قصد السبيل || عصام العطار الذي عرفته (1 من 3): توق القلب إلى الحرية
د. علاء الدين آل رشي – العربي القديم
120 دقيقة مع رجل الإسلام العاقل، والوعي المؤثر، والحكمة السائرة، الزعيم عصام العطار.
ما إن وطأت قدامي ثرى ألمانيا مغترباً منفياً بدت ملامح علاقة طيبة تترسخ مع الجميل الكبير الشامي العريق عصام العطار رحمه الله تعالى… علي أن أشد الرحال إليه، رجل تحدى الأب وابنه…
ارتفع نحو المعالي بجاذب القرآن الكريم، غني بحكمته يستشيره رؤساء بعض الدول، يستمتع الإنسان بصحبته لما يجده من بليغ القول وعميق الفهم وأصالة الحضور. العطار يجمع بين سكينة الإيمان، وضمة خير وعناق فكر وتجربة عمر… لم أتكلف في معرفته مشقةً ولا جهداً، ولم أنفق في البحث عنه قوة ولا وقتاً.
عصام العطار أعرفه جريئاً مسرفاً في الجرأة، نشيطًا غالياً في الهمة والنشاط، يبدع الصور وفنون المعاني ما لا تعرفه بيئاتنا الاجتماعية، التي تقتصد في الاطمئنان إلى تدين الخلاص الفردي للأسف وليس إسلام التحرر.
بطريقة أو بأخرى بدأت أشعر أني واحد من تلاميذه، بل رحت استرجع معه مفاهيم الإسلام المتحضر ومعاني الحكم المطلوب وفهم الواقع وتقييم الأشخاص.. والرشد الذي لطالما حاولت الاستمساك به والدعوة إليه.
العطار رسم لي عالماً كاملًا بعيد الآماد، متنائي الأرجاء مختلف الألوان… وما أكثر ما رجوت أن أشاهد ظلال العطار على سوريا… العطار الذي ثار على الظلم فحرك سواكن الطغيان ومنومات الفكر وموات البشر ..
هو ابن دمشق من صخر قاسيون الصلب جُبل ونُحت… هو ابتسامة الغوطة وبوح عطرها الذي يصنع أجمل ربيع في الدنيا.. هو تاريخ دمشق… وعذوبة عين الفيجة.
العطار دليل الحب، ومبدأ التفكر السوري المتسامح، حرارة إيمانه آنسته في غربته، وأنامله بدأت معها القصة فخط حرية بصبر وعناد، ودفع ثمنها هجرته وكربته وعمر زوجه بنت الأكارم ابنة شيخ دمشق الجليل علي الطنطاوي طيب الله ثراه وثراها، يصعد من قلب الدين ويسير في قلب الريح الهوجاء… وردة تفوح وتبتسم في وجه أحلام المستضعفين والمضطهدين …
ومن عميق ما كتبه قصيدة “الفجر الجديد” عام 1943م
طالَ الْمَنامُ عَلَى الْهَوانِ فأيْنَ زَمْجَرَةُ الأُسُودِ
واسْتَنْسَرَتْ عُصَبُ البُغاثِ ونحنُ في ذُلِّ الْعَبيدِ
قَيْدُ العَبيدِ مِنَ الْخُنوعِ وليْسَ مِنْ زَرَدِ الْحَديدِ
فَمَتَى نَثُورُ عَلَى الْقُيودِ مَتَى نَثورُ عَلَى القُيودِ؟!
* * *
اللّيلُ طالَ وَأُمَّتي لا تَسْتَفيقُ مِنَ الْهُجودِ
هَمَدَتْ عَلَى الْيَأْسِ الشَّديدِ وَصَوْلَةِ الْباغي الشَّديدِ
وأنا الْمُؤَرَّقُ جَفْنُهُ يَرْنُو إلَى الأُفُقِ البَعِيدِ
طَالَ اشْتِياقي لِلضِّياءِ ويَقْظَةِ البَطَلِ الشَّهيدِ
* *
يا إخْوَةَ الْهَدَفِ الْعَتيدِ وإخْوَةَ الدَّرْبِ الْعَتيدِ
يا صَرْخَةَ الإسْلامِ والإسْلامُ مَطْوِيُّ الْبُنُودِ
يا ثَوْرَةَ الْحَقِّ الْمُبينِ عَلَى الضَّلالَةِ والْجُمُودِ
هَيَّا فَقَدْ آنَ الأوانُ لِمَوْلِدِ الْفَجْرِ الْجَدِيدِ
العطار مزاج من الجمال والخير، ومن اللذة والألم، ومن اليأس والأمل، خلق لي عالماً آخر ليس أقل من ذلك العالم الذي آراه مرئيا سعة وتنوعًا واختلافًا.. قضيت معه مئة وعشرين دقيقة.. وبدأت العود إليه والعود أحمد. هو من علمني الفأل الحسن فزيِّن لي الحياة قليلًا وقبِّحها في نفسي أيضاً كي لا أهزم، وحاول أن يخلق لي ما يسرُّ، وحاول أن يخلق لي ما يسوء كي أتوازن.
سمعته وهو يقول شعر المتنبي..
للهو آونة تمر كأنها قُبَل يُزَوِّدُها حبيب راحل
جَمَحَ الزَّمانُ فما لذيذ خالص مما يَشُوبُ ولا سرور كامل!
كان العطار كالتامور لسوريا… والتامور هو غشاء رقيق يحيط بقلب الإنسان من كل نواحيه، ليعطيه مجالاً رحبا للتحرك دون أن يتعرض لأذى الاحتكاك، فهو كالجدار الواقي للقلب الإنساني…
فمن هو عصام العطار الذي ودعه المسلمون وكل أهل سور يا في مدينة آخن بألمانيا، مساء الخميس 23 من شوَّال 1445هـ الموافق 2 مايو (أيار) 2024م، عن مئة سنة هجرية، و97 سنة ميلادية. هذا هو محور مقالاتي القادمة
يتبع… الأربعاء القادم
رحم الله الصابر المحتسب عصام العطار