المشهد السياسي في سوريا: من ركام الأزمة إلى بذور الدولة المدنية
لا يمكن إنكار حجم التحديات التي تواجه سوريا في هذه المرحلة الحساسة

نبراس إبراهيم – العربي القديم
منذ سقوط نظام الأسد الإجرامي، دخلت سوريا مرحلة سياسية جديدة تضعها أمام اختبار تاريخي غير مسبوق. لم يكن التغيير مجرد انتقال للسلطة، أو تبديل للوجوه، بل كان بمثابة انطلاقة لعملية عميقة، تهدف إلى إعادة بناء الدولة السورية على أسس مدنية وتعددية، بعد عقود من الحكم الشمولي الذي أفرغ المؤسسات من مضمونها، وكرّس الانقسامات المجتمعية.
لقد أظهرت الحكومة الانتقالية إرادة سياسية واضحة في تفكيك إرث النظام السابق، عبر حل المؤسسات التي ارتبطت بالاستبداد، وإلغاء الدستور الذي كان أداةً لتكريس الهيمنة الفردية، والانطلاق نحو صياغة عقد اجتماعي جديد، يعبّر عن تطلعات السوريين جميعاً. هذه الخطوات لم تكن مجرد إجراءات شكلية، بل جاءت في سياق رؤية استراتيجية تسعى إلى إعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، وترسيخ مبدأ سيادة القانون وفصل السلطات.
العملية الدستورية الجارية اليوم، تُعدّ المحكّ الأهمّ لنجاح المرحلة الانتقالية، إذ تعكس مدى قدرة السوريين على تجاوز خلافاتهم التاريخية والتأسيس لنظام سياسي يضمن تمثيل جميع المكونات دون تمييز أو إقصاء. الحوارات الدائرة حول الدستور الجديد تكشف عن نضج سياسي متزايد، خاصة في ما يتعلق بإدماج المرأة والشباب، وتكريس اللامركزية الإدارية، وتعزيز استقلال القضاء. وبرغم التباينات الحادة أحياناً، إلا أن النقاشات الجارية تعبّر عن رغبة حقيقية في بناء دولة المواطنة، حيث يكون الولاء للوطن لا للطائفة أو الحزب.
من أبرز التحولات التي شهدتها المرحلة الراهنة، انخراط طيف واسع من القوى السياسية والمدنية في صياغة المستقبل السوري. فقد شهدت الساحة السياسية حراكاً غير مسبوق، تمثل في نشاط الأحزاب والتحالفات العابرة للطوائف والمناطق، وهو ما أضفى زخماً على النقاش العام، وفتح الباب أمام مشاركة أوسع في صنع القرار. كما برزت مبادرات شبابية ونسوية، تطالب بإصلاحات جوهرية في مجالات التعليم، والعمل، والحقوق المدنية، ما يعكس ديناميكية المجتمع السوري، وقدرته على التجدّد والتكيّف مع متطلبات المرحلة.
في هذا السياق، برزت المصالحة الوطنية كأحد أهم رهانات الحكومة الانتقالية، إذ لم تكتفِ بالدعوة إلى الحوار بين مختلف التيارات، بل أطلقت مبادرات للعفو التشريعي، وتفعيل العدالة الانتقالية، في محاولة لجبر الضرر، وطي صفحة الماضي دون التفريط بحقوق الضحايا. ورغم صعوبة هذه العملية وتعقيداتها، إلّا أنّها تمثل خطوة ضرورية لتحويل التنوع السوري من مصدر صراع إلى رافعة للتنمية والاستقرار. كما أن إشراك ممثلين عن المناطق التي عانت من التهميش، أو الصراع المسلّح في لجان المصالحة، منح العملية مصداقية أكبر، وساهم في بناء جسور الثقة بين الدولة والمجتمع.
ولا يمكن إغفال الدور الحيوي الذي لعبته منظمات المجتمع المدني في دعم الانتقال السياسي، فقد أسهمت هذه المنظمات في رصد الانتهاكات، وتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للمتضرّرين، وتنظيم حملات توعية حول أهمية المشاركة السياسية وبناء ثقافة الحوار. كما لعبت دور الوسيط في كثير من النزاعات المحلية، ما ساعد على احتواء التوترات، ومنع انزلاقها إلى مواجهات أوسع. إن هذا الحضور الفاعل للمجتمع المدني، يؤكد أن بناء سوريا الجديدة لن يكون حكراً على النخب السياسية، بل هو مشروع وطني جامع يشارك فيه الجميع.
لا يمكن إنكار حجم التحديات التي تواجه سوريا في هذه المرحلة الحساسة. استمرار الوجود العسكري الأجنبي في بعض المناطق، وتباطؤ الاعتراف الدولي بالحكومة الجديدة، وصعوبة تفكيك منظومة الفساد المتجذّرة، كلّها عوامل تعرقل مسار التحول الديمقراطي، وتزيد من تعقيد المشهد، غير أن هذه العقبات، مهما بلغت، لا تحجب حقيقة أن السوريين استعادوا زمام المبادرة، وبدؤوا برسم ملامح مستقبلهم بأيديهم، بعيداً عن وصاية الخارج، أو هيمنة النخب القديمة.
إن ما يجري في سوريا اليوم، هو محاولة جريئة لإثبات أن الانتقال من الاستبداد إلى الدولة المدنية التعددية ليس حلماً مستحيلاً، بل مساراً ممكناً وإن كان محفوفاً بالصعوبات. صحيح أن الطريق لا يزال طويلاً، وأن تعثرات المرحلة الانتقالية أمر لا مفرّ منه، لكن المؤشرات الأولى تبعث على التفاؤل الحذر. فهناك جيل جديد من الكوادر الإدارية والسياسية بدأ يفرض حضوره، والخطاب الطائفي يتراجع لصالح نقاشات برامجية حول شكل الدولة والاقتصاد، والمجتمع السوري يبرهن يوماً بعد يوم على قدرته في تجاوز جراحه، والانتصار لإرادة الحياة.
إن سوريا اليوم تقف على أعتاب مرحلة جديدة، يكتب فيها أبناؤها تاريخهم بأنفسهم، ويؤسسون لدولة تستحقّهم، وتليق بتضحياتهم. فالتحديات جسام، لكنّ الإصرار على بناء وطن يتّسع للجميع هو الرهان الأكبر، وهو ما يمنح الأمل بأن المستقبل سيكون أفضل ممّا مضى.