطة وأثينا، لا كمكانين، بل كـ نمطيْن متعارضيْن للتاريخ: إسبرطة، بوصفها آلة للوجود القتالي. وأثينا، كتمرينٍ مرهق على أن لا يكون القتل هو الجواب الوحيد.
خاتمة: الدولة بوصفها سلاحاً، أو زوالاً أنيقاً
ما الذي يُعلّمنا إياه شبنغلر؟ لا شيء يُرادف خطر ما يقوله، ولا شيء يُعادل وضوحه. إنّنا لا نعيش داخل الدول، بل داخل احتمالات القتل الذي يمكن أن تُمارسه تلك الدول باسمنا. وإنّ أسمى وظيفة للدولة ليست أن تُحسن توزيع الثروة أو حماية الحقوق، بل أن تُجيد حمل السلاح ساعة الفناء. الدولة التي تتوقّف عن الاستعداد للحرب، لا تنجو من الحرب، بل تُمحى منها.
السياسة لا تُمارَس بالكلمات، بل تُؤسَّس بالدم. كلُّ كلام لا يحتمل أن يصير جسداً على جبهة، هو ترف أخلاقيّ لا يصلح لبناء مصير. ولذلك، تبدو الدولة في فكر شبنغلر لا ككيان حقوقيّ، بل كـ كائن أنطولوجيّ مقاتل، لا معنى له خارج الحرب.
ومن هنا، فإنّ الدولة، في آخر التحليل، ليست أداة للسلم، بل سلاحاً مؤجلًا. وإنّ السؤال الفلسفيّ الأكثر قسوة اليوم ليس: « كيف نحكم؟ » بل: «من هو القادر على القتال؟» . أمّا الذين يبحثون عن خلاص من الحرب، فعليهم أن يسألوا أنفسهم أولاً :
هل يليقُ بكم أن تبقوا أحياء؟
__________________________
*كاتب فلسطيني