الإمامة وقدسية النسب: الخلاف الذي أسس لأكبر شرخ في الإسلام
إن معاوية وبني أمية بعده، لم يقولوا نحن أحق بالخلافة بناء على النسب، وإنما بناء على تاريخهم السياسي الطويل سواء في الجاهلية أو صدر الإسلام

فاروق شريف – العربي القديم
“وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان”
هذه المقولة للشهرستاني في كتابه (الملل والنحل) تضع يدها على جرح أعظم خلاف حصل بين المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم كان هذا الخلاف مفتاحًا لحروب طويلة ونشوء فرق وجماعات دينية أصل منشأها الخلاف السياسي، بين طرف يرى الإمامة متعلقة بالمقدرة على حكم الدولة وإقامة العدل بين رعيتها من الحزب القرشي اعتمادًا على ظرف اجتماعي له أبعاد عرفية وتقليدية تمتد جذروها إلى الجاهلية، وبين طرف آخؤر يرى الإمامة تنطلق أساسًا من قدسية النسب، والحديث هنا عن أول خلاف حصل بين المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
سقيفة بني ساعدة
فمن المسلّم به والمقطوع تاريخيًا أنه بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة لاختيار خليفة منهم باعتبارهم أهل البلد وأنصار الله
كما هو واضح من برنامجهم الانتخابي بمفهوم هذه الأيام عندما احتجوا على كبار المهاجرين في السقيفة الذين بدورهم قدموا برنامجًا انتخابيا قائما على قاعدة أن الخلافة لابد أن تكون في قريش ليس لقرابتهم من النبي الكريم وإنما لأن لقريش مكانة عظيمة في نفوس العرب في الجاهلية ولا يمكن أن تجتمع على رجل إلا منهم وكذلك احتج المهاجرون بأحاديث وردت عن النبي الكريم خرجها مسلم في صحيحه في كتاب الإمارة وكلها تنص على أن الإمامة في قريش، فرضي الأنصار وسلموا دون أي احتجاج أو مماطلة وبادروا إلى انتخاب أبي بكر باستثناء ما يذكر عن رفض سعد بن عبادة المبايعة.
وبين هذين الحزبين القرشي من المهاجرين والمدني من الأنصار كان ثمة حزب ثالث له دور كبير في بلورة فكرة الأحقية بالإمامة اعتمادًا على النسب والقرابة من الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه النظرية وبالًا على الأمة الإسلامية بكل أبعادها وكانت النواة لنشوء فرق الباطنية وقيامها بدور تدميري للهوية الإسلامية.
هذا الحزب يقوده علي بن أبي طالب ويؤازره في ذلك عمه العباس، فلقد جاء في صحيح البخاري برقم 4447، أن العباس طلب من علي أن يسأل النبي عن الخلافة من بعده في مرضه الأخير لكن عليًا رفض ذلك وقال: إنَّا واللهِ ، إنْ سألناه فَمنَعَناها لا يُعطيناها النَّاسُ بعدَه أبدًا ، وإنِّي والله لا أسألُها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ أبدًا.
لماذا لم يحسم الرسول الإمامة من بعده؟
امتناع علي عن سؤال النبي يؤكد عدم ثقته بحسم مسألة الإمامة لصالحه وكذلك خوفه من خروجها من يده ويد أبنائه أبد الدهر، كما يعد هذا النص قاطعًا في إبطال حديث غدير خم بالألفاظ التي تشير إلى خلافته سواء بنص خفي أو جلي.
بعد وفاة النبي الكريم واجتماع الناس على بيعة أبي بكر امتنع علي عن البيعة في رهط بني هاشم ومعهم الزبير وظل 6 أشهر لم يبايع حتى رأى تغير وجوه الناس عليه بمعنى أصبح الناس يتجهمون في وجهه لومًا له على امتناعه عن بيعة أبي بكر فقرر أن يبايعه نهاية الأمر وقال كلمات تعد واضحة وصريحة في اعتقاده أنه أحق بالخلافة من غيره بسبب قرابته من النبي صلى الله عليه وسلم، إذ روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة، أن عليا عندما بايع أبا بكر قال له: إنَّا قدْ عَرَفْنا فَضْلَكَ وما أعْطاكَ اللَّهُ، ولَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا ساقَهُ اللَّهُ إلَيْكَ، ولَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عليْنا بالأمْرِ، وكُنَّا نَرَى لِقَرابَتِنا مِن رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَصِيبًا.
هذه الأحاديث تنفي ما يقال عن زهد علي في الخلافة ورفضه له بل تنص على حرصه عليها واستمرار حرصه عليها حتى في خلافة عمر بن الخطاب وفي قضية الشورى بعد مقتل عمر، حيث روى البخاري في قصة الشورى أن عليا عندما كلمه عبد الرحمن بن عوف وهو أحد أعضاء الشورى بشأن الخلافة خرج علي من عند عبد الرحمن بن عوف وهو على طمع بأن يتم اختياره.
فتنة مقتل عثمان!
لكن نتائج الانتخابات التي جرت بين عثمان وعلي إن صحت التسمية كانت في صالح عثمان بن عفان فاختاره الناس بالغالبية العظمى كما يقول عبد الرحمن بن عوف، لم أر أحدا يعدل بعثمان بعد ثلاثة أيام أمضاها وهو يسأل الناس عن مرشحهم المفضل حتى أنه سأل قادة الجند والولاة والأطفال في الكتاتيب والنساء في خدورهن، وكلهم مجمعون على تقديم عثمان، وهذه القصة يرويها البخاري ومسلم ووردت بطولها في البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي.
بعد مقتل عثمان وانفراط عقد الدولة ودخول المدينة المنورة في فوضى عارمة سارع قتلة عثمان إلى علي وراودوه على قبول الخلافة، رغم أن ابنه الحسن وكذلك ابن عمه عبد الله بن عباس ألحّا عليه بعدم قبول الخلافة في هذا الظرف العصيب لكن عليّا أصر على استلام المنصب والدخول في أتون حرب خطيرة كانت القاصمة لظهر الدولة الإسلامية والمبتدأ لنشأة فرق وجماعات دينية كان أولها الشيعة السبئية الذين اعتمدوا في ترويج أطروحاتهم من موقف علي من بيعة أبي بكر فرأوا في مواقف علي السياسية المحضة موقفا دينيا مبينا على أن عليّا كان منصوصا عليه من النبي وهو وصيّه وإمام منصب من عند الله، فانتقل الأمر من التشيع السياسي إلى التشيع الديني وأخذت الإمامة مع مرور الزمن تأخذ أبعادًا دينيا مثلتها الشيعة بفرقها من اثني عشرية وإسماعيلية وزيدية وغيرها.
الكفاءة لا النسب
وبالعودة إلى الفتنة الكبرى التي خلفت آلاف القتلى وانتهت باجتماع الناس على معاوية بن أبي سفيان الذي يعد مؤسس الدولة الأموية، إلا أن القارئ والناقد للتاريخ يجب أن يقر بحقيقة أن معاوية وبعده بنو أمية لم يقولوا نحن أحق بالخلافة بناء على النسب بادئ الأمر، وإنما بناء على تاريخهم السياسي الطويل سواء في الجاهلية أو بواكير الإسلام والأيام تشهد لهم حسن سياستنا للأمور وقدرتهم على قيادة الناس كما تشهد لهم منجزاتهم المادية على أرض الواقع.
جاء بنو العباس بعد الأمويين وعلى أنقاض دولتهم، حاملين شعار “الرضى من آل محمد”، واعتمدوا على قدسية النسب للمطالبة بالحكم وكان شعارهم هذا لكل الدول التي ثارت عليهم، من أدراسة وفاطميين عبيديين وبويهيين وقرامطة وحشاشين وأشراف في العهد العثماني، كلهم يعتمدون على قدسية النسب إلى آل البيت في استحقاق الإمامة، ويعود منشأ هذه الفكرة كما ذكرنا في المقدمة إلى خلاف علي مع الصحابة معتمدا على قدسية النسب، وهي فكرة لم ينص عليها النبي الكريم ولم يعتمدها أساساً، بل كان عليه الصلاة والسلام يعتمد الكفاءة في الإمارة السياسية كما ورد عنه أنه قال لأبي ذر: “إنك امرؤ ضعيف عندما طلب الإمارة وقال له إنها حسرة وندامة إلا من أخذها بحقها” والحق هو حسن تدبير الأمور والقدرة على قيادة الناس بما يضمن حقوقهم ويحفظ أعراضهم وأموالهم ودماءهم.
وفي نهاية المطاف لا بد من لفتة إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام هو من حذر من مشروع هاشمية النسب من أجل الحكم والتسلط على رقاب العباد، إذ روى ابن حبان والطبراني وأحمد وغيرهم بسند صحيح من حديث معاذ بن جبل أن النبي عليه السلام قال: إنَّ أهلَ بيتي هؤلاءِ يرَوْنَ أنَّهم أَوْلى النَّاسِ بي وإنَّ أَوْلى النَّاسِ بي المتَّقونَ مَن كانوا وحيث كانوا، اللَّهمَّ إنِّي لا أُحِلُّ لهم فسادَ ما أصلَحْتَ وايمُ اللهِ لَيَكفَؤونَ أمَّتي عن دِينِها كما يُكفَأُ الإناءُ في البَطحاءِ .