ذكريات طفل دمشقي: دمشق المتسامحة
د. ياسر العيتي
نشأت في بيت الوالد الأستاذ تيسير العيتي رحمه الله في خورشيد أولى في حي المهاجرين. أما حيّنا الأصلي المسجّلين باسمه في دائرة النفوس فهو حي الشاغور الذي نشأ فيه الوالد وما زال فيه منزل جدي خضر العيتي رحمه الله إلى يومنا هذا.
كان الوالد يحب أن نصحبه في الأعياد لزيارة المنزل الذي نشأ فيه ويحدثنا عن ذكرياته في المنزل ومنها أين كان يجلس لكتابة واجباته المدرسية وكيف كانت جدتي رحمها الله تجلس جانبه وتطلب منه محو الكلمات التي كان يكتبها بخط رديء وإعادة كتابتها مرة أخرى – وهذا ما جعل خط والدي من أجمل الخطوط التي رأيتها في حياتي – الطريف في الأمر أن جدتي كانت أميّة لا تقرأ ولا تكتب وكانت تعتمد على حسها الجمالي في تقييم كتابة والدي وتمييز الخط الجميل من الخط الرديء! ثم كان الوالد رحمه الله يأخذنا في جولة حول المنزل يحدثنا فيها عن مغامراته في الحارات القديمة ويعرّفنا بفخر على بيوت جيرانه فعلى بعد أمتار من منزل الوالد كان بيت نزار القباني وعلى بعد أمتار أخرى كان بيت عائلة نظام، من وقتها سكن قلبي عشق الحارات القديمة وصرت أتردد وحدي إلى حيّنا القديم وأدلف منه إلى الأحياء المجاورة من حي الأمين إلى حارة اليهود إلى باب توما.
أما المنزل الذي نشأت فيه والدتي فاطمة القصاص رحمها الله فكان في حي زين العابدين في سفوح قاسيون وكان جدي درويش القصاص رحمه الله حياً في فترة طفولتي لذلك كان ترددي على منزل جدي لوالدتي أكثر من ترددي على منزل جدي لوالدي وكان منزلاً عربياً تتوسطه (ديار) واسعة تتربع فيها شجرة نارنج وارفة الظلال كنا ننتظر قطافها كل عام. كان جدي درويش من أوائل أساتذة الرياضيات في دمشق وأكثرهم شهرة، وكان معروفاً بأمرين اثنين: أنه كان يرسم الدوائر بدقة عجيبة من دون فرجار، وأنه كان وهو يقدم دروس الرياضيات يكتب على اللوح بيده اليمنى ويرسم باليد اليسرى في الوقت نفسه!
حي الشاغور السني وحي الأمين الشيعي وحارة اليهود وحي باب توما المسيحي أحياء متجاورة عاشت قروناً من الزمن متآلفة متساكنة وتبادل أهلها العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، أما حي زين العابدين فلم أعرف أن غالبية سكانه من الشيعة وأن جدي درويش كان السني الوحيد في الحارة التي يسكن فيها، لم أعرف هذه الحقيقة حتى دخلت الجامعة!
لم يعرف تاريخ دمشق المذابح الطائفية أو القتل على الهوية أو الجدران والحواجز بين الأحياء المختلفة دينياً، ولم يكن السنة وهم أكثرية الدمشقيين يحترمون الأديان والطوائف الأخرى خوفاً من بطش دولة أجنبية أو تملقاً لسفير غربي، كان يفعلون ذلك بحكم تربيتهم الدينية والأخلاقية وبفضل سماحتهم ودماثتهم المعروفة التي تراكمت في مورثاتهم عبر آلاف السنين.
ما يميز سماحة دمشق واتساعها لجميع من لجؤوا إليها وسكنوا فيها عبر القرون، أن ذلك لم يكن على حساب هويتها الحضارية فالمآذن ترتفع في كل مكان والعربية لغة يتغنى بها الدمشقيون الذين أنجبوا عشرات الشعراء والأدباء والكتاب الذين أبدعوا بالعربية عبر العصور.
حافظت دمشق على هويتها وفي الوقت نفسه لم تقسر أحداً لجأ إليها على محو هويته حتى أنك تعرف الأرمني الدمشقي من كنيته التي لم يضطر إلى تغييرها، وأن تحافظ مدينة على هويتها الحضارية في الوقت الذي تفسح فيه المجال للثقافات والأديان المتنوعة ليكون لها وجودها وتميزها ولونها الخاص بما يثري هذه المدينة ويزيدها تنوعاً وغنى تلك لعمري (حيوية حضارية) لا تتميز بها إلا قلة من الحواضر على وجه الأرض.
اعزاز – 20/9/2023
_________________________________________
من مقالات العدد الرابع من صحيفة (العربي القديم) تشرين الأول/ أكتوبر 2023
” حتى أنك تعرف الأرمني الدمشقي من كنيته التي لم يضطر إلى تغييرها”
لا كما يضطر بعض السوريين حالياً وبتبرير واضح لا لبس فيه وفي بلد فيه (مسلمون) وبعض حصولهم على جنسية ذلك البلد حيث يغيرون ليس اسمهم الأول فحسب بل كنيتهم لتتماشى مع بيئة ذلك البلد و (لكي ا يتعرض أولادهم للتنمر في ذلك البلد مستقبلاً)
أحد أصدقائي ممن هاجر إلى الولايات المتحدة (كما يقال بلد العنصرية) حافظ على اسمه الثلاثي كاملاً كما اعتاد سوريين من المسلمين السنة فاسمه اول أحمد.، وأبقى اسمه كما هو وهو مديراً لقسم في واحدة من أشهر الشركات التكنولوجية عالمياً، ووصلىت إلى رقم هاتفه بالبحث باستخدام اسمه الثلاثي