الرأي العام

قصد السبيل || عصام العطار الذي عرفته (1 من 3): مراجعات نقدية استثنائية

د. علاء الدين آل رشي

كان الأستاذ عصام العطار استثنائيا وشجاعاً في مراجعاته النقدية العميقة لواقع الحال الفكري والسياسي والنهضوي العربي. وكان من أبرز مراجعات الزعيم عصام العطار رحمه الله لواقع العالم العربي والإسلامي:

الواقعية السياسية:

  غابت السلطات الواقعية السياسية المرتبطة بالقيم وهوية المجتمع حيث لم تنتهج أي إدارة حكمت منطقتنا، أي خطوات علمية وعملية جادة نحو تعميق صلة الشُّعوب العربية الإسلامية بهويّتها الدّينيّة والثقافية، بل عملت على تهميشها وتهشيم القواسم المجتمعية..

لقد انتظر العرب  أكثر من نصف قرن من استقلالهم ليباشروا  تحسّس  الطريق الحضاري العام وذلك على عكس ما قام به اليابانيون، لم يفارقهم للحظة واحدة منذ الأيام التي بدأت فيها نهضتهم الحضارية العامة تتشكل في أواسط القرن السابع عشر لتثمر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في إصلاحات الإمبراطور مايجي.

الاستقلال الظاهري:

وكان أ. العطار رحمه الله تعالى يتحرز من بنية الحكم في العالم الإسلامي حيث نجده  يلفت النظر إلى وجوب  الاحتراز عن توصيف فترة ما بعد الرحيل العسكري للمحتل من بلادنا وأنها فترة “استقلال”. والتوصيف الدقيق. مصطلح فترة ما بعد الاستعمار.

مصطلح فترة ما بعد الاستعمار Post Colonial Period””  لا يعني  أن هذه الفترة خالية خلوا كلياً من أية توجهات استقلالية وطنية، ولكن الأمر مرهون بالتوجه الحضاري العام، الذي حافظت فيه هذه الفترة النَّخب العربية – التغريبية على نفس المسار الحضاري الاستعماري فكريا وفلسفياً وحتى لغويًا، بل  يذهب  إلى أن أغلب الاستقلالات العربية كانت صورية شكلية ولم تؤد إلى بناء دولة وطنية حقيقية. وحلّ الاستعمار الثقافي غير المباشر بدل الاستعمار المادي المباشر.

اقرأ أيضاً: قصد السبيل || عصام العطار الذي عرفته (1 من 3): توق القلب إلى الحرية

ربما يعود ذلك إلى أنّ هذا النوع من الاستعمار أو التثقيف التغريبي” قد وجد من الباحثين العرب المعاصرين من يروّج لأطروحاته، بعد أن تبنّى كثير منهم مفاهيم ونظريات وآليات و مقولات تفسيرية وتحليلية غربية سواء عن وعي بمسلماتها ومصادراتها ومشروعها الإيديولوجي أو عن غير وعي بقطع النظر عن الخلفيات الايديولوجية التي تحكمها والمصادرات التي تنبني عليها منهجيًا ومعرفياً .

وربما يعود ذلك أيضا إلى أن الثقافة العربية المعاصرة، من بين ثقافات كلّ الشّعوب المستعمرة، هي الثقافة الوحيدة التي لم ينشأ فيها نقد ما بعد استعماري Post-Colonial Criticism ، وهو نقد منهجي يسعى إلى تفكيك البنى الثقافية التي حاول الاستعمار إرساءها بعد أن نظر لها الاستشراق .

تمجيد الحداثة الغربية

الثقافة العربية الحديثة هي الثقافة الوحيدة التي انخرط مثقفوها في الحقبة ما بعد الاستعمارية لا في نقد الاستعمار وتفكيك بناه ورسم آفاق حداثة وطنية متكاملة، بل انخرطوا في   تمجيد الحداثة الغربية وعملوا على إرساء مشاريعها الفكرية والثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية عن وعي أو عن غير وعي متوهمين أنها النموذج الكوني المعاصر للعقلانية.

لقد خلص العطار إلى أن حركة التاريخ قد برهنت في سيرها الطبيعي للتاريخ طوال نصف القرن الذي مر منذ موجة الاستقلالات العربية إلى اليوم أن أي تيار فكري أو ثقافي أو اجتماعي أو سياسي لا ينطلق من روح المجتمع و من أسسه الحضارية العامة في بعديها الديني الإسلامي والثقافي، سيظل تيارا و اهما ومموها مهما أطلق على نفسه من مصطلحات مثل “الحداثي ” و “العلماني” و “التقدمي ” و “الديموقراطي” زاعما بذلك أنه الممثل الأوحد لهذه المصطلحات من جهة، والأجدر بتمثيلها من جهة ثانية. وغابت عن هذا التيّار حقائق تاريخية مهمة ومنها أن ادعاء الكونية” للحداثة الغربية وللمفاهيم والأفكار المتفرعة عنها ليس سوى وهم لأنّ الحداثة الغربية وما سبقها من مفاهيم ومراحل فكرية وحضارية منذ أيام النّهضة الأولى في بدايات القرن السابع عشر، كلها ليست سوى مسار حضاري غربي صيغ لحاجات حضارية غربية محدّدة، وأنّ كونيته ليست سوى ادعاء أكدته دراسات كثيرة، حتى من داخل الحضارة الغربية في حدّ ذاتها. واستعاضت المقولات ما بعد الحداثوية عن مصطلح “كونية المفاهيم لغربية بمصطلح النسبيّة الثّقافيّة“.

ومن الحقائق التاريخيّة المهمّة أيضا التي أكد العطار عليها، أن محاولات فصل  الشعوب العربية عن انتماءاتها الدينية الإسلامية لن تفلح ولن تفلح. وقد صار من الواجب تجاوز مفهوم الغربي للتحديث وما قام عليه من علمنة  Scularization وفردانية Individualism ومادية Materialism و رأسمالية Capitalism فجة، والاستعاضة عنه بمشاريع نهضوية  وطنية فعلية تستند إلى روح الحضارة العربية الإسلامية، وتستلهم  من التجارب الناجحة عند  الأمم المتقدمة التي  عرفت مسارا مماثلا، كان فيه للدين شأن كبير، وكان فيه الثقافة الوطنية والنظم والمؤسسات الاجتماعية المحلية قيمة فاعلة. بين هذه التجارب الناجحة التجربة النهضوية اليابانية بكل حقائقها ومكوناتها التي قد تصدم عددا كبيرا من  العرب، الذين ينفون أي إمكان لأية نهضة عربية حقيقية خارج النموذج الغربي ونظامه اللائيكي  والرأسمالي والفرداني والمادي.

انفصال الثقافة المعاصرة عن جدذورها الحضارية

ومن انتقادات أ. عصام العطار  الفوضى المنهجية والمفهومية التي تتخبط فيها الثقافة العربية المعاصرة  وذلك يعود لارتباطها بالنسخة الغربية للحداثة، وانفصالها عن جذورها الحضارية والنفسية المؤسسة  لوجودها، وغاية كامل الفصل أن يدعو  إلى التفكير لا أن يقدم إجابات.

الدين كان المرتكز الأول للنهضة اليابانية منذ تشكلها في أواخر القرن الخامس عشر   في مسار معاكس تماما لمسار النّهضة الغربية، وهو مسار قد أقصى الدين ونشر العلمنة والإلحاد ليقوض تغطرس سلطة الكنيسة المسيحية في القرون الوسطى. وقد  اشتقت من الدين الياباني : الشَّنتو كل المفاهيم الفكرية والثقافية والحضارية السياسية والاقتصادية والتربوية الوطنية وظلت هذه المفاهيم حية فاعلة إلى اليوم. والمدرك لأسس هذا المشروع النهضوي الياباني في استناده إلى بنى دينية مفصلة يتبين له تهافت رأي كل من يريد إقصاء الدين عن أي مشروع فكري أو حضاري أو ثقافي أو سياسي أو اقتصادي متبعا في ذلك النّموذج الغربي في التحديث ومتغاضيا عن غيره من الذماذج جهلا أو معاندة .

يتبع

زر الذهاب إلى الأعلى