الرأي العام

مقامات أمريكية | ما الذي يضيع عندما تضيع المرساة؟

د. حسام عتال

كنا على بعد حوالي 50 مترا من الشاطئ عندما ألقى صديقي المرساة في الماء. غاصت القطعة الحديدية المثلثة في الماء وتلاها الحبل المربوط بها، يتلوى في الماء وكأنه ذيل ثعبان يتراقص في صحراء رملية.  أنا وصديقي خرجنا سوية في عدة رحلات في القارب، فهو الآن يريد أن يتفاخر أمام عائلته (التي رافقتنا هذا الصباح) ويُظهر أنه قد أصبح بحّاراً متمرساً، فهو كمن أراد أن يكحلها فعماها، عندما رمى المرساة قبل أن يستقر القارب في المكان السليم.

 في ذهول راقب صديقي اختفاء الحبل بالماء، وبعد لحظات استفاق من صدمته، خلع قميصه ثم قفز في الماء في محاولة لإيجاد المرساة. لأن الوقت كان باكراً والشمس ما زالت وراء الكثبان الرملية العالية. لم يكن قاع البحيرة قد أنير بوضوح بعد، فظل صديقي يسبح جيئة وذهاباً، يغطس في الماء  ثم يصعد للتنفس قبل أن يغطس من جديد، كل ذلك دون جدوى.

اقتربنا من الشاطئ ورسونا في مكان ضحل بعد ضياع الحبل والمرساة

خلال هذا الوقت كنا وعائلته في القارب قد اقتربنا من الشاطئ ورسونا هناك في مكان ضحل. أخرجنا طعام الفطور من الجبنه والخيار والقشطة والعسل بالإضافة للشاي الساخن، وبدأنا بتحضير السندويشات. لم يكن هنا غيرنا في الشاطئ لأنه شاطئ يعسر الوصول إليه، تذهب إليه إما بالقارب أو سيراً عبر غابة عريضة في مسالك ضيقة مخصصة للمتريضين، تنتهي في أعلى الكثبان الرملية، ثم تنحدر بزاوية حادة نحو الشاطئ الرملي الضيق.  هذا الانحدار نجم عن الرياح العاتية وعواصف الشتاء الثلجية التي حفّت أجزاء من الكثبان تاركة فراغاً سوى مساحات من جذوع الشجر المتساقطة اليابسة، كأنها جنود قضوا حتفهم في معركة دامية.

 سبحنا حتى بدأت الشمس بالارتفاع في السماء، ومع أشعتها أتى دفء عارم مخدّر عززه الشاي الساخن. أغمضت عيناي أتخيل الحبل الملتوي يختفي في الماء، وعدت سنين للوراء عندما كنت طالباً أتخصص في طب التشريح المرضي في إحدى مشافي شيكاغو. كان ذلك عام ١٩٩١. بمجرد التحاقي بالتخصص كانت أول دورة تدريبية (ستاج) هي أصعبها، ليس ذهنياً ولكن عملياً، فهي تتعلق بفحص العينات الطبية عينياً، وتنظيفها ووصفها، ثم اختيار مقاطع منها للتحليل المجهري.

مع زميل لي من بولندا كنا ننظف قولوناً غليظاً فيه ورم، وكان مليئاً بالمخاط و أشياء أخرى لن أذكرها هنا، قد فتحناه في حوض له مصرف (أشبه بالمرحاض) لتصريف الأوساخ. لأننا كنا نلبس ثياباً واقية وقفازات مطاطية، انزلق القولون من أيدينا وقبل أن ندركه اختفى في الماء الدافق عبر فتحة المصرف في عمق مجاري المشفى متلوياً (كمل فعل حبل المرساة)  حتى اختفى أمام أعيننا. لم يكن هناك من طريقة لاسترداده فذهبنا إلى الطبيب المشرف وأخبرناه بما حدث. بسرعة عقد اجتماعاً مع رئيس القسم والطبيب الجراح ومحامي المشفى، وكتبنا تقريراً بالحادث. وبعد يومين اجتمعنا (نفس المجموعة بالإضافة لطبيب المعالجة الكيماوية وطبيب أشعة) مع المريض وعائلته لنخبرهم بماحصل، وكانت تلك من أصعب المقابلات في حياتي. أخبرناهم بكل شئ بصراحة وشفافية وأجبنا على أسئلتهم التي تعلقت ليس فقط بما حدث، ولكن بكمية المعلومات المتوفرة سريرياً ومن الفحوص الشعاعية السابقة، وهل ستسمح بإنشاء طريقة علاج مجدية. بعد أن فكر المريض قال أنه مستاء لكنه يتفهم الخطأ ويقدر الصراحة في الأمر، وأنه يعفوا عنا ولن يسلك طريقاً قانونياً للتعويض. رغم ذلك قررت إدارة المشفى إعطاءه تعويضاً مادياً بسبب الخطأ الطبي.

بقي هاجس هذا الحادث في ذهني لشهور عدة، منظر القولون المنزلق يعمي بصري، والصوت الشفاط الذي أصدره عند مروره بالمصرف يرن في أذني. حتى أتت السنة التالية ودعاني مدير القسم لمكتبه. ظننت أن فترة تدريبي قد انتهت وأن علي إيجاد مكان آخر للتدريب، لكنه بدلاً عن ذلك عرض علي منصب رئيس المقيمين في القسم، متجاوزاً من هم أعلى مني سناً ومرتبة. قلت له “ولكني أضعت ذلك القولون وسببت مشاكل للقسم وللمشفى”، فقال لي “إنك اعترفت بخطئك واعتذرت، وقد قبلت المشفى اعتذارك، ومنذ ذلك الوقت قد أثبت أنك طالب جيد وجاد. لذلك لقد طوينا هذا الموضوع ولن نتكلم به بعد الآن. نقطة انتهى. دعنا نبحث الآن أمر تعيينك رئيساً للمقيمين”

بحيرة قصية وشاطئ ساحر يعسر الوصول إليه

القارب يتموج بنا بهدوء في المياه الضحلة قرب الشاطئ، ونحن ننادي صديقي، نرجوه أن ينثني عن بحثه ويعود للطعام، لكنه كورديٌ برأس يابس (وهذا وصفه الخاص وليس مني) ولم يقبل بالتنازل والعودة حتى أنهك تعباً. وعندما عاد، طفق يعتذر من خلال تنفسه السريع المتواتر.  أردت إقناعه وقتها بأن المرساة ما هي إلا أداة يمكن استبدالها بيسر، وأنها لا تستأهل الخطورة التي عرّض نفسه لها في البحث. أردت أن أخبره القصة التي حصلت منذ ٣٠ عاماً والتي بشكل أو بآخر غيرت طريقة تفكيري وتصرفي. لكني لم أفعل!

  بدلاً عن ذلك، انتدبت عاداتنا القديمة في عدم الغفران، واللوم المستمر، والتذكير المتواصل، وعدم الغفران، والتوبيخ.  لكنه صديق عزيز وأخ طيب، وهو يعرف أني أحب المزاح معه )ولو كان ثقيلاً(، وأنه يكفي له أن يرسل شيكاً بألفي دولار باسمي الخاص، عندها سأسامحه، لكن لبرهة فقط.

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى