الرأي العام

بصمات | ظرف الورد الحزين

د. علي حافظ

على بركة القلب بقع سود.. نجمة السماء فقدت روحها في سديم الليل، راحت توحي لي يائسة أن أنقذها بإرسال روحي.. لم تكن تعرف أنني أحتضر هنا في مكان مجهول!

هاجمتني الأفكار الغريبة، مدخلة إياي عتبة اللاأنا. وكيما أغرق تماماً في موجاته الأثيرية خرجت للهواء الطلق.. تسكعت طويلاً في شوارع المدينة محاولاً استرداد عناويني، ورسم معالم الحياة أمامي من جديد، مع تذكري أنه عليَّ استلام طرد بريدي من “شركة القدموس”، فأسرعت باتجاه مكتبها.. عاد الحزن مضاعفاً بعد رؤيتي الأوساخ تنضح من الرفوف المائلة، والسقوف الواطئة، والجدران المطلية بألوان السجون الرمادية… استلمت الظرف وانطلقت مسرعاً لأول ضوء؛ وأخذت بفضه حالاً، مخرجاً محتوياته: رواية “القديس فرانسيس” للكاتب نيكوس كازانتزاكس أرسلها صديقي من دمشق.. تسمرت في مكاني وبدأت أقرأ…

انزاح ستار الحزن قليلاً مع الدفء المنبعث من الكلمات.. تأكدتْ وجهة سيري الصحيحة رغم عدم وضع نظارتي.. كانت بوصلة الكتابة المضيئة تهديني إلى وجه الصبح، وأشرعة ألكسندر غرين القرمزية!

تلاطمت أمواجي بعيداً.. أدركت أن للبحر شواطئ، أما الكتابة فالبحر يسجد لها بلا ضفاف ولا موانئ!..

تلك الواقفة على الضفة الأخرى من الزرقة، والتي لا أعرفها ولم ألتق بها أبداً، شاركتني الحلم في هذه اللحظة؛ فاتحة مدينتي المتشددة على أمومة لؤي كيالي، لتنزاح قليلاً باتجاه ألوان فان كوغ، وموسيقى فاغنر، وأشعار بول فاليري، وتكشف ألوان الزجاج…

شعرت بالضيق؛ وأغلقت دفتي الكتاب على أمل أن أكمل رحلتي في وقت قريب، لكن الأسئلة لم تتركني: هل كل موهوب حزين؛ أم أن الحزن هو عنوان المبدع الوحيد وصديقه الدائم؟! ربما لولاه لما كتب أحد شيئاَ؛ ولما تألم الورد في مقص البستاني؟!

عدت بذاكرتي إلى تراجيديات شكسبير “هاملت” و”روميو وجوليت” و”يوليوس قيصر”، التي تقطر ألماً، وكرهاً للغدر والخيانة؛ وإلى بودلير الذي لم يستطع أن يقدم لنا سوى ديوان “أزهار الشر”؛ لأنه كان تعيساً وعاش حياة مريرة تقيأها شعراً! 

لكن مع ذلك قد تجد الحزن رومانسياً خفيفاً، كما في مؤلفات ألكسندر كوبرين وأنطون تشيخوف وفرانسوا ساغال، وقد تجده سوداوياً ثقيلاً كما في روايات فيدور دوستويفسكي وأشعار نيكا توربينا، وقد يندمجا معاً كما في أشعار أنَّا أخماتوفا ومارينا تسفيتايفا…

في الرواية ذلك اليوناني الرائع ينحني القديس ليقطف زهرة مرغريتا صفراء جميلة عن حافة الطريق، لكنه ما كاد يمد يده إليها حتى كبح نفسه فجأة، مغيَّراً رأيه قائلاً: “لقد أرسلها الرب كي تزين الطريق، فلا ينبغي علينا أن نمنع مخلوقات الله من أداء واجبها”..

تركت نفسي على قارعة، حيث نمت وردة بين أحجار الرصيف، ومشيت وأنا أنظر إليها بعيني كازانتزاكس الحنونتين؛ كما لو أني أودع الكون؛ محتفظاً بظرف الكلمات الحزين!

زر الذهاب إلى الأعلى