الرأي العام

سوريا بين فكي كماشة.. الأقليات والإرث الثقيل 

إن ممارسات المجموعات المسلحة التي تنتمي للأقليات كبعض القوى العسكرية الدرزية التي هي بدورها إقصائية ومتشددة، معتبرة نفسها معيارا للحق والحقيقة

أسامة المصري – العربي القديم

لم تكتمل الفرحة بالنصر وإسقاط نظام الإبادات الجماعية، لتبدأ مرحلة جديدة في سوريا مع المحاولة الفاشلة لفلول النظام البائد بالسيطرة على مدن الساحل السوري، وما تلاه من ردة فعل بارتكاب مجازر بحق مدنيين، فالتحرك في الجنوب السوري بقيادة الشيخ حكمت الهجري باتت أهدافه أكثر وضوحا، مع التدخل الاسرائيلي السافر الذي رحب به الهجري وأتباعه، وأصر على حصد ثماره عبر رفضه الاتفاق الموقع بين السلطة ومشايخ ونخب من مدينة السويداء، وصولا إلى الاتفاق الثاني الذي وافقت عليه السلطة تحت وقع التهديدات الإسرائيلية، يدين الهجري والسلطة معا.

عداء وإقصاء 

منذ تسلمه السلطة يحاول الرئيس السوري أحمد الشرع، وضع سوريا وسلطته على طريق الصحيح، والوصول بها إلى بر الأمان، ففرحة النصر انتهت ووقت العمل حل، وهذا ما حاول التأكيد عليه في مقابلاته وتصريحاته، لكن المقابلات شيء والواقع شيء آخر، فالإرث الذي تركه النظام البائد ثقيل يلزمه تكاتف جميع السوريين ودعم دولي وإقليمي وعربي للنهوض بالوضع السوري، وحتى الآن لم يتمكن الشرع من تحقيق أي إنجاز على هذا المسار، فالإجراءات التي اتخذت على المستوى الداخلي لم ترق لآمال السوريين، ورغم توحيد الفصائل وتشكيل وزارة دفاع إلا أن هناك مجموعات متشددة تنظر إلى الأقليات الدينية نظرة عدائية وإقصائية، وهذه المجموعات المتشددة هي من يحاول خلط الأوراق، فهي من جهة تستثمر في سلوك تصعيدي من قبل شخصيات دينية أو سياسية أو فصائل عسكرية كما حدث في المناطق ذات الأغلبية الدرزية مؤخرا، لتثبت حضورها العسكري، الذي يتمثل بفرض سلوك معين على الناس أو قمع بلا مبرر أو استخدام السلاح ضد العدو المفترض، وهذه الجماعات إنما تزداد تشددا مع أي مواجهة بل إصرارا على محاولات فرض السيطرة العسكرية ذات الخلفية الإيديولوجية الدينية المتشددة، وفي المقابل فإن ممارسات المجموعات المسلحة التي تنتمي للأقليات ومثالنا هنا بعض القوى العسكرية الدرزية التي هي بدورها إقصائية ومتشددة دون أن تعي ذلك معتبرة نفسها معيارا للحق والحقيقة، ما يجعلنا أمام واقع معقد خاصة مع غياب أي دور مؤثر من قبل النخب، وفرض رأي السلطة الدينية على الجميع، فيما ناشطو وسائل التواصل الاجتماعي يصبون الزيت على النار دون أدنى شعور بالمسؤولية تجاه الوطن ووحدته.     

 طموحات تركيا

أما المستوى الخارجي، فإن اللاعبين الإقليميين شمالا تركيا وجنوبا إسرائيل، ومنذ اللحظة الأولى لسقوط النظام، تتنافسان على سوريا، فتركيا التي تقود وتدعم فصائل عسكرية سورية تحاول أن تكون أكثر حضورا، ونفوذا في سوريا، وطموحاتها بلا حدود وهي إن استطاعت ستضع سوريا تحت نفوذها بشكل كامل، إضافة إلى دعم الأقلية التركمانية التي لعبت ولا زالت تلعب دورا كأحد القوى الفاعلة في سوريا من خلال الفصائل العسكرية التابعة لتركيا بشكل مباشر، والتي تتمتع بنفوذ واسع ضمن القوى العسكرية الحالية، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يعاني من أزمة داخلية، يحاول كما نتنياهو اللعب بمصير الآخرين خارج بلاده من أجل مكاسب سياسية شخصية، واقتصادية وسياسية كلاعب إقليمي قوي وأحد وكلاء واشنطن في المنطقة، فأردوغان يريد الاستثمار بالموقف الأمريكي المؤيد له إلى أبعد مدى في سوريا، إضافة إلى ذلك فإن أهداف تركيا الرئيسية هو تحجيم الدور الكردي داخل سوريا، وهي لا تترك مناسبة إلا وتطلق تصريحات تحاول من خلالها التأكيد على نفوذها في سوريا الذي لا زال محدودا نسبيا، فيما موقف السلطة ينوس بين عدم قدرتها على مواجهة موقف تركي يتعدى على السيادة، وبين الاستفادة من الموقف التركي الذي تحتاجه في مواجهة الخصوم في الداخل أو مواجهة العربدة الإسرائيلية.

الخطر الإسرائيلي

إسرائيل التي رعت نظام الأسد منذ 1970 حتى سقوطه كانت خسارتها كبيره فهي التي وضعت مظلتها الواسعة فوق الأسد الابن منذ انطلاق الثورة وهي التي سمحت لإيران بالدخول إلى سوريا، وهي التي اعطت الضوء الأخضر لروسيا للتدخل ومنع سقوط الأسد، هذه الدولة الإرهابية بعد فقدانها لنظام الأسد، الذي أمن وضعا مستقرا على حدودها الشمالية طيلة 54 عاما، تحاول اليوم تمزيق الشعب السوري وأرضه، فحافظ الأسد وابنه خير كان منفذ لما تريده إسرائيل في تحويل المجتمع السوري إلى أكثرية وأقليات وهو الذي جاء بمبدأ تحالف الأقليات في مواجهة الأكثرية، التي لم يتوانى عن تحطيمها بكل السبل مكملا ابنه المهمة خلال الـ 14 عاما الماضية، إسرائيل اليوم تريد حصد نتائج ما زرعه الأسد بتدخلها بشكل سافر في محاولة لتقسيم سوريا، وهذا ما بدا واضحا خلال الأيام الأخيرة بادعائها حماية الدروز، وادعائها بإسقاط النظام، وبالتالي من حقها أن تكون حاضرة بشكل مباشر أو عبر جماعات تختارها وتدعمها، فإذا كان نتنياهو من أسقط النظام فلماذا يريد محاربة النظام الجديد، فبينما يعلم الإسرائيليون أنفسهم أن رئيس وزرائهم كاذب، هناك سوريون يهللون لنتنياهو كمنقذ ويعتقدون أنه يستهدف الأكثرية لمصلحة الأقليات.

محاولات التقسيم

التدخل الإسرائيلي الوقح بادعائها بحماية الدروز في سوريا ليس سوى البداية، وستحاول أن تلعب على نفس الوتر مع  الأكراد والعلويين، إن قبلوا بذلك من أجل تقسيم سوريا وخلق دويلات طائفية لكل منها راع وهذا بالطبع ليس خارج موافقة بعض الدول الغربية، وتجلى الدور الإسرائيلي بشكل سافر من خلال استهداف المواقع العسكرية التي تعود للنظام البائد تأكيدًا على أن هذه الأسلحة لم تكن تشكل أي تهديد لها سابقا، وبالطبع لن تشكل بعد سقوط النظام البائد فالسلطة الجديدة كانت واضحة وأعطت تطمينات أنها لن تكون بحالة حرب أو مواجهة مع إسرائيل، ومع ذلك فإسرائيل تريد سوريا دولة ضعيفة ممزقة لا تمتلك أي من مظاهر القوة، ليس العسكرية وحسب بل لا تريد أن يكون المجتمع السوري موحدا، ولا تريد أن تنهض سوريا مجددا من بعد الدمار الذي لحق بها طيلة 54 عاما.

 التطور الأخطر إسرائيليا هو الإعلان أنها لن تسمح الجيش السوري الجديد بالتوجه إلى جنوب دمشق، ومن ثم التدخل بشكل سافر عبر استخدام القوة العسكرية للضغط على السلطة من أجل الخضوع لشروط الشيخ الهجري الذي بدا أن أجندته مرتبطة بالشيخ أميل طريف، إضافة إلى أنه لم يرفض التصريحات الإسرائيلية التي أعلنت أنها ستحمي دروز سوريا، كما عبر السيد وليد جنبلاط وهو الخبير والعارف في المنطقة وبشكل خاص الطائفة الدرزية، في حين هناك رجال دين وشيوخ عقل رفضوا هذه التصريحات بشكل صريح، ووجهوا انتقادات للسلطة الجديدة، في آن معا، وهذا ما يؤكد أن معارضة السلطة ممكن وحق لأي انسان دون أن يستقوي بالعدو الخارجي.

