مراهقو سراقب
عبد الرحمن حلاق – العربي القديم
ثلاثون سنة في الغياب، ثلاثون سنة وما أزال أذكر كيف هرولت أمي خلف السيارة بعد لحظات الوداع، كانت السيارة أسرع من أمي وكانت عيناي تنظر إلى الوراء، ما أزال أذكر كيف ينخلع قلبان مع الأيدي التي تلوح بالوداع. قلب أمي الذي أدمن توديع الأبناء، وقلبي المعلق على جدران سراقب يحرس ملاعب الطفولة وذكريات غائمة عن مدينة غارقة بأمل بعيد. متعبة طرق الأمل ومتعبة أكثر تلك الأحلام المنتظَرة من مستقبل غامض.
هاجمتني الأحلام الكبيرة في وقت مبكر جداً، في وقت يُفترض أن يكون أكبر أحلامي فتاة أعشقها وتبادلني الحب، لكني كنت أحلم بثورة. أنا المراهق الذي لم ينه مرحلته الثانوية بعد، كنت أحلم بثورة، لم أكن وحيداً ولم أكن استثناءً، كان حولي الكثير الكثير من الأصدقاء الحالمين ذوي القلوب البيضاء.
وكنا نعقد الاجتماعات السرية دوماً، يذكر ذلك صديقي عبد الرزاق باريش والأخوان حلوم وفواز أصلان وغيرهم كثيرون، كنا في حزب واحد سرعان ما تخلينا عنه عندما اكتشفنا عجزه خلال فترة الثمانينات عندما افتعل النظام حرباً، مع جماعة الأخوان لتصحير الحياة السياسية، في تلك المرحلة كنت أنظر بعين العاجز إلى الحلم وهو يبتعد ويوغل في الغياب، ومع كل اعتقال جديد لأحد الأصدقاء كان يبتعد أكثر، وكنت أشعر بالانكسار، عبارة واحدة استطاعت أن تلملم أجزائي وتشكل في داخلي جداراً يسندني عبارة وردت في مسرحية (ناطورة المفاتيح ) عندما تقف فيروز في وجه الملك وتقول له ( ما حدا بيقدر يحبس المي والناس مثل المي إلا ما تلاقي منفذ تتفجر منه ) .
بقيت هذه العبارة تتردد في داخلي إلى أن بدأ الربيع العربي في تونس ثم في مصر فأيقنت أن المياه ستتفجر قريباً وما كنت أحلم به في مراهقتي بات قاب ليلة وضحاها، وأيقنت أن اجتماعاتنا السرية وحواراتنا مع الأصدقاء الذي اختاروا أحزاباً سرية أخرى ستزهر قريباً وفي سراقب تحديداً، سراقب التي لم يعرف أيٌّ من أبنائها الجوع يوماً فالتعليم والعمل كانا من مقدسات أبنائها. سراقب التي يحلم المراهقون فيها بثورة.
عندما وقف حزب الاتحاد الاشتراكي عاجزاً في ثمانينات القرن الماضي، قمت وصديقي فواز بكتابة مناشير تدعو إلى الإضراب العام ووزعناها في الهجيع الأخير من الليل، بعد أن أنهى كلانا لقاءه السري مع محبوبته، وبسبب هذا السلوك “المراهق” أقفلت سراقب دكاكينها ثلاثة أيام، كنت وإياه نشعر بالفخر فقد أنجزنا شيئاً رائعاً لم يعجب قيادتنا في الحزب فعرفنا حينها أن هذه الأحزاب مجموعة قبائل لا أكثر يخضع من فيها لأوامر شيخ القبيلة.
كنا نكبر كل يوم ونزداد حلماً، لكن العجز والإحباط جعلنا نتشرذم خاصة بعد اعتقال أسعد شلاش وعبد الرزاق باريش. فكان أن كتبت على نفسي غربة طويلة إلى الخليج. سنوات عديدة لم تغب سهول سراقب المزروعة حنطة أو جبساً عن مخيلتي، كما لم تغب كروم التين والعنب وأشجار الزيتون. كنت أنظر بفخر مثلاً إلى أسرة بيت الحردان وهم يصنعون حفارات الآبار الارتوازية كما أنظر بفخر إلى أبنائها عمال الحفر وهم يحولون صحاري السعودية وليبيا والجزائر إلى سهول خضراء. في الثمانينات وعندما كانت سوريا تحت الحصار الأوربي والجوع ينهش مدناً عديدة كانت سراقب تزهو بأبنائها واستقلالهم الاقتصادي حتى عن الدولة، شيء واحد فقط كان أبناء سراقب كما كل أبناء سوريا بحاجة إليه .. الحرية والكرامة.
لم ينتظر أبناء سراقب الثورة ليعلو صوتهم فقد علا في 2005 في ما يُسمى ربيع دمشق فقد كان لنا ممثلون عن سراقب فيه، وعندما صدحت الحناجر في درعا لم ينتظر أبناء سراقب كثيراً فقد تردد الصدى في الشهر ذاته، وهذا يعني أننا لم نكن أوائل المراهقين في سراقب وإنما ورثناها وورّثناها لمن بعدنا وكأن عمرو بن كلثوم كان يقصدنا بقوله:
( إذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا).
كنت أجلس في غربتي أتصفح ذكرياتي في سراقب فأجد هذه المدينة صورة مصغرة عن سوريا، لذلك لم يكن شيئاً غريباً أن تبتكر سراقب لغة الجدران لتعكس سلمية ومدنية الثورة فقد أبدع المراهقون الجدد (إياس قعدوني وسومر كنجو وليث الأحمد) في خطابهم الذي تعانق مع خطاب لافتات كفرنبل ليشكلا أجمل ظواهر الثورة. وعلى الأرض كان العمل الميداني يعكس أبهى صور التكافل والتضامن فقد قدم طلال حاج قاسم روحه فداء لأبناء جسر الشغور يوم حاول السراقبيون منع رتل الدبابات المتجه عبر بلدتنا إلى جسر الشغور لاقتحامها. كما قدم محمد حاف بعده والكثيرون من أبنائها أرواحهم دفاعاً عن أخوتهم.
الصورة الأجمل كانت في مجمل النشاطات الثقافية والاجتماعية التي ابتكرها أبناء البلدة لاستمرارية الوعي والتعليم والسعي لأجل وطن واحد يجمع الأطياف السورية كافة. كان أبناء سراقب كما أبناء داريا وأبناء الغوطة وأبناء درعا وغيرهم مثالاً يحتذى إلى أن بدأت التدخلات الخارجية وتقاطر (المجاهدون) ودخل المال الخارجي بكل شراسة، وعندما اعتلى أبو اليقظان المصري لأول مرة منبر الجامع الكبير ليخطب في الناس ويتهمهم بفهم مغلوط للدين، بدأت الانقسامات ولم تعد جدران سراقب العالية تحمي أبناءها فقد بدأ تهميش الشرفاء قتلاً واعتقالاً وتهجيراً. لم يستسلم الأبناء وإن قلّت مصادرهم، بقيت مقاومتهم المدنية إلى أن خذلتهم الفصائل الإسلامية وتركتهم لقمة سائغة لاجتياح أخير فكانت مدينة سراقب آخر مدينة سورية تسقط بيد النظام، سقطت المدينة لكن أهلها حملوا عزّتهم وكرامتهم ورحلوا إلى مخيمات النزوح، ليعيشوا أبشع فصول الثورة المضادة التي قادتها هيئة تحرير الشام وأخوة المنهج من بقية الفصائل التي ماتزال تمارس الإرهاب على أبناء إدلب وريفها.
سلام على زيتونك ياسراقب .. سلام لجدرانك العالية .. سلام لأبنائك المنتظرين فرجاً.
__________________________________________
من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024