نصوص أدبية || حوارٌ غيرُ مكتمل ( 1 )
والله، لا أكره الشَّام، بل أقول ما في قلبي، وقد أندم، وهو ما تكرَّر كثيرا؛ لكنَّني سأظلُّ أقول

قصة قصيرة كتبها: موسى رحوم عبَّاس
… قلتُ لكَ أكثر من مرَّة، إنَّ المدن مثل النِّساء، بعضها تستلطفه، لكنَّك لا تختار قربه، وبعضها تنفرُ منه، وتهرب بعيدا، وآخر تسقطُ في شِراكه، وتخرُّ صريعًا، وتبحث عن وسيلة تجعلك تستنشق عطره، تقول إنَّني أبالغ في خبرتي بالمدن والنِّساء، حسنًا، لكنَّكَ تعرفُ أنَّني مررتُ في حياتي المتعثِّرة بمدنٍ لا تحلمُ بمعرفتها، ولن أكترثَ لاستفزازاتك هذه، خُذْ هذه الأمثلة، لوس إنجلس مدينة رائعة قريبة من القلب، بحرها، شواطئ السانتا مونيكا، أهلها، نساؤها، هوليوود، يونيفرسال ستوديو، مسارحها، البيفرلي هيلز… كلُّ شيء، لكنَّني لم أستطعِ البقاء فيها سوى أشهر، جنيف، باريس، استوكهولم، كانْ، نيس، مدن جميلة، تشبه صديقة جميلة تراها صُدْفة في مطار، أو محطة مِترو، تدعوها لحانة، مقهى، مطعم، شقتك، سريرك، ثم تفترقان، ولا تتبادلان حتى أرقام الهاتف! واستانبول، فيينا، والقاهرة، و… أظن أنَّك تستعدُّ للهجوم، بأنَّني أستعرض تجوالي في هذا العالم، وأتفاخر عليك، ونحن في هذه الحافلة المُكتظَّة بالنَّاس مُتَّجهين إلى الشَّام، أو دمشق كما يكتبونها في لوحات الإعلان، الهواء أصبح فاسدا، رائحة السَّجائر، والعرق، والخوف كلُّها تصبح شيئا خانقًا، دبِقًا، يلتصق بالوجوه، ويجعل التَّنفس متحشرجا، وأظنُّ أنَّني عرفتُ ما تريد، حسنًا يا سيِّدي أنتَ، الشَّام هي مدينة لا تنتمي لتلك المجموعات، لماذا كان استعراضي السَّابق، لا أعرف، هل قمتَ أنتَ بأعمال كثيرة، أو قلتَ كلاما، ثم سألتَ نفسك عن المناسبة، ولم تجدها!
هكذا أنا، في كثير من الأحيان نقول كلامًا، ونتمنَّى لاحقًا لو أنَّنا خرسنا، ابتلعنا ألسنتنا، مَرَّة ضحكتُ أثناء إلقاء كلمة الحزب في نقابة المعلِّمين، والله، وما لك عليَّ يمين، مجرد ضحكة، ألقتْ بي مسافة خمسين كِيلًا عن المدينة، عن الرَّقة، حذفوني مثل كيس شعير إلى قرية، ليس فيها سوى بضعة أولاد وبنات، والمختار، وأمين فرقة الحزب، وغرفة من الطين تسمَّى مدرسة، وسمَّوها باسم رجلٍ، قالوا عنه شهيد، وأنا لا أعرف أين كانت شهادته، الرَّفيق نضال الشيخ حسن أمين الفرقة الحزبية تشاءم من وجودي، وحذَّرني بأنَّه سيحذفني إلى آخر ما عمَّر الله، إذا ماعدتُ للحَطِّ من قيمة الثَّورة وقادتها، هكذا قال، وأنا – كما تعلم- لا أعرف حدود آخر ما عمَّر الله، ولا أظنُّك تعرف أيضا، ربما حتى القائد لا يعرف! فالله واسع عليم، وبيده طيُّ السَّموات والأرض، تقول لي، ماذا عن الشَّام، يا سيِّدي، مَلَّا أنتَ، الشَّام تشبه الأسمال المرقَّعة، ثوب قديم، ورقعة جديدة، شيء مثير للسُّخرية، تمشي في شوارعها وحاراتها حتى الرَّاقية، خُذْ مثلا المالكيّ الحيّ الشَّامي الغالي جدا، الذي يسكنه عِلْية القوم وأسافلهم، تجارهم ولصوصهم، زُوان البلد، وحِنْطة الجَلَب، انظر إليه، لا شيء يلفت النَّظر في مِعْماره، لم أرَ بناية ذات واجهات مميزة في تصميمها، أو مواد تنفيذها، أقواس نوافذها، تيجان أعمدتها، مع أنَّ الحجر الرَّنكُوسي أجمل حجر في هذه البلاد، لا يبعد سوى أقلّ من مئة كِيلٍ! حتى المزَّة وفيلاتها، رقع جديدة في ثوب قديم، لا، لا، والله، لا أكره الشَّام، بل أقول ما في قلبي، وقد أندم، وهو ما تكرَّر كثيرا؛ لكنَّني سأظلُّ أقول، وماذا أقول فيما يُسمَّى “مدينة الياسمين” يا رجل! أين هو هذا الياسمين! في الدُويلعة، دفّ الشُّوك، الطبَّالة، دُمَّر البلد، التَّضامن، السَّيدة زينب، جمعيات قُدسيا، جسر الرَّئيس، هو صحيح جسر الثَّورة أم جسر الرَّئيس، وهذا الأخير وحده حكاية، جسر أم دورة مياه مفتوحة، وحتى الكتب التي تباع تحته، لم تشفعْ له بكم ” سطل مَيَّ” وقليل من الصَّابون لشطفه!
عندما تعضُّ شفتك السُّفلى، وتفرك يديك بقوَّة، أعرف أنَّك معترضٌ، بل مُنكرٌ لِمَا سمعتَ، اسمعْ، كلُّ هؤلاء الشُّعراء والشَّواعر المفتونين بالياسمين هم يخترعونه رغائبيا، ما ذا أقصد ب”رغائبيا”؟ يعني خذ مثلا أنتَ تتمنَّى أن تهزم العدو، وكلُّنا كذلك، لكنَّك تتعمَّق في الحلم، تغرق في تفاصيله؛ فتكتب، لقد انتصرنا، وكذلك انتصرنا مثل هذا الانتصار في حرب حزيران، منذ أكثر من خمسين سنة، وبعدها انتصرنا في السَّبعينيات، والثَّمانينيات، وفي كلِّ عشر سنوات نحقق الانتصارات، مليون مرَّة عرضت عليك قراءة فرُويد، سيجموند فرُويد، هذه مكبوتاتنا يا صديقي، أنا الأحمق الذي أكلِّمك عن “المكبوتات” أساسًا، أعرفُ أنَّك تقول عني بأنِّي متحاملٌ على التَّاريخ، أنتَ مثلا عندما اختلقتَ قصَّة غرامك بالدكتورة سوسن عبد المسيح، التي دعتكَ لفنجان قهوة بعد إجراء عملية مُعقَّدة لطفلٍ مُصابٍ بورَمٍ دماغيٍّ، هي أعجبت بمهارتك الجراحيَّة، وأنتَ أعجبتَ بسيقانها المكشوفة، وقلتَ لي، يارجل، كأنَّها قُدَّتْ من رُخام أبيض، وأنا أعرف أنَّ سوسن سمراء، صحيح أنَّها جذَّابة، لكنَّها سمراء، ولكنَّك تصرُّ في كلِّ رواية لما حدث بينكما بأنَّها رخام أبيض، وأنَّها غارقة في جُبِّ حبك، حتى إنَّك طوَّقت عنقك بسلسال ذهبي يحمل الحرف ( S ) وصرتَ تفتح الزِّرَّ العُلويَّ في القميص، وعندما يسألك أهل الرَّقة عنه، وهم كما تعرف، يتدخَّلون في كلِّ شيء، كنتَ تقول هذا أول حرف من سوريا وطني؛ فازداد عدد مرضاك في العيادة، وفي كلِّ خيمة عزاء، كانوا يقولون، الحكيم ناصر العليوي؛ فتنهمر كلمات ” ونِعمْ” من كلِّ صَوْبٍ في المجلس! تهزُّ رأسك، نصف اقتناع، لا بأس، انظر إلى هذه الشَّاحنة، واقرأْ ما هومكتوبٌ على مؤخرتها، حسنًا، قرأتَ ” أن تأتي متأخرا خيرٌ مِنْ ألا تأتي” قلتَ لي الشَّام، دمشق، الياسمين الذي تذكره القصائد، ربَّما جفَّ من الخمسينيَّات، ونهايتها تحديدا، عندما كُنَّا الإقليمَ الشماليَّ، وكان لنا إقليمٌ جنوبيٌّ، أظنُّه خطأ شنيع في الجغرافيا، فبلادنا ليست شمالًا، ولا مصر جنوبًا، شمال مَنْ، وجنوب مَنْ ؟! ربَّما نحن شرقٌ، وهم غربٌ، ماذا تقول؟ شرق أوسط، حتى هذه خطأ جغرافيٌّ شنيعٌ، كيف يعني شرق أوسط، شرق مَنْ، وغرب مَنْ؟ هم شمالٌ، ونحن جنوبٌ، والشَّمال شمال، والجنوب جنوب، قلتَ لي الشَّام وافقتْ أن تكون شمالًا ” بكيفهم” أنا غير موافق، وأنتَ تقطع حيَّ البرامِكة لن ترى ياسمينًا، وعندما تهرب من المُخيَّم إلى طريق الكِسْوة درعا، سيلحقون بك، قبل أن تصل الحدود، حتى لو كنتَ تزرعُ الياسمين على رأسك، أو تصنع منه قلادة مثل الهنود في أعراسهم، الهند، لا، لم أزرها، قالوا إنَّهم يعبدون البقر، وأنا لا أشربُ الحليب، ولا آكل اللَّحم، يا رجل، قلتُ لكَ ألف مرَّة أنا نباتيٌّ، كيف آكلُ حيوانًا كان يركض أمامي قبل قليل، ويلاعب صغاره، مثل أمِّي، أمي كانت تبكي عندما أخذوا أخي الصَّغير بسيارة الشُّرطة، الشُّرطة أمِ المُخابرات لستُ متأكدًا، سياراتهم متشابهة، الكذب خيبة، كانوا يجرُّونه مثل الخروف، مزَّقوا ثوبه الجديد، ثوب العيد، الثَّوب الذي أرسله خالي من السُّعودية، مع تمر وماء زَمْزَم، وأنتَ تقول لي، لماذا لا آكل اللَّحم!
اللحم عندما يشوى، تنتشر رائحة “الكتار” بعيدا مثل غيمة، يفرك النَّاس أنوفهم، بعضهم يعطس، وبعضهم يختنق بريقه، ويسيل لعابه، ويغصُّ، إيشْ علاقة هذا بالشَّام، نعم، ثمَّة علاقةٌ ما، أنتَ متعجِّلٌ قليلا، لا ، ليس قليلا، بل كثير الاستعجال، النَّاس في قُرى ريف الشَّام كانوا يشتمُّون الرَّائحة من مسافة بعيدة، أيَّة رائحة! أقول لك رائحة “الكُتار” كما تسمِّيها جدَّتي، جدتي ماتت لكنها كانت سعيدة، ماتت قبل الحرب، دفناها في قبر كبير لوحدها، والله لوحدها! وكتبتُ على شاهدته اسمها بخطِّ الثُّلث، جدَّتي تحبُّ الأشياء الفخمة، هي لا تحب السَّكن الجماعي، ولا القبور الجماعيَّة، ولا الأمكنة الضيقة، وزرعتُ لها بجانب الشَّاهدة شجرة رمَّان، هي تحبُّ الرُّمَّان، أيُّ ” كُتار”؟ يا رجل، الكُتار هو رائحة الشِّواء.
تسألني: هل زرت كنيسة صيدنايا؟ ……………………………!
كنيسة السّريان في حلب جميلة، أحبُّ حلب، ليست مرقَّعة، مِعمارها أصيلٌ، الحجر الأبيض المشغول يعطيها هيبة، والقرميد الأحمر في حيِّ المحافظة يمنحها دفئًا عاليًا، القرميد الأحمر تركه الفرنسيُّون عندما رحلوا، لا أقصد أنَّهم رحلوا جميعا، المسيو شارل كاتوني وأولاده بقي فيها، رافضًا الهجرة منها، نعم، نعم، هو كما قلتَ من أصولٍ إيطاليَّة، لكنَّه يحمل الجنسيَّة الفرنسيَّة، وزوجته فيكتوريا جِرمانُوس أصَرَّتْ على التَّشبُّث ببيتها في حيِّ العزيزيَّة، يا أخي، هؤلاء خواجات يعرفون قيمة حلب، إيْ، حلب، حلب صارت شرقيَّة وغربيَّة، وجنوبيَّة وشماليَّة، الفرق شاسع بين الفُرقان والصَّاخور، نسيتُ أن أقول لك، بودابست مدينة تشبِّه الرَّقة، تضحك، لا بأس، أعرف أنَّ الرَّقة هامشٌ، بل هامشُ الهامشِ، لكن بودابست تشبهها، يمرُّ فيها نهر الدَّانوب من المنتصف، يقسمها إلى مدينتين، بودا و بِست، تحتار أيُّهما الأجمل، أقاموا عليه سبعة جسوربينهما، الفرات يمرُّ من الرَّقة، لكنَّه غير عادل، لا يقسمها في المنتصف؛ لذلك لم نُقِمْ عليه سوى جِسريْن، يمرُّمن طرفها الجنوبيِّ، نعم، مُتأكِّد من الجِهة، أنا لا أخطئ في الجغرافيا مثل أخطائهم الشَّنيعة، لهذا السَّبب أحببتُ بودابست، لكنَّني لم أستطع معرفة أيُّهما الأجمل؛ فهربتُ إحساسًا بالعجز، هذه عادةٌ، هي عادةٌ لي، أهربُ كلَّما أحسستُ بالعجز، وهأنذا هاربٌ إلى أقصى الشَّمال، أنا متأكِّدٌ من الجهة.
قد أخطئ في التَّاريخ أخطاء جسيمة، قلتُ سابقًا أنَّنا أقمنا جِسريْن، لا، الحقيقة أقمنا جسرًا واحدًا، الحاج صالح الغضبان ابن عمِّي بنى محطَّة بترول ضخمة في فم الجسر، أمَّا الآخر أقامه الإنكليز في ثلاثة أشهر، أقول الإنكليز، وليس الفرنسيون محتلي البلاد، الخواجات عفاريت، أنا أخطئ في التَّاريخ، قلتُ هذا، وأسمِّي الهزيمة نصرًا، واللُّصوص أبطالًا، وأصَلِّي عندَ قبورٍ خالية من أهلها، وقد أقدِّمُ لها الأضاحي، لكنِّي لا أخطئ في الجغرافيا، تسمعني، لا تهزّ برأسك كالبندول، قُلْ شيئا، قُلْ شيئا حتى لو كانتْ شتيمةً، عِتابًا؛ فالعِتابُ صابونُ القلوبِ، يا حكيم آل العليوي، هل سمعتَ، أنا قد أخطئ في التَّاريخ، لكنَّني لا أخطئ في الجغرافيا!
السويد إسكلستونا 2024
_____________________
*أديب سوري عضو اتحاد الكتاب في مملكة السُّويد ( SFF )