تاريخ العالم

مؤسسة بحثية ميزانيتها 345 مليون دولار: قصة إنشاء شبكات "الاعتدال" الإسلامي

حذيفة بن عدنان الجابري

مؤسسة راند هي مؤسسة بحثية أمريكية تأسست في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وهي تتلقى تمويلاً مباشراً من الحكومة الأمريكية، ميزانية المؤسسة لهذا العام بلغت 345 مليون دولار جزء كبير منها مُقدّم من وزارة الأمن الداخلي الأمريكية، والقوات الجوية الأمريكية، مكتب وزير الدفاع الأمريكي (1)

امتداد لحركة الاستشراق

وهي مؤسسة عريقة من ناحية الكفاءات فبحسب موقع المؤسسة فإن نسبة 54% من الباحثين في المركز يحملون شهادة الدكتوراة، وبحسبك دلالة على ضخامة المؤسسة أن من ضمن العاملين السابقين فيها وزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد ووزيرة الخارجية كونداليزا رايز وهنري كسنجر الذي رحل مؤخرا، ويعتبر بعض الباحثين مؤسسة راند تمثل امتداداً لحركة الاستشراق من حيث دقة البيانات والتقارير الصادرة عن الشرق الأوسط والعالم الإسلامي بالتحديد ومن حيث أنها تقدم تقاريرها المتضمنة على نتائج وتوصيات للإدارة الأمريكية

صدر هذا التقرير في عام 2007 بمشاركة أربعة كتاب هم شيريل بينارد، أنجيل راباسا، لويل شوارتز، بيتر سيكل، والكتاب موجه في الأصل لصناع القرار في الإدارة الأمريكية لتزويدهم بالمعلومات والبيانات والتقنيات المساعدة على مواجهة ما أسمتهم “الأصوليين الإسلاميين” أو “المتطرفين”.

يُقارن التقرير بين الخطر الذي واجه الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي والخطر المتمثل بما سمته الأصولية أو التطرف الإسلامي، ويدعو إلى الاستفادة من خبرات الحرب الباردة وتوظيفها في هذا الصراع الأيديولوجي، عن طريق إنشاء شبكات اعتدال تتبنى الديمقراطية والرؤية الغربية للحياة السياسة التي أجدت نفعاً في الحرب الباردة إذ يقول التقرير: ” فبدلاً من تدفق الأفكار الشيوعية الى الغرب عبر الاتحاد السوفييتي ومنظماته الطليعية، أمكن تسريب الأفكار الديمقراطية الى ما وراء الستار الحديدي عبر شبكة معلومات حديثة التأسيس “(2)،

فروق بين الحالتين السوفيتية والإسلامية

لكن ثمة فروق بين الحالتين السوفيتية والإسلامية لم يغفلها التقرير من أهمها:

الوجود العميق والقديم لمؤسسات المجتمع المدني – الذي يمثل القناة التي يمكن تسريب الأفكار الديمقراطية من خلالها – في أوروبا، في حين أن دول العالم الإسلامي لا توجد فيها هذه المؤسسات وإن وُجدت فهي تتسم بالهشاشة الشديدة، الأمر الذي يوجب تمكين هذه المؤسسات وإنشاء ما يسمى بـ ” شبكات الاعتدال”

ثانياً : الفرق في التراث النظري أو البنية التحتية الفكرية بين الإسلام والأيديولوجية الشيوعية مما يعطي صلابة دفاعية أكبر في الحالة الإسلامية تجاه الأفكار الوافدة

ثمّ يعرض التقرير لما أسماه شركاء محتملون وهم خمس فئات تتمثل بـ:

1-الأكاديميين والمثقفين من علمانيين وليبراليين

2-علماء الدين والشبان المعتدلين

3-النشطاء الاجتماعيين

4-المجموعات النسائية المنخرطة في حملات المساواة بين الجنسين

5- الصحفيين والكتاب المعتدلين

ويرى التقرير وجوب تقديم الدعم لهذه الفئات لأجل ما أسماه ” تسوية أرض الملعب ” إذ يرى كُتّاب التقرير أن الأصوليين يتفوقون على الفئات آنفة الذكر بضخامة الموارد وشبكة علاقات متسعة على نطاق دولي

ومن بين هذه الفئات يأتي التركيز على فئة الليبراليين وتفضيلهم على العلمانيين لميزة هامة وهي أن العلماني لا يُقيم مقولاته الفكرية التي يصدرها للمجتمع على أساس ديني فتأتي مباشرة وساذجة بحيث تسبب النفور من قبل المجتمع، وهذا ما جاء في التقرير السابق لهذا التقرير الذي صدر في فبراير عام 2005 بعنوان ( الإسلام الديمقراطي المدني ) إذ يقول التقرير : ” لكن العلمانيون غير مرحب بهم كحلفاء نظراً لانتماءاتهم الأيديولوجية المتحررة، فضلاً عن أنهم يعانون في مخاطبة الشريحة الملتزمة دينياً من جماهير المسلمين ” (3)

الحرية الليبرالية مع الإقصائية المعتزلية

 بينما يستند الليبرالي فيما يولده من أفكار ورؤى، على نص ديني بغض النظر عن مدى تشوه تلك الأفكار والرؤى وتأصيلها العلمي الشرعي، لكن مجرد كونها تُعزى إلى مرجعية فهذا يضفي عليها شيئاً من الشرعية، أو على الأقل يقلل من حساسية المجتمع تجاهها، وهذه التقنية التي يمارسها الليبراليون أعني تقنية تفريغ المفاهيم الشرعية من محتواها وحقنها بمضامين أجنبية عن روح الشريعة لكي تكون مألوفة ومتقبلة، ليست تقنيةً جديدة في الساحة الإسلامية الفكرية، فقد استخدمها من قبل الفلاسفة في حالة الجدل الإسلامي الفلسفي، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ” يعبرون بالعبارات الإسلامية القرآنية عن الإلحادات الفلسفية واليونانية ” (4)  وينقل ابن تيمية عن الإمام الهروي المتوفى سنة 396 هـ عبارةً توضح لنا رصداً مبكراً لهذه التقنية من قبل العلماء إذ يقول: ” قال شيخ الإسلام الهروي فيمن هو أحسن حالاً من هؤلاء من أهل الكلام، قال: أخذوا مخ الفلسفة ولبسوه لحاء السنة ” (5)

ويبدو أن كُتاب التقرير مَعنيّون بتثبيت أقدام الليبراليين فنجدهم يعيدون تثوير فكرة أن الليبرالية بوصفها عقلية تنظيرية ومنهجاً تأويلياً لها سلف في التراث الإسلامي يتمثل بمذهب المعتزلة، وهذا عجيب فكيف تجتمع الليبرالية المتمحورة حول الحرية مع الإقصائية المعتزلية، فالمعتزلة يتفرّدون مع الخوارج في  التكفير بالكبيرة، وفي عهد سطوة المعتزلة حصلت فتنة خلق القرآن التي كان يُخيّر فيها المسلم بين السيف والإقرار بخلق القرآن فأي نقيض للحرية بعد هذا !

 وقد تتبع عملية تنسيب الليبرالية للمعتزلة هذه الباحث إبراهيم السكران في كتابه ( التأويل الحداثي للتراث ) فوجدها نشأت عند المستشرق الألماني (فان إس)، ثم نقلها عنه فهمي جدعان الى العالم العربي. (6)

ثم يناقش الكتاب قضية إعادة تحرير مفهوم الاعتدال، فقد تبين لهم أن بعض من حسبوهم معتدلين كانوا يمارسون تكتيكات تضليل، وتبين لاحقاً أنهم غير معتدلين عند اشتعال قضية إسلامية حساسة مثل قضية “الرسوم المسيئة” فيضع التقرير عدة معايير لإعادة تعريف المعتدل أهمها: الإيمان بالديمقراطية ولكي يكون المعيار أكثر دقةً يضيف التقرير قيداً هو ” الديمقراطية وفق التقاليد الليبرالية الغربية ” ولماذا تعتبر الديمقراطية قضية مركزية في مفهوم الاعتدال الأمريكي؟

تسوية أرض الملعب!

في تقديري هذا جزء من استراتيجية “تسوية أرض الملعب” لأن الديمقراطية وفق المعايير الغربية تكفل حرية التعبير وتكفل حرية التدين وعدم التدين كما يذكر التقرير بالحرف، الأمر الذي يكفل تعطيل المناعة المجتمعية ضد الأفكار الشاذة، مما يؤدي إلى المقصود الرئيسي من التقرير وهو إنشاء شبكات اعتدال إسلامي تشكل جبهة دفاع متقدمة تابعة للغرب في داخل العالم الإسلامي كما حصل في حالة الحرب الباردة من دعم للمنظمات الديمقراطية في العمق السوفييتي، ثم يقدم التقرير مجموعة من الأسئلة تمثل جهاز قياس لنسبة الاعتدال للتمييز بين المعتدل وغير المعتدل بدقة شديدة بحيث لا يبقى للإسلاميين الحركيين مجال للمناورة السياسية وإخفاء أجندتهم الأصولية، وفي هذا المبحث يقدم التقرير ملحظاً مهماً يعبر عن وجهة نظرهم في الجدل الداخلي الدائر حول قضية ( الديمقراطية في الإسلام ) إذ يقول :

” ويتمسك بعض المسلمين بالرأي الغربي القائل بأن القيم الديمقراطية قيم عالمية غير مرتبطة بأية سياقات ثقافية أو دينية في حين يتمسك مسلمون آخرون بأن الديمقراطية في العالم الإسلامي يجب أن تنبني على التقاليد والنصوص الإسلامية، والمهم في كلتا الحالتين النتائج، فسواء كانت الديمقراطية فلسفة سياسية نابعة من مصدر غربي أم قرآني فالعبرة هي بوجوب دعم التعددية وحقوق الإنسان دعماً مطلقاً لا يشوبه تردد” (7)

ولا شكّ أن الطرف المُؤصّل للفلسفة الديمقراطية شرعياً هو الأمثل، لأنه سيساعد على تقبلها مجتمعياً

ونلاحظ في التقرير أيضاً تركيزاً على دعم التيار النسوي، وبالنظر الى خلفية كاتبة التقرير شيريل بينارد نجد أنها إحدى كبار النسويات في أمريكا ولها اهتمام واسع في قضية تمكين المرأة، ومن الطريف أن بينارد في كتاب ( الإسلام الديمقراطي المدني ) لم تكتفِ بوصفها باحثة بالتحليل والوصف لحالة المرأة في الإسلام والعالم الإسلامي بل بلغت مرتبة الاجتهاد والفتوى حيث قالت أن الحجاب ليس فريضة صريحة في الإسلام أصلاً وأن قصارى ما في القرآن هو الحث على الحياء والاحتشام، وينطلق التقرير في دعوته لدعم التيار النسوي من فرضية مفادها أن تبعية المرأة مسألة محورية في بناء الإسلام الراديكالي المحافظ

كذلك يجد التقرير أن مشكلة المساواة بين الجنسين تمت تسويتها نوعاً ما في بلاد إسلامية مثل إندونيسيا، حيث تعمل النساء كقاضيات شرعيات، وتؤلف زوجة الرئيس الأندونيسي السابق عبد الرحمن وحيد دراسات في التفسير تحارب تعدد الزوجات وتعيد تفسير المفاهيم والأوامر القرآنية.

شركاء مُحتملون تتهمهم مجتمعاتهم!

أما فيما يتعلق بتقديم الدعم لمن أسماهم التقرير ” شركاء محتملون ” فهناك عقبة تتمثل بكون المنظمات والأشخاص الذين يتلقون دعماً غربياً يكونون موضع تهمة في المجتمعات الإسلامية، وهذه نُهزة لا يوفرها الإسلاميون في الصراع الفكري مع المؤسسات المدعومة غربياً وهذا الأمر مُدرك في السياسة الأمريكية فبحسب وكالة رويترز يقول بول أوبرين نائب رئيس قسم السياسة في منظمة الإغاثة الدولية أوكسفام أمريكا: ” بعد أن أصبح جدول أعمالنا العام، الخاص بالتنمية العالمية ذا مدى أقصر ومُسيّساً لتحقيق مصالح وطنية أضيق مثلما حدث في العراق وأفغانستان قلت الثقة في جدول أعمالنا الداعي إلى الديمقراطية “

لذلك يرشح التقرير تقديم الدعم بشكل سري للحفاظ على مصداقية ونزاهة المَدعومين على أنه يُقرر وجود شخصيات قد كسرت الحاجز بترحيبهم بالدعم الأمريكي إذ ينقل عن نجيب محفوظ قوله :

” ما وجه الخطأ في رغبة الأمريكيين في أن تكون لدينا ديمقراطية ؟ إن مصالحنا يمكن أن تتوافق أحياناً ” (8)

 من الأمور الهامة التي جاءت في التقرير التوصية بالعمل على عكس مسار الأفكار بجعلها من الأطراف الى المركز، إذ يلاحظ التقرير أن الأطراف البعيدة عن مركز العالم العربي الإسلامي أكثر قابلية لتبني الأفكار المعتدلة بحسب تعريفهم للاعتدال، فبدلاً من السماح للمركز بتصدير أفكاره إلى الأطراف يجب الضغط والتوسيع لعكس عملية تدفق الأفكار، فإن لم يكن للأطراف تأثير على المركز تكون الفائدة في الحفاظ على المكتسبات الموجودة في الأطراف، ويركز التقرير على ما أسماه في عنوان الفصل السابع

( الدعامة الجنوب شرق آسيوية للشبكة ) وبالتحديد على أندونيسيا فهي بحسب التقرير بيئة مثالية للانطلاق منها إلى المركز أو لتوسيع شبكات الاعتدال، فعلى سبيل المثال في أندونيسيا توجد أجرأ مؤسسة ليبرالية إسلامية في جنوب شرق آسيا كله كما يصفها التقرير وهي ” الشبكة الليبرالية الإسلامية ” فضلاً عن الاستفادة من التكتل البشري الإسلامي الكبير الموجود في أندونيسيا 231 مليون نسمة 86.7% منهم مسلمون

ومن الأمثلة التي يطرحها التقريرعلى خصوبة البيئة الفكرية والاجتماعية في الأطراف للعمل فيها مقارنة بالمركز الفتوى التي جاءت في نهاية التقرير صادرةً عن المفوضية الإسلامية في إسبانيا القائلة بتكفير أسامة بن لادن وتنظيم القاعدة ..

ويقدم التقرير في نهايته نتائج وتوصيات عملية لإنشاء شبكات اعتدال إسلامي، ويمكن اعتبار هذا التقرير نموذجاً تفسيرياً تُفهم من خلاله عقلية الإدارة الأمريكية في التعامل مع الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر

 المراجع :

 موقع مؤسسة راند الرسمي https://www.rand.org/about.html(1):

(2): بناء شبكات اعتدال إسلامي، شيريل بينارد، ترجمة : ابراهيم عوض، مركز تنوير للنشر والإعلام، الطبعة الأولى، ص:20

(3): الإسلام الديمقراطي المدني، شيريل بينارد، ترجمة : ابراهيم عوض، مركز تنوير للنشر والإعلام،  الطبعة الأولى، ص: 15

ابن تيمية، مجموع الفتاوى، ص (15/151) (4):

(5):ابن تيمية ، مجموع الفتاوى، ص (7/597)

(6): التأويل الحداثي للتراث، ابراهيم السكران، دار الحضارة، الطبعة الأولى، ص: 251

7-(7):بناء شبكات اعتدال إسلامي، شيريل بينارد، ترجمة : ابراهيم عوض، مركز تنوير للنشر والإعلام، الطبعة الأولى ، ص:1088 -المرجع نفسه، ص :(8)

زر الذهاب إلى الأعلى