طرابلس والأمل بالنمو والازدهار
بقلم: جمانة شهال تدمري، وسيف الدين الأتاسي
تعد طرابلس عاصمة شمال لبنان، وثاني أكبر مدينة فيه، مدينة زاخرة بالحضارة وغنية بالثقافة والتراث المميز، عاشت فترات ذهبية، شهدت فيها نمواً ثقافياً وازدهاراً اقتصادياً، لكنها اليوم تواجه العديد من التحديات على كل الأصعدة، والتي تعيق نهضتها، وتجعلها تجد نفسها دوماً في ظل العاصمة بيروت، تحاصرها البنية التحتية المتهالكة والمتصدعة، والبطالة المرتفعة والفقر، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تزيد من حدة التوترات داخل المدينة.
وغالباً ما تستغل هذه الأزمات لأغراض انتخابية وسياسية آنية رخيصة، مما يعيق التنمية المستدامة والاستقرار، ولا يوفر البيئة الحاضنة الآمنة للرأسمال الجبان، مما يضعف فرصة تمويل المشاريع داخل المدينة، فضلاً عن أن الأحياء المهمشة فيها، لا تصلها الخدمات الأساسية: كالمياه النظيفة والرعاية الصحية والتعليم إلا على نطاق ضيق جداً.
وبالعودة إلى التاريخ، حيث كانت طرابلس مركزاً تجارياً نشطاً ومزدهراً، وتذكر المراجع أن أحد رجالات طرابلس الأفاضل نسيم بك خلاط (1830م_ 1910 م)، تمكن من استقطاب قطار الشرق السريع إلى طرابلس، وربط مدينة حمص بطرابلس، حيث وصل القطار لأول مرة إلى محطة طرابلس حزيران 1910 م.
ولقد عملت جمعية ( تراث طرابلس لبنان)، وهي جمعية مجتمع مدني رائدة، للحفاظ على موقع سكة الحديد المجاور تماماً لقلعة مرج السباع الأثرية، ومنعت استباحة الموقع من أي جهة كانت.
لكن للأسف عقود من الحروب الداخلية بين أخوة الدم، وعدم الاستقرار، قد تركت بصماتها على اقتصاد المدينة، وخاصة في مجال الصناعات المحلية والتقليدية، كإنتاج الخشب والمنسوجات والصابون وغيرها، نتيجة المنافسة غير المتكافئة، وعدم الاستقرار الاقتصادي الإقليمي.
وسعت جمعية “تراث طرابلس لبنان”، منذ تأسيسها عام 2009، إلى إقامة التظاهرات الثقافية في أسواق طرابلس القديمة.
ورغم ضخامة حجم التحديات، تظل طرابلس مدينة تزخر بالإمكانات المتعددة والفرص، والتي يمكن استغلالها بسرعة وسهولة، من خلال البرامج التشاركية بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب المرفقات الاقتصادية الهامة التي لم تستغل بالشكل المناسب: كالمصفاة والمرفأ، والقطاع السياحي، وتنشيط المواقع الأثرية والأسواق التقليدية. ولقد تعاونت أغلب منظمات المجتمع المدني الطرابلسي، وعلى رأسها “جمعية تراث طرابلس لبنان”، للتجمع مع بعضها تحت مظلة فيحائنا، لتكون “حاضنة الثقافة لكل الأزمان”.
ومع كل هذا الجهد، مازال الإهمال الحكومي شبه المتعمد والتشظي السياسي، يخيم على قدرات هذه المدينة، وإن لم يتوفر القرار السياسي الشجاع، لنفض غبار التهميش عن طرابلس، سيظل العمل المدني يلهث ولا يصل مبتغاه.
ومع كل هذا، لم يستسلم المجتمع المدني بطرابلس لقدره، وقام بالعمل الجاد على وضع طرابلس بمكانها الطبيعي، فعلى سبيل المثال، قامت جمعية “تراث طرابلس لبنان”، بالعديد من المبادرات للحفاظ على الأبنية التراثية، من خلال عقد المؤتمرات الدولية ومع الأفراد، وأصحاب القرار وأصحاب الحقوق، للتوقف عن هدم تلك الأبنية التراثية.
كما تبنت جمعية “تراث طرابلس لبنان” البرنامج التعليمي: (تراثي تراثك) داخل المدارس الرسمية، والذي ساهم في توعية الجيل الجديد بتراث المدينة، كما ساهمت جمعية “تراث طرابلس لبنان” بتأسيس المركز المهني في طرابلس، الذي من شأنه الحفاظ على المهن الحرفية التي تشتهر بها المدينة، وكانت الجمعية حريصة على الحفاظ عليها، وتوارثها من جيل لآخر.
كذلك من الآثار المهمة في طرابلس (خان العسكر)، من أضخم خانات الشرق وأجملها، ويدعى أيضاً خان الحرير، أو خان الأسرى بين الحقبتين المملوكية والعثمانية.
وللأسف، لقد غابت شمس هذا الخان الفريد عن ذاكرة أهل طرابلس، رغم مساحته الواسعة، وغرفه العديدة، وربما معظم المارة بالقرب منه يجهلون أن هذا البناء المستطيل والضخم كان مزدهراً في يوم من الأيام.
ومن الأماكن المهمة التي عمل عليها المجتمع المدني الطرابلسي وفي مقدمتها: “جمعية تراث طرابلس لبنان” على إدراج معرض رشيد كرامي الدولي على لائحة التراث العالمي لليونسكو، وهو تركة المعماري نيمار الوحيدة في المنطقة، وأكبر صرح مستقبلي لبناني.
ففي عام 1952 م، بدأ المعماري نيمار بالتصاميم، ويعد من الرعيل الثاني من رواد الحداثة في القرن العشرين “الأسلوب الدولي في العمارة”، وضع فيه المعماري نيمار حلمه، بأنه سيد المنحنيات في التصميم، والتي تحاكي عناصر شتى ما بين الواقع والمتخيل والمستمدة من البيئة المحلية.
وسبب مطالبة المجتمع المدني الطرابلسي بحماية اليونسكو، نظراً إلى النسيج العمراني لطرابلس، والملازم للمدن العربية القديمة في مزجه ما بين المباني السكنية الباطونية، ومبانيها التاريخية المبنية بالحجارة الرملية، ويأمل هؤلاء الناشطون ألا تضيع الفرصة.
ولقد كان من المتأمل، أن يكون عام 2024، عاماً هاماً لطرابلس وأهلها، نتيجة اختيار طرابلس عاصمة ثقافية للعالم العربي، لكن غياب الدعم وظروف الحرب، منع من تحقيق الهدف المرجو، واستغلال الفرصة بشكل كامل.
لكن لن نفقد الأمل، فهناك حدث كبير وملهم في 23 و24 نوفمبر في معهد العالم العربي بباريس، حيث تنظم جمعية “تراث طرابلس لبنان”، بمناسبة تتويج طرابلس عاصمة للثقافة العربية، والكل لديه إيمان وأمل، أنه يمكن ببساطة وصدق النوايا أن تستعيد طرابلس ألقها، كجوهرة اقتصادية وثقافية وسياحية تجذب البحبوحة لأهلها، فهي مدينة غنية بالإمكانات بلا حدود بالتنمية المستدامة المستمرة: اقتصادياً وبيئياً واجتماعياً.
* د.جمانة شهال تدمري: رئيسة جمعية تراث طرابلس لبنان
** سيف الدين الأتاسي: محرر في التنمية المستدامة
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024