الرأي العام

سوريا بين ضعف السلطة وإرث الأسد

نحن أمام واقع سوري جديد وأمام ثلاثة أطراف في هذا المشهد، السلطة الجديدة، والمعارضة، وقطاعات الشعب.

أسامة المصري – العربي القديم

أربعة وخمسون عاما من حكم الأسد بسلطة قوضت الدولة بكل مؤسساتها، حتى باتت تلك المؤسسات تخضع بشكل مطلق للسلطة وأجهزة مخابراتها على امتداد مساحة سوريا وصولا إلى أصغر قرية. نظام الأسد الأب الذي وضع نصب عينيه تدمير ليس الدولة فحسب بل المجتمع أيضا؛ فأفسد التعليم والقضاء وكل مؤسسات الدولة وإداراتها وصولا إلى الجيش الذي كان يسمى زوراً (الجيش العربي السوري) فهو جيش الأسد.

أما عن الحياة السياسية فقد شكّلها منذ تأسيس ما سمي (الجبهة الوطنية التقدمية)، فهناك أحزاب انضمت إلى جبهة الأسد وأخرى بقيت خارجها لتشكل المعارضة مع أحزاب تشكلت بعد انقلاب الأسد عام 1970، إضافة إلى جماعة الاخوان المسلمين التي لها خصوصيتها رغم انها تشترك مع جميع الأحزاب السورية، داخل الجبهة أو خارجها بوصفها أحزاب شمولية بأيديولوجياتها من الشيوعيين والقوميين والبعثيين بكل تنوعاتهم.

 هناك مقولة شهيرة تقول (إن كل معارضة سياسية هي على شاكلة النظام الحاكم أو الوجه الآخر له)، فالأسد الأب أسس سلطته المبنية على أجهزة المخابرات وقواته الخاصة من حرس جمهوري ووحدات خاصة وسرايا دفاع، وكان حزب البعث ديكورا ووسيلة للولاء والتبعية لنظام (الأسد)، وفرز السوريين بين مؤيد للسلطة أو ضدها، والانتماء للبعث شكل ممرا للحصول على الوظائف، وبيئة خصبة لتجنيد المخبرين بمئات الآلاف طوال حكم الأسدين.

على صعيد تشكيل الوعي السياسي أو الوعي بشكل عام فقد أسس حافظ الأسد منظمة طلائع البعث، وقبلها كان اتحاد شبيبة الثورة وهو بمثابة المنظمة البعثية للشباب، إضافة إلى جهاز إعلامي يتبع للسلطة ومسخر لها كليا من الإذاعة إلى التلفزيون وكذلك الصحف سواء كانت المركزية أو التي تصدر في المحافظات إضافة إلى الأعمال الفنية التي هيمن عليها رجال السلطة وجل ما قدموه كان في خدمة سلطة الأسد.

أما من الناحية الدينية فالأغلبية المسلمة وهم أبناء المدن الكبرى من حلب إلى دمشق وحمص وحماة واللاذقية وطرطوس ودرعا وجبلة، يتبعون مذاهب وسطية، قبل أن يبدأ الأسد في حملته الشرسة لشيطنة هذه الأغلبية عبر جماعة الاخوان المسلمين، ومن ثم إطلاقه لحملة بناء المساجد وتسليمها لرجال الدين السنة الذين يأتمرون بأوامر السلطة وينفذون أجندتها، للعب دور مكمل للمدرسة ومنظمة الطلائع في السيطرة على الأجيال عبر صياغتها كما يريد حافظ الأسد لضمان استمرار سلطته إلى الأبد وهذا ما كان واضحا عشية وفاته.

بالطبع السلطة بكل تجلياتها المخابراتية والعسكرية والمدنية كمجلس الشعب وكذلك المؤسسات الصورية “حزب البعث والجبهة” نظرت لتسلم بشار الأسد للسلطة أمرا طبيعيا بل لم يرَ أحد أن شيئا غير بديهي قد حصل، وبينما كان من المفترض أن ترفض أحزاب المعارضة هذا الانتقال السلس للسلطة كما قالت وباركت وزيرة خارجية أمريكا مادلين أولبرايت، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث على الإطلاق بل أن جميع أحزاب المعارضة تعاملت مع الأمر كأمر واقع، وتطلعت إلى خطاب القسم الذي ألقاه الأسد الصغير، وكان النقاش يدور بين أوساط هذه الأحزاب وقادتها حول ما ورد في هذا الخطاب وإمكانية تحقيقه، في حين أُخذ الكثيرون بذلك الخطاب الرنان متأثرين بالدعاية التي جعلت من معتوه بطلا للتغيير والذي سيقود سوريا إلى المستقبل وينقذها مما فعل أبوه، وأخذت المعارضة وقتا طويلا حتى وصلت إلى إعلان دمشق الذي تشكل من جميع قوى وشخصيات المعارضة التقليدية بعد خمس سنوات من حكم الأسد الابن، والذي انتهى مع أول تهديد لهذه القوى دون أي إنجاز يُذكر لها، بينما جماعة الاخوان المسلمين علقت معارضتها للنظام بذريعة حرب إسرائيل على غزة عام 2009!.

بقايا أحزاب شمولية  

خلاصة القول إن قوى المعارضة التي بمعظمها قوى أو بقايا لأحزاب شمولية استكانت وعادت إلى قواعدها سالمة مع بعض الخسائر باعتقالات طالت عدد من شبابها. وعاد الهدوء وبقي القادة في مواقعهم الحزبية إلى أن انطلقت الثورة عام 2011، لتبدأ مرحة جديدة من تاريخ سوريا، ونشهد نتائج ما فعله الأسد الأب بالمجتمع السوري والدولة السورية، مع الحرب التي شنها الأسد الابن ضد الأكثرية السورية الذي استطاع بالتعاون مع أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية شيطنتها وتصويرها كأحد حواضن الإرهاب حتى أن المثقفين وقادة بقايا الأحزاب الشمولية تبنوا دعاية النظام بربط الإرهاب بالأكثرية، رغم تدمير المدن وتهجير السكان في مشهد لم يشهد له التاريخ مثيلا، في حجم القتل والتدمير للقضاء على الأغلبية وإحداث التغيير الديمغرافي الأخطر، وتراوحت مواقف أحزاب المعارضة بين معارض على مبدأ التقية وآخر يراوح بين المعارضة والنظام فيما انخرطت بعد الشخصيات القيادية إلى جانب النظام ، وباختصار معظم من بقى ضمن مناطق سيطرة النظام صمت أو أيد النظام، وهذا ما بدا جليا مع سقوط النظام حيث انهارت هذه النخب بكاء وحسرة.

ما نشهده اليوم من انقسام أتى نتيجة 54 عاما من حكم الأسد الذي أنشأ أجيالا تنتمي إلى دياناتها وطوائفها وإثنياتها، وليس إلى الوطن السوري فبالنسبة لقطاع كبير من السوريين تماهى كليا مع فكرة سوريا الأسد وإلى الأبد، وهم بذاتهم من رفع شعار (الأسد أو نحرق البلد) وبالفعل فقد أحرقوا البلد ودمروها، فالأسد الأب وابنه أكمل عملية خداع خطيرة باعتبار نفسه حامي الأقليات ليس في سوريا حسب بل في لبنان أيضا، فهل لنا أن نسأل ممن يريد الأسد حماية الأقليات؟ ومن هدد الأقليات، إنها إحدى جرائم الأسد في تفتيت المجتمع السوري، فمنذ الثورة السورية الكبرى 1925 وحتى انقلاب البعث 1963 عاش السوريون في وحدة وطنية قل نظيرها، لكن الأسد الأب ابنه أردوا وضع الأقليات في مواجهة الأكثرية.

ثلاثة أطراف في المشهد

الآن نحن أمام واقع جديد بعد انتصار الشعب السوري، ونحن أمام ثلاثة أطراف في هذا المشهد، السلطة الجديدة، والمعارضة، وقطاعات الشعب.

تسلمت السلطة الجديدة سوريا بلدا مدمرا كليا من قبل النظام الذي كان يعيش على صناعة وتجارة المخدرات، واقتصادا منهكا بلا كهرباء ولا وقود، مؤسسات دولة منهارة كليا بفعل الفساد الذي أسس له حافظ الأسد واستشرى مع الابن، جيش وميليشيات ومخابرات وشرطة ذابت كقفصة ملح في وعاء ماء، ومصرف مركزي فارغ وعملة ورقية ترسلها روسيا كل شهر، ومليون شهيد ومئات آلاف المفقودين ومئات المقابر الجماعية، فيما يوجد جيش من الموظفين العاطلين عن العمل (في دراسة إحصائية أجريت عام 2004 كان الموظف في مؤسسات الدولة يعمل 20 دقيقة فقط من دوام ست ساعات) في عام 2024 كان الموظفون يتقاضون رواتبهم وهم في بيوتهم فيما بعضهم يتقاضى أكثر من راتب دون أن يعمل.

هذا موجز لواقع سوريا عشية سقوط الأسد، حيث ورثت السلطة الجديدة، إضافة إلى ما تقدمت به، هناك عقوبات دولية، وأمن منفلت بفعل انتشار السلاح بين المجموعات التي خلّفها النظام، وعصابات تعبث بأرواح الناس من القتل والخطف وتجارة المخدرات والتهريب، يشارك فيها جميع ممثلي نظام الأسد من الضابط إلى القاضي إلى المحامي إلى اللص ورجل الأعمال، وجميعها كانت تحت مظلة أجهزة مخابرات الأسد وهي التي تضبط إيقاع عملياتها ومهامها ليس بعد عام 2011 بل قبل ذلك بكثير، لكن الوضع تفاقم مع الحرب وبات السيطرة عليه أمرا صعبا، يلزمه حملات تطهير واسعة لاجتثاث الفساد، وبناء أجهزة دولة قوية كالمنظومات العسكرية والشرطية والأمنية والقضائية، وهذا يتطلب سنوات طويلة.

أولاً: السلطة الجديدة

السلطة الجديدة ليس لها خبرات في الحكم أو مفهوم الدولة ومؤسساتها، فهي قوى عسكرية من خلفيات جهادية، تأسست تحت القصف شبه اليومي من طائرات الأسد وروسيا وميليشيات إيران، وعناصرها تربوا على الكراهية لهذه السلطة وحاضنتها، التي لم ترفض يوما جرائم النظام بل تماهت بها، وربما زادت، وحتى نخبها أقرت بذلك بل وهربت خارج سوريا بسبب هذه الحاضنة وهذا بشهادتهم هم أنفسهم.

رجال السلطة الجديدة تربوا على فكر أسس له الأسد الأب في المساجد التي أمر ببنائها لتدمير الفكر الديني الوسطي الذي عرفت به الأكثرية السورية قبل سيطرة حافظ الأسد على السلطة، وبدأه بحملة منظمة لشيطنة الأكثرية التي بلغ مداه بعد انطلاق الثورة ضد الولد واختراع داعش والقاعدة.

أما القوى الأمنية فقد شهد لها الكثيرون بأنها منضبطة إلى حد كبير، لكن ينقصها الخبرة فهي لم تخرج من مدارس سويسرا بل من إدلب التي كانت تحت القصف طيلة 14 عاما، أما المسؤولون الجدد وما أتت به السلطة من إعلان دستوري وإلى غير ذلك فهو منسجم تماما مع ما أسس له الأسد الأب، فكل من أتى في هذه السلطة تربى في مدارس الأسد منذ نعومة أظافره ولا يعرف أي معنى للديموقراطية، أو أي مصطلحات ترتبط بالدولة الحديثة، دون أن ننسى المنظومة الفكرية الدينية التي نهل منها.

ثانياً: المعارضة والنخب

في البداية نوهت إلى إن معارضة النظام البائد تشكلت على شاكلته وكذلك النخب، ومررت على كيفية تعاطي هذه المعارضة مع تولي الأسد الابن للسلطة كوريث لأبيه حتى أن احتجاجا صغيرا لم يحدث على ذلك بل ربما نظر إليه الكثير من هذه النخب على أنه منقذ سوريا بل ربما حاميها من عيون الحساد، هذه الأحزاب التاريخية والتي وجدت قبل الأسدين ومعهم، رأيناه ونخبها لم يرق لها سقوط الأسد بهذه الطريقة كما عبر الكثيرون، وبالتالي وقفوا منذ اليوم الأول في مواجهة هذه السلطة الجديدة في موقف لا يمكن تفسيره إلا أنهم تماهوا تماما مع مقولة سوريا الأسد وأنه باق إلى الأبد، فتحركت هذه الأحزاب والنخب فورا للتظاهر ضد السلطة، دون النظر إلى اننا أمام دولة منهارة ويجب أن يتعاون الجميع لوقف الانهيار ليس الاقتصادي والمالي وحسب، بل الانهيار الأخلاقي الذي بذل النظام ووصل الأمر ببعض هذه الأحزاب إلى ترديد الشائعات، فهذه الأحزاب لم تميز بين الدولة والسلطة وبدا أنهم غير مبالين حتى بالدولة ولا بالمجتمع، حتى لو ذهبت إلى الجحيم والحرب الأهلية، بل يتحدث البعض منهم عن التقسيم كما لو أنه يتحدث عن تقسيم أورق اللعب على اللاعبين، إنها أحزاب معارضة الأسد، ووجهه الآخر ليس أكثر، وكأنها تقول (إما نحن أو نحرق البلد)، في حالات ليست بالقلية نحن لم نعد نميز بين مثقفي نظام الأسد، ومثقفي معارضته.

ثالثاً: قطاعات الشعب

بات من الواضح جدا مفاعيل ما أسس له الأسد الأب وما أكمله الولد، من غياب المجتمع المدني ومؤسساته، فلا جمعيات ولا نقابات ولا اتحادات ولا منتديات طيلة 54عاما، إضافة الى 14 عاما من التدمير الممنهج على كافة المستويات، تُرك الشعب السوري مستباحا على كافة الأصعدة فلا قادة مجتمع ولا أحزاب ولا شخصيات سياسية أو اجتماعية مؤثرة حتى الروابط الاجتماعية انتهت بفعل الظروف التي يعيشها الناس، وهذا ما جعل بعض قطاعات الشعب السوري خلف رجال دين في معظمهم من مخلفات نظام الأسد، بينما الأكثرية رأت في السلطة الجديدة مخلصها من النظام الذي أوغل في قتلها والتنكيل بها وتدميرها بكل ما لهذه الكلمة من معنى، أما حاضنة النظام فوضعها هو الأصعب اليوم مع شعورها بالإحباط من سقوط النظام وهروب الأسد الذي ضحت بعشرات آلاف من شبابها من أجله، فيما خسر معظم موظفيها وعساكرها عملهم الذي حصلوا عليه بسبب انتمائهم، وهي في حالة ضياع كامل مع ضياع نخبها الذين انقسموا، بين مطالب بالتقسيم، وآخر يهدد بالحرب الأهلية، فيما بعضهم يناشد الأجنبي للحماية، بينما يحترف آخرون الشتائم للسلطة ورجالها، أما الناس البسطاء فهم المغيبون ويريدون الحياة بسلام، كمعظم السوريين الذين يبحثون خلف قوت يومهم.

أما الشعب الكردي فوضعه ليس أفضل حالا من اشقائه من السوريون الآخرين، ففي عهد الأسدين كان القمع مركب على الأكراد، أما بعد 2011 فظروف الأكراد كانت مشابهة للمناطق الأخرى، تعدد الأحزاب الكردية بقضها وقضيضها، لم يكن يوما لمصلحة الشعب الكردي بسبب ارتباطاتها وفساد نخبها، بل مزق الشعب الكردي، وجعل شبابهم وقودا لمشاريع قادة الأحزاب وارتباطاتهم، وتعاني المناطق التي تسيطر عليها “قسد” من ظروف مشابهة لباقي المناطق السورية إن لم نقل أسوأ. رغم قتامة المشهد، لكن الإنجاز الأكبر قد حصل، فالسوريون لأول مرة يعرفون الحرية، وضمن هذه الأجواء يعمل ناشطون بكل طاقتهم لإقناع الناس بأهمية الدولة والانضواء تحت مظلتها، مع التأكيد على التفريق بين السلطة والدولة، فيما خطوات السلطة الجدية نحو أعادة تأسيس الدولة والنهوض بها متعثرة مع فقرها المعرفي والسياسي إضافة إلى نشوة النصر، وفي أي وضع كارثي أقل سوءا من الوضع السوري يحتاج إلى تكاتف الجميع وبقيادة السلطة لإعادة بناء الثقة بين السوريين الذي فرقهم الأسد، وتأسيس الدولة والمواطنة، واستكمال اسقاط نظام الأسد، بإسقاط كل ما أسس له وبشكل خاص “حماية الأقليات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى