الرأي العام

قصد السبيل | في أصول توثيق الانتهاكات وتقنين الاتهامات

تحقيق العدالة يتطلب منا أن نلتزم بالتروي والإنصاف، وألا نندفع وراء الاتهامات أو الأدلة غير الموثوقة

د. علاء الدين آل رشي

إذا امتلكنا دليلاً لإدانة جهة ما، فإن الواجب الأول هو التثبت من صحة هذا الدليل ومنسوبه، مع التأكد من تقديمه بطريقة عادلة وشفافة. يجب أن نمنح الجهة المدانة حق الرد الكامل، عبر طرح سؤال جوهري: “ما تقييمكم لما وُجِّه ضدكم بهذا الدليل؟”. فالقاعدة الأساسية التي يجب أن ننطلق منها هي أن الأصل في الذمم البراءة، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته.

الإدانة لا تكون مقبولة إلا إذا تم التأكد بشكل قاطع من أن الجهة المدانة قد عجزت عن تقديم رد مقنع ومُؤَسس لما وُجّه إليها، مع ضمان أن الفرصة الكاملة للدفاع عن نفسها كانت متاحة.

ويجب أن نتأكد من أن الجهة المدانة قد فقدت أي شرعية أو قدرة على دحض الأدلة المقدمة ضدها، بعد أن أُتيح لها الوقت والحرية والأسلوب اللازم لذلك.

تحقيق العدالة يتطلب منا أن نلتزم بالتروي والإنصاف، وألا نندفع وراء الاتهامات أو الأدلة غير الموثوقة. فهذا النهج ليس فقط ضماناً للعدالة، بل هو أيضاً حفاظ على مصداقيتنا وعلى مبادئ النزاهة التي ينبغي أن تسود في جميع القضايا.

هذا الأسلوب العلمي قد يبدو للبعض غير مألوف لأنه يتطلب جهداً في البحث والتحليل بعيداً عن الأحكام المسبقة التي قد تُطلق بناءً على التحيز أو قلة المعرفة. نحن اليوم بحاجة إلى اتباع ما أرشدنا إليه القرآن الكريم في قوله: “ولا تقفُ ما ليس لك به علم”، بمعنى ألا نتسرع في إصدار الأحكام دون تحقيق وتدقيق.

المصداقية في نقل الأخبار، والشفافية في تقديم الحقائق، والدقة في التحليل، هي أسس أساسية لأي نقاش أو حوار بناء. الاعتماد على وفرة المعلومات وتحليلها بموضوعية يُظهر احتراماً للعقل والمبدأ، ويُبعدنا عن التبعية العمياء لمن يظن أن كلماته يجب أن تُطاع بلا نقاش. هذا النهج لا يُرضي الجميع لأنه يتحدى الراحة التي توفرها المواقف الجاهزة، لكنه الطريق إلى الفهم الحقيقي والعدالة.

خلال عملي الحقوقي ومن خلال ورشات توثيق الانتهاكات والعمل المدني، تعلمت الكثير.

فعندما يصلني فيديو يوثق حادثة معينة، غالبًا ما أُطالب باتخاذ موقف سريع وإدانة الجهة المعتدية دون تريث أو تحقق. في هذه المواقف، أجد نفسي أمام مسؤولية أخلاقية ومهنية تتطلب التروي والتأكد من صحة المعلومات قبل إصدار أي حكم.

بدلًا من الانسياق وراء العاطفة أو الضغط، أطرح على نفسي مجموعة من الأسئلة الأساسية التي تساعدني على تحليل الفيديو بشكل موضوعي وعلمي. هذه الأسئلة لا تهدف فقط إلى التحقق من صحة المادة المصورة، بل تسعى أيضًا إلى فهم السياق الكامل للحادثة وتحديد الأطراف المسؤولة بدقة، بعيدًا عن أي أحكام مسبقة.

المنهجية المتبعة لتحليل الفيديوهات:

1. الفاعل (من هو المعتدي؟)

تحديد الجهة أو الشخص المسؤول عن الاعتداء، مع ذكر أي معلومات متاحة عن هويته، مثل اسم الجهة أو دوافعها المحتملة، وأي صلات معروفة بجهات أخرى.

2. المفعول به (من هو المعتدى عليه؟)

تحديد هوية الطرف المعتدى عليه، سواء كان فردًا أو مؤسسة، مع تقديم تفاصيل تعزز فهم خلفيتهم وسياق الحادثة.

3. مكان الحادثة (أين وقعت الحادثة؟)

تحديد الموقع الجغرافي بدقة، سواء كان في مكان عام، منشأة خاصة، أو منطقة نزاع.

4. سبب الحادثة (لماذا حدثت؟)

تحليل السياق المحيط بالحادثة، بما يشمل الخلافات السابقة أو الأحداث التي أدت إلى التصعيد.

5. المصور (من قام بالتصوير؟)

معرفة مصدر الفيديو؛ هل هو شاهد عيان، جهة إعلامية، أم طرف من الأطراف المتورطة؟

6. تاريخ الحادثة (متى وقعت؟)

تحديد التاريخ والوقت بدقة، لأن التوقيت يساعد في فهم ملابسات الحادثة.

7. الجهة المعتدية (إلى أي جهة ينتسب المعتدي؟)

تحديد ما إذا كان المعتدي يمثل منظمة، جماعة، أو جهة معينة.

8. الجهة المعتدى عليها (إلى أي جهة ينتمي المعتدى عليه؟)

معرفة ما إذا كان المعتدى عليه فردًا، مؤسسة، أو جهة ذات طابع سياسي أو اجتماعي.

مثال عملي لتطبيق المنهجية:

الفاعل: مجموعة مسلحة تابعة لجهة معروفة (تُحدد الجهة عند التحقق).

المفعول به: فريق طبي يقدم خدمات الإسعاف في المنطقة.

مكان الحادثة: مستشفى ميداني في مدينة (تُذكر المدينة).

سبب الحادثة: خلاف حول دخول الفريق الطبي إلى منطقة النزاع.

المصور: أحد الناجين من الطاقم الطبي باستخدام هاتفه المحمول.

تاريخ الحادثة: 25 ديسمبر 2024، الساعة الثالثة عصرًا.

الجهة المعتدية: مجموعة مسلحة تابعة لفصيل معين.

الجهة المعتدى عليها: فريق طبي مستقل يتبع منظمة دولية.

هذه المنهجية تضمن التحقق من صحة المحتوى وتحليل الحادثة بدقة قبل نشر أي معلومات. بهذا الأسلوب، نحافظ على النزاهة والحيادية، ونساهم في نشر الحقائق بعيدًا عن تغذية الدعاية أو الانحياز غير المبرر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى