الرأي العام

مقامات أمريكية | نظام وفوضى حصى البحيرة والبشر!

د. حسام عتال

بدأ شغفي ببحيرة ميتشغان عندما انتقلنا للإقامة في غرب ولاية ميتشغان منذ أكثر من خمس وعشرين سنة. مع الوقت تخيلت أن لها جسداً تنقصه الروح، لكن العلاقة بيننا تطورت وتوطدت فأنا لا أفرق بينها وبين أي شخص حي يرى ويسمع ويتكلم.

حصى بحيرة ميتشغان على أرض شرفة منزلي: مهرجان من الألوان والتنوع

ولأن عمرها صغير نسبياً، لأنها ملئت بالماء منذ خمسة عشر ألف سنة فقط مع انحسار العصر الجليدي، فلديها مزاج متقلب كمزاج الأطفال. في الشتاء يتجمد سطحها، وتسمح لك بالمشي عليها لأمتار عديدة، لكنها قد تفاجئك بمغارات خفية تحتها مغطاة بطبقة رقيقة من الجليد، إن سقطت فيها ستعود إلى بيتك بأطراف مكسورة، هذا إن بقيت حياً.  في المقابل تفتح لك البحيرة ذراعيها في الصيف وتدعوك للسباحة في مائها العذب، فهي مع شريكاتها البحيرات الخمسة تحوي ٢١٪؜ من مخزون المياه العذبة في العالم، غير أنها قد تزبد وتزمجر بسرعة عندما تأتي العواصف الصيفية المرعبة، وتتلبد أمواجها لترتفع ثلاثة أمتار وكأنها تقول لك: تعال جرب شطارتك الآن يا جدع لكي نرى من له السيادة هنا!

وبعد انقضاء الصيف تأتي ما أعتبره أجمل أيامها في الخريف، فتهدأ وتصبح صفحتها كالزجاج الفيروزي المصقول الذي ينقلب قرمزياً عندما يعكس سماء الغروب، ولأن ماؤها قد تشبع بحرارة شمس الصيف تصبح السباحة فيها في هذا الفصل شأناً مقدساً.

مع أوائل الربيع، كما في أيامنا هذه، تحاول البحرة خداعك بمائها الصافي الرقراق. طحالب الصيف لم تكثر فيها بعد، لكن ويلك إن أخطأت وتجرأت على السباحة، فالماء في هذا الوقت هو ليس سوى جليد ذائب؛ لهذا ترى الناس يكتفون بالمشي على الشاطئ، يتركون انطباعات أقدامهم العارية على الرمل وهم يراقبون الماء يمتد وينحسر، مرة بعد مرة، يستمعون لصوت الموج اللجب كأم تهدهد طفلها حتى ينام.

وهذا ما فعلته اليوم بعد انتهائي من العمل، خلعت قميصي وحذائي ومشيت مسافة ميلين على الشاطئ جسدي يمتص دفء الشمس، حتى انتبهت أن الجليد الذي انحسر قد ترك على حافة الشاطئ تشكيلات متفرقة من حصى مصقولة أشبه بقطع النقود. جمعت بعضها وعدت بها إلى البيت.

هناك وضعتها على أرض الشرفة ودون قصد وجدت نفسي أرتبها بطرق مختلفة:

في البداية صففتها من أصغرها، بقياس ٢ ملمتر، حتى الأكبر منها والذي وصل قطره ٢ سنتمتر أو تجاوزه بقليل.  

بعدها نظمتها حسب ألوانها من الرمادي المحايد، والأخضر الهادئ، والأصفر الحذر، والأحمر الجرئ، والبني المحروق، وأخير الأسود الفاحم.

عاينتها لدقائق ثم خلطتها وأعدت جمعها، عيناي مغمضتان مراعياً فقط ملمسها في يدي، من الأملس الصلد البارد حتى الناعم الحريري، ومن المحزز بإحساس بنطال الجينز حتى الخشن كمبرد الأظفار.

أعدت مزجها وحاولت تنسيقها هذه المرة معتبراً أشكالها للتصنيف، فهذه بيضوية وتلك مدورة، بعضها مخروطي وأخرى مربعة، ويبقى نزر منها عصي على التصنيف أو الوصف. الأخيرة حصرتُهُا في زاوية خاصة.

أخيراً وضعتها في كيس ورجرجتها، سمعت طقطقتها كأنها نقود في حصالة من الآجر يخسخشها ولد فخور بما جمع قبل أن يضعها تحت سريره،  ثم سكبتها دفعة واحدة لأرى إن أمكن للصدفة وحدها أن تأت بنسق لم يخطر لي ببال.

النمط الناتج (أو اللا نمط) كان شواشاً أشبه بالذي لفت انتباهي على شاطئ البحيرة بعد انسحاب الجليد. بشكل ما بدت الفوضى العفوية الناتجة أكثر جمالاً من كل محاولاتي في الترتيب والتصنيف والفرز. 

سكنت إلى فكري، هل يكمن الجمال في أجزاء العالم حولنا في هذ االاختلاط: النظام والفوضى، الاستقامة والتعرج، الوئام والاختلال. هل هذه الازدواجية هي أساس حياتنا، إن مالت لجانب الترتيب المفرط أصبحنا كالجماد اليابس، وإن نَحَتْ نحو الفوضى الكاملة ضعنا في تيه البلبلة والحيرة؟

  هل هكذا تتصارع وتضطرب المجتمعات لكي تستقيم بعدها وتتآلف؟ هل ما يظهر لنا أنه متضاد، هو في حقيقته وعمقه التوازن الذي يفسح المجال للولادة، والموت، وكل ما يحصل بينهما خلال حياتنا التي تتغاير وتتقلب وتتبدل، كما تفعل بحيرة متشغان كل فصل من فصول السنة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى