أرشيف المجلة الشهرية

ما الذي نصدقه أو لا نصدقه في أدب المذكرات؟!

محمد منصور – العربي القديم

عشقتُ مطالعة المذكرات باكراً… رأيت فيها تاريخاً محكياً عبر سِير أشخاص وحياة أفراد.

أحببتُ نبرتها الذاتية، فقد تعلمت خلال قراءاتي الكثيرة أن أحترم خصوصيات البشر في نصوصهم، وألا أطالبهم بموضوعية مطلقة إزاء أحداث كانوا جزءاً منها، أو من الأجواء التي صنعتها وأنتجتها… ولهذا كانت المذكرات بالنسبة لي وجهة نظر، مادامت التزمت صدق الوقائع العامة، واحترام عقل القارئ، فلم تخترع كما فعل مصطفى طلاس قصصاً مضحكة عن والدة حافظ الأسد التي قاومت كتيبة كاملة من الفرنسيين بمسدس قديم، وردتهم على أعقابهم، في مذكراته “مرآة حياتي” التي كانت مرآة حياة الكذب والتدليس التي عاشها فعلاً.

خارج هذا الكذب الفج تبقى المذكرات وجهة نظر تُحترَم. أختلف فيها كثيراً مع أولئك الذين يضربون لنا مثلاً عن حادث السير الذي وقع للتو، والذي يرويه كل شاهد عيان بتفاصيل مختلفة، ثم يسألون مشككين: كيف نثق بكتب التاريخ التي تتحدث عن وقائع من مئات أو آلاف السنين إذن؟!

بالنسبة لي أنا أثق… مادام الكاتب مشهوداً له بأنه كان ابن المرحلة، أو نقل عن شهود من تلك المرحلة. ومادام نصه متماسكاً، وقدرته على رسم تفاصيل الزمان والمكان بشكل مقنع، سأثق أن حادث السير قد وقع، وإلا لما أجمع أربعة شهود عيان على رواية تفاصيل عنه، ولما وجدت بينهم تقاطعات مشتركة، أما الاختلافات فهي في زاوية الرؤية والفهم والقدرة على الملاحظة والتعبير… وسأثق أن ما نعيشه من أحداث قد نرويها في مذكراتنا بأشكال مختلفة، وقد يأتي من يصوب لنا، أو يضيف لنا تفاصيل غائبة… وقد تغيب بسبب ضعف ذاكرتنا أو بسبب عدم قدرتنا على الإحاطة بالحدث من كل جوانبه، أو الوصول إلى  المعلومات كافةً التي تضيء خباياه.

أجمل ما في كتب المذكرات هي النكهة الشخصية في الرؤية والتعبير… إذا أردت أن ترى دمشق المحافظة التي تخوض صراعاً متحفظاً، وربما رافضاً مع دعاة التحديث، فاقرأ مذكرات الشيخ علي الطنطاوي، وتوقف جيداً عند معركته مع مدرسة دوحة الأدب وتعليم رقص السماح للفتيات الدمشقيات، ومع معركة تدريس مادة التربية الدينية في المدارس، وإذا أردت أن ترى سورية التي تتطلع نحو التفكير العلماني والتعامل مع الواقع الاجتماعي والسياسي بروح علمية صارمة، تتمسك بالمبادئ الوطنية وترفض التنازل، مثلما ترفض الشعبوية في تفسير الأحداث وتمجيد الشخصيات، فاقرأ مذكرات عبد الرحمن الشهبندر، وإذا أردت أن ترى دمشق الناهضة المتطلعة إلى اللهو والطرب والفن النظيف والمتوثبة بروحها الشابة، فاقرأ مذكرات فخري البارودي، وإذا أردت أن ترى دمشق الثرية بتراثها والتي لا تخجل من ذكر مثالب وعيوب بعض تقاليدها وعاداتها الاجتماعية، فاقرأ مذكرات المحامي نجاة قصاب حسن “حديث دمشقي”، ثم عرّج على روح المرحلة في الجزء الثاني المعنون: “جيل الشجاعة”، واسأل نفسك: أي من هؤلاء هي دمشق الحقيقية؟! ومن هو الأصدق في مذكراته؟ وكيف نثق بكل هذه الصور والنماذج المختلفة التي بدت عليها دمشق في مذكرات كل واحد منهم؟!

إن الجواب باعتقادي أن دمشق ولا واحدة من تلك النماذج… إنها كلها مجتمعة، في كل مذكرات ثمة زاوية رؤية مختلفة، وثمة رؤية شخصية وعوامل تأثّر وتأثير تجعل المدينة الواحدة مدناً متعددة… لكن دمشق تبقى هي البطل في مذكرات الطنطاوي، وفي مذكرات نجاة قصاب حسن، وفي مذكرات نصوح بابيل والبارودي وكل هؤلاء. وهذه الرؤية الذاتية هي التي تعطي للمذكرات قيمة وبصمة، وتجعل القارئ والباحث على حد سواء يبحث فيها ويحلل ويتعمق ويستمتع ويستعيد، وقد يتشارك الذاكرة ذاتها قرباً أو بُعداً عنها.

كنت تقرأ في المذكرات السورية سيرة أشخاص يمرحون في مرابع الطفولة، ويتعلمون ويصارعون الفقر ويشبون عن الطوق، ويخوضون في مجالات الحياة واللهو والسياسة، وكنت تقرأ سيرة مدن وقرى وعائلات وبيوت بأجيال متعددة… وقصة اختلافات سياسية وطرائف تُروَى وانقلابات وحكومات تسقط، وأخرى لا تعمر أكثر من بضعة أسابيع أو أشهر، حتى إذا ما جاء حكم البعث والأسد امتلأت المذكرات بالسجون والدماء ولوعة المنافي. وصار الحديث عن فنون التعذيب بديلاً عن فنون الطرب، وعن سنوات السجن الطويلة بديلاً عن سنوات العمل والتعلم والإنجاز، وعن حطام شخصيات أكل السجن أعمارها بديلاً عن خوض التجارب وطرائف الخلافات بين رجالات السياسة.

إن هذا العدد الخاص الذي تبدأ فيه (العربي القديم) عامها الثاني، وهي تقدم تطويرات في الشكل والأسلوب والتبويب، يكاد يمثل وثيقة استقرائية تحليلية عن نماذج هامة وشهيرة من أدب المذكرات في التاريخ السوري، وعن إشكالات وعيوب ومثالب طبعت هذا اللون من ألوان الأدب التسجيلي في الحالة السورية، وقد حفل العدد بإسهامات هامة ومميزة لكتاب وكاتبات قدموا جهداً معرفياً ونقدياً يستحق الشكر والثناء بحق… ناهيك عن فصول من مذكرات لكتاب وفنانين خصّوا بها العربي القديم، وهي تُنشر لأول مرة، كي تقدم للقارئ صورة عن حياة معاشة وعن مذكرات وطن يصارع في كل عصر وآن. 

___________________________________

افتتاحية رئيس التحرير، العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024

زر الذهاب إلى الأعلى