سلطان
د. يحيى العريضي – العربي القديم
عندما أتى إلى الحياة في بدايات نيسان عام ١٨٨٨، أراد والده “ذوقان طلال إسماعيل الأطرش”، أن يسمّيه “علي”، وهو اسم أخيه الأكبر المتوفى، إلّا أن “حسن مليح”، أحد أصدقاء والده، قال: “من بعد خاطرك، يا ذوقان سنسميه سلطان”، فردّ ذوقان: “هذه كبيرة علينا، يا حسن!”، فقال حسن مليح: “أبداً، ليست كبيرة، وسيكون سلطان زمانه، بعون الله”. تعكس عبارة/هذه كبيرة علينا، يا حسن/ثقافة تميل إلى التواضع في مجتمع، يقدّم الفرد نفسه بالقول: “العبد لله،….”، أو “الفقير لله ….”، فأي صفات جسّدها سلطان بحملِه لهذا الاسم؟ أهي التسلُّط – كما بعض إيحاءات ودلالة اللقب – أم الخصال الوطنية والصدق والروحانية والزهد؟ لم يكن سلطان الفرد، أو المذهب، أو العشيرة، أو المنطقة، بل سلطان القيم المجتمعية الرفيعة. كان سلطان الوفيّ لقيم الأب الشهيد، واسماً حمل مناقبيات، صَنَعت متمرداً على الواقع.
لقد كانت البداية بدمعة حَارّة على خد شاب فارس ثائر على الاستبداد بالفطرة، عندما تلقّى سلطان خبر إعدام الاحتلال العثماني لوالده، قبل أيام من / 6 أيار عام 1916 / إذ أعدم العثمانيون ستة ثوار من جبل العرب. كان ذلك بعد معركة اشترك فيها سلطان بقيادة أبيه، ذوقان عام ١٩١٠، ضد حملة سامي باشا الفاروقي، رمز الظلم والاستبداد والاحتلال.
كان انطلاق الثورة العربية الكبرى عام ١٩١١ الحدث الذي أجّج الروح المتمردة، داخل سلطان الثائر الشاب، ليجد ذاته، فكان ورفاقه طليعة الجيش العربي الذي كان أول مَن رفع العلم العربي في سماء دمشق عام ١٩١٨. وقتها، أنشد ربع سلطان: (وسّعوا المرجة، لتلعب خيلنا)، ليتبعها استفزاز الفرنسيين للقيم المعروفية، باعتقال أدهم خنجر اللبناني من جبل عامل، الذي كان متوجهاً للاستجارة بسلطان، بعد محاولته اغتيال “غورو”. ردَّ سلطان باعتقال ضباط فرنسيين، وكان ردّهم بقصف داره، وليعلّق بالقول: “الدار التي لا تحمي دخيلها، غير مأسوف عليها”.
أرسل الفرنسيون إلى الجبل الكابتن “كاربييه”، الحاكم العسكري الجلف، والذي حاول تطبيق سياسة المحتل بالعنف، متجاهلاً أنَفة هذا الشعب وعزّة نفسه. نشر كاربييه جواسيسه بين الناس، وافتعل الفِتَن والمشاكل. بدأ الشعب بالتململ، وبدأت تباشير الثورة وإرهاصاتها تلوح في الأفق، حيث أضحى الشعب بين داعية للثورة ضد الظلم، وبين مُخذِّل للناس خوفاً على مصالحه، ولكنّ أمواج الثورة جرفت معها الجميع، لتكتب ملحمةً وطنيةً في الشجاعة، ورفض الظلم والاستبداد.
انطلقت تباشير الثورة، أربك سلطان الفرنسيين، وأحرج المتخاذلين. بدّل الفرنسيون كذا حاكماً، ومندوباً ومفوّضاً. أغروا سلطان وهدّدوه، وحكموه بالإعدام، فقرّر وصحبه أن تكون ثورة الجبل شعلة لا تنطفىء.
بدأت الصحف الأجنبية تتحدّث عمّن يقاوم أعتى جيش خاض الحرب العالمية الأولى. زجّ الفرنسيون بثلاثة عشر ألف مقاتل في “معركة المزرعة” في ٢ و ٣ آب ١٩٢٥، التي هزم الثوار فيها الآلاف شر هزيمة، فكانت عِبرَة لِمَن يعتبر. نجا “ميشو” قائدها بأعجوبة، وقتها تساءل البرلمان الفرنسي: “مَن هؤلاء!؟“. لاحقاً، وللتأريخ، سأل صحفي ألماني سلطان: “مِن أين كنتم تأتون بأسلحتكم؟“، فأجاب: “إضافة لأرواحنا، وللعمائم لسد أفواه مدافعهم، وللعصي، والبلطات، والسيوف، والبواريد القديمة، كان سلاحنا بيد عدونا، فكنا نقاتل بما نغنمه منهم”، ليصحَّ القول بأنهم كانوا يواجهون المخرز بالعين.
في ٢١-آب- ١٩٢٥، وبحضور الشخصية الوطنية الكبيرة، الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، وقامات وطنية سورية ولبنانية، لم يكن حاضراً سلطان المذهب أو العشيرة أو المنطقة، بل كان سلطان التشاركية بالأفكار والممارسات الوطنية، وسلطان القول السائد في تلك الثقافة: “الرأي الصالح متبوع”. لقد حضرت التشاركية بين ثقافة الشهبندر المعمّقة، وثورية وقيم سلطان وروحه المتمردة، (وفي هذا مبحث طويل يستحق شرحاً للعلاقة الخاصة بين الرجلين). في ذلك الاجتماع ببلدة “ريمة الفخور” غرب السويداء، أرادوها ثورةً سوريةً عامة، فكانت (الثورة السورية الكبرى)، وكان بيان سلطان، قائد الثورة “إلى السلاح”، ومنه نقتبس:
-“فلننهض من رقادنا، ولنبدد ظلام التحكم الأجنبي عن سماء بلادنا.
-“لا يضيع حق وراءه مطالب، والحق يؤخذ ولا يعطى، ولنطلب الموت توهب لنا الحياة، وأن إرادة الشعب من إرادة الله”. وفي البيان تم تحديد المطالب بقيام دولة واحدة سيّدة مستقلة بقانون وجيش يصون حدودها.
كان شعار الثورة (الدين لله، والوطن للجميع)، فالوحدة الوطنية الحقيقية مع التنوع السوري الغني أساس للحفاظ على سوريا وهويتها، والدين جامع يقوّيها. من هنا، وجّهت شعبية الثورة ومدنيتها وطبيعتها صفعة كبيرة لفرنسا كأمّ وأب للحرية ولحقوق الإنسان، كما في دستورها. ومن هنا كان ذلك الشعار نهجاً في حياة الثورة، حتى في حياة سلطان كان نهجاً، فهو الذي أصرّ مثلاً أن تكون الكنيسة، التي أراد مسيحيو بلدة القريّا بناءها كبيرة، لتتسع لكل الطوائف في الأفراح والأتراح.
عمّت الثورة السورية الكبرى كل الديار السورية، ووصلت حتى إلى حاصبيا، وراشيا، وبعلبك، ووجدت صداها شرقاً وغرباً وفي القارات. كان اشتعال الثورة في كل مكان قد خفف قليلاً على سلطان ورَبعه، إلا أن الفرنسيين ركّزوا على الجذوة. كان عدد الشهداء كبيراً، والدمار في كل مكان، وأحكام الإعدام تلاحق الثوار. كان الانسحاب إلى الشمال الأردني، وهناك بدأ الضغط الإنكليزي عليهم، واشترطوا نزع سلاحهم، فلجؤوا إلى “وادي السرحان”، بعد أن أراد الإنكليز لهم أن يقيموا في “الجوف”، إلا أنهم بقوا في وادي السرحان، لقربها من سوريا، لمتابعة الثورة، واستمر ذلك حتى ١٩٣٢.
ما أشبه الأمس باليوم!
