العربي الآن

أمة الاعتراف: الغرب، إسرائيل، والفلسطيني الذي لا يُمحى

بريطانيا التي زرعت بذرة المأساة تعود بعد أكثر من قرن لتقول: «ها نحن نقرّ بوجود فلسطين دولةً تستحق الاعتراف.»

محمد صبّاح* – العربي القديم

منذ اللحظة التي خطّ فيها آرثر جيمس بلفور عام 1917 تلك الكلمات المشؤومة التي وُصفت زوراً بـ«الوعد»، دخل العالم ــ ومعه فلسطين ــ في أفق مظلم لم يزل جاثماً على صدور الأجيال. وعدٌ صدر عن قوة استعمارية لم تكن تملك الأرض، وُجه إلى حركة صهيونية لم تكن تستحقها، على حساب شعب لم يُستشر، ولم يُسمع له صوت، وكأن الفلسطيني آنذاك لم يكن موجودًا إلا بوصفه «عائقاً» أمام المشروع الإمبراطوري. ومن تلك اللحظة بدأ تاريخ طويل من الخطيئة: استعمار منح مشروعية لاغتصاب وطن، وشرعنة لمأساة تتوارثها الأجيال، حتى غدت فلسطين رمزاً حياً لانكشاف قناع الحضارة الغربية.

 بريطانيا والخطيئة الأولى

لا يمكن قراءة اعتراف بريطانيا اليوم بفلسطين إلا من بوابة ذلك الوعد. فالتاريخ لا يرحم، والذاكرة الجمعية لا تمحو بسهولة. بريطانيا التي زرعت بذرة المأساة تعود بعد أكثر من قرن لتقول: «ها نحن نقرّ بوجود فلسطين دولةً تستحق الاعتراف.» لكن أي معنى لهذا الاعتراف بعد أن تحول «الوعد» إلى واقع، والواقع إلى مأساة دائمة؟ إنه اعتراف متأخر، نعم، لكنه يفضح ـ قبل أن يُكفّر ـ. يفضح منطق «الهيمنة الغربية» الذي منح لنفسه حق تقرير مصير الشعوب، ويكشف التناقض بين خطاب «الحرية» و«حقوق الإنسان» وبين ممارسة «الاستعمار المقنّن».

اعترافات متأخرة وصراعات راهنة

أوروبا اليوم، وعلى رأسها بريطانيا ودول الكومنولث مثل كندا وأستراليا، تميل إلى الاعتراف بفلسطين. هل هو شعور بالذنب؟ هل هو إدراك أخلاقي متأخر؟ أم هو محاولة لتعديل الكفّة بعد أن صار الاحتلال عبئًا أخلاقيًا وسياسيًا على الغرب نفسه؟ مهما تكن الإجابة، فإن هذه الخطوات ـ رغم رمزيتها ـ تحاصر إسرائيل في صورتها: دولة قامت على «النفي» و«الإقصاء»، وتستمر في البقاء عبر «إنكار وجود الآخر». لهذا يغضب اليمين الصهيوني ويستشيط: فكل اعتراف بفلسطين هو عملياً نزع لشرعية السردية الصهيونية، وتذكير بأن هناك شعباً اقتُلع وما زال حياً.

ألمانيا واليابان: صمت الذنب وصمت الحساب

أما ألمانيا واليابان، فقصتهما مختلفة. ألمانيا تحمل على كتفيها «خطيئة الأجداد»، فلا تجرؤ على لفظ كلمة قد تُغضب إسرائيل. النصب التذكاري في برلين شاهد حجري على ذنب لا يريد الألمان أن يتخففوا منه، حتى لو كان الثمن إنكار حق شعب آخر في الوجود. ومنذ مدة خرج المستشار ميرتس باكياً على «خطايا الأجداد» أكثر مما بكى اليهود أنفسهم، حتى استغرب بعضهم من هذا الإفراط في «جلد الذات»، وكأن ألمانيا وجدت لذتها الجديدة في «إحياء الذنب» بدل تصحيح نتائجه.

هنا يطلّ السؤال الفلسفي: هل يجوز أن تُسدد فاتورة الماضي بارتكاب جريمة جديدة في الحاضر؟ وهل تتحول الذاكرة إلى «عبودية أخلاقية» تمنع الإنسان من ممارسة «العدل»؟ أما اليابان، فتصمت في تقليدها البارد، تنظر إلى الصراع وكأنه لا يعنيها، مكتفية بحسابات الاقتصاد والسياسة.

 إسرائيل ومعادلة القوة والضعف

إسرائيل، التي تأسست على فكرة «الملاذ» لليهود، صارت اليوم تمارس أعتى صور «الطرد» و«الاحتلال» ضد شعب آخر. وكلما ارتفعت الأصوات الدولية للاعتراف بفلسطين، صارت تصرخ: «معاداة السامية». وهنا تنكشف المفارقة المدوية: إذ كيف يتحول الاعتراف بوجود شعب، وحقه في «الحياة» و«الحرية»، إلى معاداة لليهودية؟ إنه خلط متعمد بين «الدين» و«المشروع الاستعماري»، يراد به إسكات كل نقد، وتجريم كل تضامن مع الفلسطيني. لكن العالم بدأ يميز: لم يعد من الممكن أن يُبتزّ الضمير العالمي بلا نهاية.

فلسفة الاعتراف

الاعتراف في جوهره ليس توقيعاً على وثيقة، ولا هو مجرد إعلان دبلوماسي يتبادل فيه الساسة بيانات رسمية؛ الاعتراف هو فعل وجودي يقرّ فيه الفاعل بوجود الآخر، وبشرعيته، وبأنه لم يعد قابلاً للإنكار أو «المحو». في الفلسفة السياسية، يُعد الاعتراف لحظة تأسيسية: فهو يحرر الآخر من صفة «العدم» التي فُرضت عليه، وينتزع منه هوية مفروضة بوصفه مجرد «ظل» أو «عائق»، ليعيد إليه «إنسانيته الكاملة». ولهذا كان الاعتراف بفلسطين، ولو متأخراً، لحظة ذات طابع فلسفي قبل أن تكون سياسية.

هيغل تحدث عن جدل «السيد» و«العبد»، حيث لا يكتمل وعي السيد إلا حين يعترف بإنسانية العبد، والعكس صحيح. وإذا أسقطنا هذا على فلسطين، فإن إسرائيل ـ ومعها الغرب الذي يبرر وجودها المطلق ـ ظلت لعقود تمارس «إنكاراً تاماً » لوجود الفلسطيني، كأنه شبح بلا صوت. لكن كل اعتراف بفلسطين ينسف هذا البناء الهيغلي المعكوس، ويقول لإسرائيل: «لن تكتمل شرعيتك بإنكار الآخر، بل باعترافك بوجوده.» وهنا ينكشف عمق الأزمة: إسرائيل لا تستطيع الاعتراف، لأن مجرد الاعتراف بفلسطين هو اعتراف ضمني بأن نشأتها ارتبطت بـ«جريمة تاريخية»، وهذا ما تهرب منه بلا نهاية.

فلسفة الاعتراف تطرح سؤالاً صارماً على الضمير الغربي: كيف يمكن أن ترفع شعار «حقوق الإنسان» بينما تُنكر على شعب كامل حقه الأساسي في الاعتراف بوجوده؟ وكيف يمكن أن تُدين «إنكار الإبادة» في أوروبا، ثم تمارس «إنكاراً موازياً» للنكبة في فلسطين؟ إن ما يفضحه الاعتراف بفلسطين ليس فقط مأساة شعب، بل انهيار «منظومة القيم الغربية» حين توضع أمام «المحك العملي».

الاعتراف إذن ليس منّة من الغرب، ولا منحة من دولة هنا أو هناك؛ الاعتراف هو حق مسلوب يُستعاد. وكل تأجيل لهذا الاعتراف ليس إلا امتداداً لـ«جريمة بلفور» الأولى، حيث قررت قوة عظمى أن تمنح أرضاً ليست لها لشعب ليس موجوداً فيها، وتنكر بالمقابل وجود من عاش عليها لقرون. ومن هنا فإن الاعتراف بفلسطين اليوم هو تصحيح لمسار التاريخ أكثر من كونه إجراء دبلوماسياً، إنه إعلان عن نهاية مرحلة «الإنكار»، وبداية جدل جديد: جدل الاعتراف الذي يفرض على العالم مواجهة الحقيقة كما هي، لا كما أرادتها الصهيونية.

الخاتمة

الوعد الذي كتبه بلفور قبل قرن كان بداية مأساة، لكن الاعترافات المتأخرة اليوم قد تكون بداية مسار جديد. المسار ما زال طويلاً، والظلم لم ينته، وإسرائيل ما زالت تراهن على «القوة العارية»، لكن الحقيقة ـ وهي أعند من كل الأكاذيب ـ تتكشف يومًا بعد يوم. فلسطين ليست قضية يمكن محوها من السجلات، ولا شعباً يُمحى بالتهجير أو القتل. إنها الجرح الذي يكشف «عورات العالم»، والمرآة التي تُظهر «هشاشة حضارته»، والنقطة التي عندها يبدأ الضمير الإنساني امتحانه الأصعب: هل يظل أسير «الخطيئة» و«الازدواجية»، أم يملك شجاعة «الاعتراف الكامل بالحق»، مهما طال الزمن؟

______________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

زر الذهاب إلى الأعلى