الدور العربي

الدور العربي لا يزال ضعيفا وهو بشكل عام يقدم الدعم للسلطة فيما الموقف الأوروبي والأمريكي لا يزالان بحالة التردد، فالسلطة لم تلب الشروط الغربية ولا يزال الموقف غامضا تجاه المطالب الغربية التي يتوافق ويرتبط معها الموقف العربي، لكن دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس السوري أحمد الشرع تعتبر تطور لافت في العلاقة بين أوروبا وسوريا الجديدة ففرنسا أحد أعمدة أوروبا الأساسية، ونبقى على أمل أن تكون الزيارة مثمرة وتساهم وتساعد في حل القضايا السورية المعقدة إضافة إلى إعادة الإعمار ومساعدة الدولة الناشئة.

الوضع الداخلي

في الوضع السياسي الداخلي، يمكننا القول أن اللاعب الرئيسي هي السلطة عبر أدواتها العسكرية والمدنية، أما القوى السياسية فمعظمها من بقايا اليسار وبقايا الأحزاب التي شكلت في ظل النظام البائد، ومعظم قادتها شخصيات مشبوهة ولم يكن لها دور معارض للنظام البائد، بل نستطيع القول إن مواقف هذه القوى كان متواطئا مع النظام بحجج وذرائع متعددة، ومعظم هذه الأحزاب ممثلة لأقليات رغم الأسماء الرنانة التي تطلقها على نفسها، ومع ذلك فهي لا تتحرك مع ناشطيها إلا من خلال ردود الأفعال على الأحداث، أما ما سمي بتحالف تماسك رغم التحفظ على توقيت تشكيله والهدف منه لكنه غاب عن المشهد السياسي بعد بيانه الأول، فهو لم يكن سوى رسالة من ( قسد، مسد) ليس أكثر، بأنهم قادرون على مواجهة السلطة في عقر دارها، فيما التحالف الكردي الذي نتج عن مؤتمر القامشلى لم يتقدم بأي خطوة تجاه التفاهم مع السلطة، وهو يركز على المسألة الكردية والانفصال  تحت مسميات الفدرالية أو اللامركزية، غير مهتم لما يحدث في الداخل السوري، كما أن السلطة لم تتقدم أيضا بأي خطوة جديدة باتجاه الأكراد، مكتفية باتفاق “عبدي ـ الشرع”، وأعتقد أن كلا الطرفين ينتظران عوامل خارجية لتقوية موقعه، فالأكراد ينتظرون ماكرون وربما إسرائيل وما تؤول اليه حركة الهجري، فيما السلطة تنتظر أيضا زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى المنطقة وانعكاساتها على الوضع السوري.

الصراع على سوريا

سوريا كانت وما زالت مكانا للصراع الإقليمي والدولي، وأولى الصراعات التي دارت على أراضيها كانت بين الحثيين والمصريين قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام في معركة قادش عام حدثت عام 1274 قبل الميلاد، ومنذ ذلك التاريخ كانت سوريا ساحة للصراع الإقليمي والدولي حتى اليوم، وبدون أن يتحد أبنائها بكل تنوعاتهم الدينية والطائفية والإثنية لن تكون دولة موحدة ترفض صراعات الآخرين على أرضها، وهذا ما تتحمل السلطة الجديدة المسؤولية عنه بشكل مطلق، عبر عقد مؤتمر وطني جديد ينبثق عنه برلمان سوري يلعب دوره كبرلمان حقيقي ويضبط ايقاع السلطة في المرحلة الانتقالية، واحتواء الأقليات من خلال دولة القانون والمواطنة، ودستور عصري يتجاوز مبدأ نظام الأسد البائد بحماية والأقليات، وتحالف الأقليات الذي رسخه بأذهان الأجيال التي تتصدر المشهد السياسي والعسكري، ولابد من تجاوز تركة الأسد الثقيلة بجهود قادة المجتمع والشخصيات الوطنية والسلطة، والانتقال إلى سوريا جديدة التي يفتخر كل مواطنوها بالانتماء لها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى