تمكين الجيل الشاب: حكاية شعب يصنع مستقبله
ا يمكن لسوريا أن تنهض دون تمكين هذا الجيل الذي أثبت شجاعته واستعداده للتضحية
نوار الماغوط – العربي القديم
الثورة السورية ليست مجرد محطة تاريخية في مسار بلد عانى طويلاً من الاستبداد، بل هي انعكاس عميق لأزمة هوية وطنية ومشروع طويل للتحرر من قيود الماضي. منذ انطلاقتها، حملت الثورة تطلعات شعب أراد أن ينتقل من الظلم إلى الحرية، من القمع إلى العدالة، ومن الركود إلى التقدم. إلا أن الطريق لم يكن ممهداً، فقد واجهت الثورة السورية تحديات عديدة، داخلية وخارجية، كان بعضها مرتبطاً بتباين الرؤى حول المستقبل، وبعضها الآخر بتشابك المصالح الدولية والإقليمية في مصير هذا البلد الجريح.
من بين المفكرين الذين حاولوا تفكيك تعقيدات المشهد السوري منذ بدايته، كان الدكتور طيب تيزيني، الذي شكلت رؤيته النقدية مرجعاً فكرياً لفهم أبعاد الصراع. تيزيني، الذي طالما تحدث عن حاجة سوريا إلى نهضة فكرية واجتماعية شاملة، رأى في الثورة فرصة لتحرير سوريا ليس فقط من النظام الاستبدادي، بل من التخلف الذي ترسخ في بنيتها السياسية والثقافية على مدار عقود. في أحد مقولاته الشهيرة، أشار إلى أن “الثورة الحقيقية ليست مجرد إسقاط للنظام، بل هي إعادة بناء شامل للإنسان والمجتمع”. هذه الرؤية تكشف عمق الإشكالية السورية؛ فالتغيير الذي ينشده الشعب لا يقتصر على السلطة الحاكمة، بل يمتد إلى البنية الاجتماعية والسياسية التي أفرزت هذا الاستبداد.
رياض الترك، الذي أمضى سنوات طويلة في السجن بسبب معارضته للنظام، كان واضحاً في تحذيراته من خطر استبدال استبداد بآخر. في واحدة من مقولاته الشهيرة، قال: “المستقبل يبدأ عندما ندرك أن التغيير ليس مجرد إسقاط وجوه، بل تغيير القواعد التي تدار بها الدولة”. هذا التصور يعكس عمق الأزمة السورية؛ فالثورة التي بدأت من أجل الحرية والكرامة بحاجة إلى مشروع وطني جامع يعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع. الترك، بتجربته الطويلة في العمل السياسي، شدد على أن نجاح الثورة يعتمد على تجاوز الانقسامات الداخلية وتأسيس نظام سياسي يحترم التعددية والشفافية.
الانتقادات التي وجهت للثورة، من الداخل والخارج، كانت تحمل بعداً ثقافياً متعالياً، كما في تصريح الشاعر أدونيس، الذي قال إنه لا يستطيع أن يؤمن بثورة تخرج من الجامع. أدونيس، الذي يمثل صوتاً نخبوياً علمانياً، أغفل في رأيه السياق التاريخي والاجتماعي الذي جعل من الجامع مركزاً للثورة. وكما أوضح تيزيني، فإن المؤسسات الدينية، ومنها الجامع، كانت ملاذاً للناس في ظل غياب أي مؤسسات مدنية بديلة بسبب سياسات النظام التسلطية. الثورة لم تكن تعبيراً عن مشروع ديني بقدر ما كانت انعكاساً لعفوية المجتمع وطبيعته، حيث اجتمعت الأغلبية المضطهدة في المساحات المتاحة لها، مطالبة بالحرية والكرامة.
شخصياً، كنت من الذين نصحهم البعض بعدم الانضمام إلى الحراك الثوري، بحجة أنني لن أستطيع التعايش مع ما وصفوه بـ”الأفكار الطقسية” التي باتت سائدة في بعض المناطق المحررة. لكنني رأيت أن الثورة مشروع وطني يتجاوز الأيديولوجيات، وأن قبول الاختلافات الفكرية والثقافية هو جزء لا يتجزأ من هذا المشروع. كان الدكتور طيب تيزيني يشدد في كتاباته على أن الثورة الحقيقية لا تعني إقصاء أحد، بل بناء شراكة وطنية تقوم على التنوع واحترام الآخر. في هذا السياق، يمكن فهم الثورة السورية باعتبارها لحظة انفتاح نحو المستقبل، وفرصة للتخلص من إرث الاستبداد بكل أشكاله.
إلا أن السنوات العشر الماضية أظهرت أن التغيير في سوريا ليس سهلاً. إسقاط النظام لم يتحقق بالكامل، والتحديات تعاظمت مع دخول الثورة في أتون صراعات إقليمية ودولية. تيزيني، الذي حذر من أن “الثورة التي لا تحمي نفسها بفكر نقدي ستسقط في فخ الفوضى”، كان يدرك أن نجاح أي مشروع تحرري يتطلب وعياً جماعياً قادرًا على تجاوز الأيديولوجيات الضيقة والعمل على بناء مؤسسات وطنية حديثة.
ما تحتاجه سوريا اليوم ليس فقط الخلاص من بقايا نظام بشار الأسد، بل أيضاً من التخلف الذي كرسته عقود من الاستبداد. تجارب دول مثل ماليزيا وتركيا تقدم دروساً ملهمة للسوريين. تلك الدول استطاعت تحقيق تحول نوعي عبر بناء مؤسسات قوية، وتعزيز الشفافية، وتمكين الشباب. وكما قال تيزيني، فإن أي نهضة حقيقية تبدأ بالإنسان، بإعادة بناء ثقافته ووعيه، وبمنحه الثقة في قدرته على المشاركة في صنع مستقبله.
الشباب السوري، الذي كان في طليعة الثورة، يجب أن يكون في قلب المرحلة القادمة. لا يمكن لسوريا أن تنهض دون تمكين هذا الجيل الذي أثبت شجاعته واستعداده للتضحية. يجب أن تُمنح الفرصة لهؤلاء الشباب لقيادة البلاد، مع وضع قواعد صارمة للمحاسبة والشفافية. وكما أشار تيزيني، فإن “المجتمع الذي لا يحاسب قيادته هو مجتمع يكرر استبداده”. هذا المبدأ يجب أن يكون الأساس في أي مشروع سوري جديد.
سوريا تحتاج اليوم إلى رؤية وطنية جامعة تعيد بناء الثقة بين مكوناتها المختلفة. الثورة لم تكن ملكاً لفصيل أو جماعة، بل كانت تعبيراً عن تطلع شعب بأسره إلى العدالة والحرية. تجاوز الانقسامات والعمل معاً لإعادة بناء الوطن هو السبيل الوحيد لتحقيق هذا التطلع. وكما شدد الدكتور طيب تيزيني مراراً، فإن “التغيير الحقيقي يبدأ عندما يدرك الجميع أن الوطن يتسع للجميع”.
الثورة السورية ليست مجرد حدث عابر، بل هي نقطة تحول تاريخية. النجاح في بناء سوريا الجديدة يتطلب شجاعة في مواجهة التحديات، ووعياً بأن التحرر لا يكتمل إلا عندما يشعر كل سوري أنه شريك في هذه الدولة، وأن حقوقه مصانة، وأن مستقبله في أيدٍ أمينة. سوريا تستحق هذه الفرصة، وتستحق أن تعود قوية وحرة، كما حلم بها أبناؤها يوم خرجوا يطالبون بالكرامة. رؤية تيزيني، التي ربطت بين التحرر السياسي والتحرر الفكري والاجتماعي، تبقى شاهداً على الطريق الذي يجب أن يسلكه السوريون إذا أرادوا بناء دولة حقيقية تتسع للجميع.
i4dokt