الرأي العام

فادي صقر للسلم الأهلي

قد يرى البعض أن هذا المقال فات أوانه، وأن قصة إطلاق سراح فادي صقر، مرّت ونسيها الناس. ربما، ولكن إن صح ذلك، فلا بد لنا من التذكير كي لا يصبح الزمن وسيلة من وسائل حكومتنا في مواجهة مطالب الشعب. كما كان يفعل الأسد وعصابته.

عبد الرحمن ريا – العربي القديم

أثار المؤتمر الصحفي للسيد “حسن صوفان” مدير لجنة السلم الأهلي منذ أيام لغطاً كبيراً واستقطاباً، سببه الأساس الإعلان عن اخلاء سبيل عدد من ضباط وأتباع عصابة بشار الأسد وعلى رأسهم “فادي صقر” رئيس ميلشيات الدفاع الوطني في دمشق وريفها، وبدا أن الأمور قريبة من الخروج عن السيطرة، بعد أن سُجلت عدة عمليات قتل خلال يومين، تم تصنيفها على أنها تصب في خانة الثأر من فلول النظام الساقط، وما قابلها من رد فعل ربما.

تصاعدت الاحتجاجات أكثر حين طالب الكثيرون بالخروج بمظاهرات ضد ما فعلته الحكومة، فرد عليهم أتباعها بالحرف “وأنقل دون تصحيح املائي”: “ال بدو يطلع مظاهرة ضد حكومتنا بهذه الظروف الخطيرة تحت أي ذريعة وحجة فهو خائن وعميل وذيل للشيعي وللشوعي وللمتصهين الدرزي وللأوجلاني الخنزير وكلب من كلاب النظام البائد والصهاينة وشاكلتهم.. قولاً واحداً”.

بعد ذلك التصاعد والتصعيد، أعتقد أنه من المناسب قراءة ما ورد في المؤتمر الصحفي بهدوء لمحاولة فهم وجهة نظر الحكومة ولجنة السلم الأهلي، ثم تحليلها لمعرفة صوابها من خطأها.

يُسرّب السيد “صوفان” بشكل غير مباشر، أن بعض المفرج عنهم، ومنهم فادي صقر، قد تعاونوا مع الحكومة بشكل أو آخر. ذلك ادّعاء يفصّله أكثر “عبدالله المحيسني[1]” السعودي المقرب من دوائر السلطة “وفق زعمه”، حين يقول أن هناك ضباط ساعدوا في انتصار الثورة دون قتال وبتسليم السلاح. ولولاهم لكان هناك مليون علوي جاهزون للدفاع عن النظام البائد.

تبدو حجة الإفراج عن صقر وأصحابه وفق السردية السابقة معقولة لولا بعض الإشكاليات. فوفقاً لـ ديناميكية العدالة الانتقالية هناك ما يسمّى “الحقيقة والمصالحة”، وهي باختصار تفرض على من ارتكب تجاوزات واجرام خلال عهود الاستبداد، الاعتراف بما فعل أولاً، والبوح بآليات إجرام الظالم وسياساته، بشكل يجعل تكرارها مستحيلاً. ثم الاعتذار للضحايا علناً، ضمن محاكمة حقيقية. يحصل عقبها على عفو لا يمنع تجريمه بما ارتكبه. إن هذا الشكل من العدالة الانتقالية هو ما يمهد لجبر خواطر الضحايا، والمصالحة الوطنية (السلم الأهلي) التي تأتي بالضرورة بعد العدالة الانتقالية لا قبلها ولا معها.

إن حجر الأساس في “الحقيقة والمصالحة” هم الضحايا، يجب أن يسمعوا الاعتذار، يجب أن يعرفوا الحقيقة. فيشعروا بالجبر المعنوي، ويقبلوا بطي صفحة الانتقام. أما سياسة السرية (التي جعلها النظام البائد ثقافة، ويرفضها المجتمع السوري)، وكلمات من قبيل “السيد الرئيس طلب منكم الثقة به!” فليس مكانها هنا. الشعب يجب أن يعلم. بالطبع هناك صفقات تمت ومهّدت لدخول دمشق، فلماذا لا نعلم تفاصيلها. ولماذا الإصرار على تجيير الانتصار إلى الالهام والرؤية الثاقبة و و و. إن كان هناك صفقات ومفاوضات وحتى تنازلات، فربما يكون ذلك أدلّ على ذكاء قياداتنا الحالية وفهمهم السياسي، فالنصر دون خسائر أبلغ وأفضل بمراحل من سفك الدماء. فلم لا نروي الحكاية كما حدثت؟!

الأنكى أن المدعو “فادي صقر” أرسل بياناً لصحيفة نيويورك تايمز في اليوم التالي للمؤتمر الصحفي، نافياً أن يكون قد حصل على عفو أصلاً، ما ينسف رواية المؤتمر الصحفي، وتفصيل المحيسني وأمثاله. ويزيد المجتمع شكوك وريبة.

من ناحية أخرى فقد جاء في المؤتمر، أن فادي صقر وزملاؤه لم يثبت عليهم أي تورط بسفك دماء وجرائم ولذلك تم الافراج عنهم. وأنه ليس بالضرورة أن يكون كل موظف أو ضابط في النظام البائد مجرماً، بل يمكن أن يكون موظفاً غير متورط بأفعال إجرامية.

من ناحية المبدأ، بالطبع نحن نتفق أن مجرد العمل بوظيفة عامة ليس دليلاً على التورط بأفعال إجرامية، وأن الكثيرين من الموظفين كانوا يكرهون الأسد وعصابته كرهاً لا يقل عن الثوار، ولكنهم جبُنوا ربما عن الخروج في الثورة، أو أن ظروف حياتهم ومسؤولياتهم منعتهم من نصرها. هذا انساني؛ ولكنه مختلف تماماً عن حالة “صقر”، الرجل لم يكن موظفاً عادياً، ولكن قائد الدفاع الوطني في العاصمة وريفها، ولمن لا يعلم، فهذه الميليشيا تم تأسيسها خصيصاً لقمع الثورة السورية، وهي متورطة بالكثير من الجرائم.

الأعزاء في وزارة الداخلية، حتماً لن تجدوا دليلاً يثبت أن “فادي صقر” أطلق النار على أحدهم، كما أنكم لن تجدوا دليلاً أن بشار الأسد أو أخوه ماهر وكبار قادة فروع المخابرات، أطلقوا النار وقتلوا. هم فعلوا أكثر من ذلك بكثير حين خططوا وأعطوا التعليمات، أما من أطلق النار فدوره لم يزد عن أنه كان “ينفذ الأوامر” ذلك لا يعفيه بالطبع، ولكنه لا يرتقي لإجرام رؤسائه. لقد حصل ذلك اللغط بعد محاكم نورمبرغ إثر الحرب العالمية الثانية، وظهر تساؤل استدعى الكثير من الدراسات فهل الجنود الذين نفذوا مجازر الهولوكوست مجرمون وقتلة، أم أنهم مجرد منفذين للأوامر؟ وبعد دراسات عديدة ومعمقة أجراها عدد من العلماء وعلى رأسهم “ستانلي ملغرام” كانت النتائج تشير إلى أن المسؤول الأول هو من يعطي الأوامر[2].

أخيراً فإن أكثر ما يتم تداوله، هو أن “صقر” يساعد في عملية السلم الأهلي بأشكال عديدة. لا أدري إن كانت المقاربة صحيحة، ولكننا نفهم أنها (السلم الأهلي) هنا أقرب إلى مصالحة بين فريقين، إن الأقرب للقبول وفق أعرافنا وتقاليدنا، أن يكون من يدخل في مثل هذه المهمات مقبولاً من جميع الأطراف، فهل تتوقعون أن يقبل الضحايا بأحد قادة الدفاع الوطني كوسيط صلح. أما إن كان القصد مختلفاً وانخراط “فادي صقر” محصور بإيصال الرسائل لجماعته، فأعتقد أن من حقنا جميعاً التحفظ على اتخاذ رجل مثل الأخير لهكذا مهمة.

ليس الغرض من هذا المقال النيل من الحكومة أو من السيد حسن صوفان، الذي يمتلك ملفاً مفتوحاً كمجاهد ومعتقل، نتفق باعتقادي على احترامه، رغم تحفظنا على موهبته في المؤتمرات الصحفية. ورغم كل ما قدمناه، قد يكون لدى الحكومة أسبابها الوجيهة التي تخفيها. وهذا ان كان صحيحاً فهو الأسوأ. أرجوكم يا قادتنا، تجنبوا السرية، فشعبكم تعب من ثقافة السرية.


[1] المحيسني شخصية غامضة، يعتبرها الكثيرون صلة وصل بين المخابرات السعودية والفصائل الإسلامية للثورة السورية. بينما يعتقد آخرون أنه ممن التحقوا بالثورة السورية بخلفيات وأسباب دينية.

[2]  فصلت ذلك في مقالي “هل أخطأوا باعتقاله، المفتي حسون في السجن” في صحيفة العربي القديم

زر الذهاب إلى الأعلى