لقد كان انسحاب الثوار نحو مناطق الإنكليز في شرق الأردن، وكأن هناك مَن يريد أن يلعب على التناقضات بين لندن، وباريس، علماً أنهما معاً قد رسما “سايكس-بيكو” متضامنين، وهنا المفارقة، فكيف كان ممكناً استثمار التناقض بين محتل و آخر؟! وهنا نقول بأن الثوار رسموا الحدَّ في ذاك الزمن، فعندما كان الضغط عليهم للذهاب إلى العراق أو منطقة الجوف، اختاروا الذهاب عميقاً في الصحراء إلى “وادي السرحان”، وهو ملجأ كل عربي بعيداً عن أي سلطات. فإن تلاقت المصالح مرحلياً، فإنها قد تجيز استثمار التناقضات، على ألّا يتعدى ذلك سلطان القيم الوطنية. لقد تجسّد ذلك بموقف سلطان الأطرش ورفاقه الرافض لمبدأ “الدولة الدرزية”، وتقسيم سوريا، ورفض أي مزايا استثنائية. أخيراً، عاد الثوار من المنفى، بعد توقيع معاهدة بين سوريا الواحدة، وفرنسا عام ستة وثلاثين، ليتم استقبالهم كالفاتحين في دمشق والسويداء.
عاد سلطان ليعمل بأرضه مزارعاً، ليعيش من تعب يمينه وعرق جبينه. زاره يوماً صحفي ألماني، ليتعرّف على ذاك الذي وقف في وجه فرنسا، والذي على الدوام يتحدث عمّن كان معه من المجاهدين لا عن ذاته، فلم يجده في الدار، وقالوا له: تجده بالأرض. أخذوا الصحفي إلى حيث سلطان، وعندما بدأا الحديث – وسلطان يجلس على الأرض – أخرج الصحفي منديلاً ليضعه على الأرض، كي يجلس- فقال له سلطان: “لا تجعل فاصلاً بينك وبين الأرض”. هكذا روت حفيدته، التي سمعت الرواية منه.
أذكر في طفولتي ذاك المشهد؛ سلطان الأطرش وعبد الناصر على شرفة مبنى محافظة السويداء، تلك الشرفة التي جاء زمان ليقف عليها مستبدون، أزهقوا في سني حكمهم وحدة سوريا وسلطانها على ترابها، وكرامة أهلها. بمناسبة زيارة عبد الناصر عام ١٩٥٩، يروي الشاعر صالح عرابي، “إن عبد الناصر، وفي زيارة لإحدى مضافات الجبل، رفض الدخول قبل سلطان قائلاً: إذا كنت أنا رئيس دولة، فأنت قائد ثورة”.
لم يكن ذلك التاريخ الوطني لذلك الرمز، هو الأمر الوحيد المغيظ لحافظ الأسد – الذي اعتبر نفسه “القائد الرمز” الأوحد في تاريخ سوريا – بل كانت عفّة سلطان وترفّعه عن كل مطامع الحياة. ومن هنا كان التحقيق والاعتقال لكل من كان يأتي إلى مسقط رأس سلطان للاحتفال بذكرى ذاك الوطني الحقيقي، والذي ناصَبه حافظ العداء الصامت كل هذه السنين.
أخيراً، لا بد من ذكر بعض ما جاء في وصية سلطان، التي كانت بمثابة ميثاق شرف وطني مستقبلي:
- نهضتُ بأمانة القيادة، وطلبتُ الشهادة، وأديتُ الأمانة. انطلقَتْ الثورة من الجبل الأشمّ، جبل العرب، لتشمل وتعمّ، وكان شعارها: “الدين لله والوطن للجميع”، وأعتقد أنها حققت لكم عزة وفخاراً.
- ولتكن وحدتكم الوطنية، وقوة إيمانكم، وتراصّ صفوفكم هي سبيلكم لردّ كيد الأعداء وطرد الغاصبين وتحرير الأرض.
واليوم، ولعام كامل على حراك السويداء، تعود روح سلطان لتُلْهِمَ شباب وصبايا انتفضوا على احتلال من نوع آخر، إنه استبداد وريث الاحتلال بأحفاد الثوار. سلطان الأطرش لم يكن فرداً؛ لم يكن شخصاً سلطان فحسب، بل تحوّل اسمه إلى مرحلة تاريخية كان فيها الشهبندر، وهنانو، والأشمر، والخراط يفرضون سلطان القيم الوطنية، لا سلطان تسلُّط مستبد. لقد كان لقب سلطان سِمَةً لمرحلة، ما أحوجنا إليها اليوم.
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024