تاريخ العالم

عبد الناصر له ما له وعليه ما عليه؟!

على استفزاز مقولة: “له ما له، وعليه ما عليه” لِمَا تُوحي به من حيادية، وشيء من التسليم، وأشياء من تَهَرُّبِ تحمُّلِ مسؤوليةِ “قول الحق” بيد أني رأيتها، ربما، الأنسب للكلام عن الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر.

وعلى الأرجح، زاد من جرأتي على استخدام هذا العنوان “التافه والمكرور” ما لاقيناه وعايشناه، بعد ثورات الربيع العربي، والأحداث برمتها نسفت كثيراً من القناعات، وما ظننّاها حقائق لعقود، إن على مستوى المتثاقفين والقادة والأحزاب، أو حتى على الصعيد الأشمل، من منظمات دولية، ودول لَبِسَتْ لعقود ثوب العدالة والديمقراطية مقلوباً.

فتلوَّنَ ما اعتبرناهم قواطر، وقَمَعَ حكامُ “زمن الرعيان” حلم الشباب العربي بالتطلّع للعيش الآدمي لدول، لا بمزارع، ولو عبر مدّ أيديهم -القادة- الملوّثة للأعداء التقليديين، والتاريخيين، بطهران، أو بموسكو، أو حتى ببعض القارة العجوز الذين عرّت ثورات الشعوب العربية ادعاءات ديمقراطياتهم، ونصرتهم لحقوق الشعوب.

دفعنا، ذاك وغيره، للعدّ للعشرة، والنفخ على الحليب، قبل التسرّع بالحكم على عبد الناصر، أو حتى الحبيب بورقيبة، بالاستناد إلى الذي قرأناه، أو أُريد لنا أن نقرأه، أو ما سمعناه، وسُمح لنا أن نسمعه، من مُغَيَّبِينَ مُحِبِّينَ لناصر سعوا لتأليهه، أو كارهين شيطنوا “أبا خالد” لدرجة التخوين والعمالة.

فأن نستمرَّ بالنظر لناصر كمُخَلِّصٍ، وساعٍ للوحدة، وتقوية الأمة، لا لمصرَ فحسبُ، بالاعتماد على تسويق أمنيٍّ كان سبَّاقاً به على صعيد المنطقة، أو موته مديوناً، وليس في جيبه سوى عشرات الجنيهات، فتلك الحماقة بعينها.

كما أن نتابع الغرق بمستنقعات المُخوِّنين لجمال، واعتباره متآمراً على الشعوب، ومؤسساً للاستبداد، بالاتكاء على أحاديث “البعثيين أو الإخوان” أو للذين يرون بأفعاله مسرحيات، كالاستقالة، واستقلال السودان، أو الحروب والتأميم، والمشاريع الاقتصادية، أو غدراً ووصولاً على فضائل الأصدقاء كتقييده لمحمد نجيب، فذلك هو الاستيلاب، وتأجير العقل، لمنع المحاكمة وفق النتائج.

قصارى القول: إن استخدم الراحل عبد الناصر، لاستمرار حكمه، وتخدير الشعب، شعارات عريضة، وأحلاماً واسعة، فحتى الديمقراطية، ورمي العدو بالبحر، لم تسلم من ادعاءاته، رغم حكمه الفرديّ، وانقلابه العسكري في يوليو 1952 على الملك فاروق، وما أتبعها من “توسّع” للحلم والديكتاتورية، كوحدته مع سورية، لينسف ملامح الديمقراطية، والتعددية الحزبية والبرلمانية، وحتى الاقتصادية بسورية وقتذاك، واقترافه “جرم” التأميم، ليبدد تطلعات لم تزل علامة فارقة بتاريخ سورية حتى اليوم. قبل أن يصف “انفصال أيلول 1961” بالخيانة والطعنة، وتتبدّل بعض قناعاته للعروبة، وحقّ الشعوب، إِنْ قبل تدخله بحرب اليمن، أو بعد هزيمة حزيران 1967.

لكن ذاك الناصر نفسه حاول، كما كُلَيبِ بن ربيعة بناء دولة، عبر تأميم قناة السويس، وبناء السدّ العالي، والتأسيس لصناعة وطنية تُغني عن المستورد، بعد أن وزّع الأراضي الزراعية، وفهم أن معادلة القوة تنطلق من الكفاية.

لنكون، بين هذا وذاك، أو بصيغة أدقّ، يُراد لنا أن نكون بتيه، وعدم تعيين، وقدرة على الحكم، على رجل ومرحلة، ربما هما من أهمّ فترات النزق، والمدّ القومي العربي، للتطلّع للقوّة.

نهاية القول: ربما لا أتعس، ولا أسوأ، ولا حتى أَظْلَمَ، من الحكم على أحداث، وشخصيات، ومجريات الماضي، بمسطرة وقناعات، وحقائق الحاضر، كما لا أسهل، ولا أيسر سرقة للضوء، كما اختصار الكلام بصفات مُعَلَّبَةٍ، وأحكام قيمة جامدة، من قبيل خائن وعميل، أو بطل، ورجل دولة.

فالتعميم أياً كان، قَتَّالٌ، فماذا لو كان بتشخيص، وتوصيف مرحلة وحكم، فحينذاك، تضاف الجهالة أو الغائية، وتستبعد ظروف المرحلة وتبعاتها عن أدوات المُوصِّف والمُحلِّل.

لذا، أعتقد، ولمجرد بقاء ناصر، بعد موته لنيف ونصف قرن مسموماً موضع جدل وخلاف، رغم مرور رؤساء، وزعماء، وانقلابيين عرب كثر، لهو دليل كافٍ على أنه امتاز، بما افتقر إليه سواه، من كاريزما وحلم، وبناء دولة…وإن بقيتْ ريادته بتأسيس الاستبداد، وتسلّط المخابراتية، وإرساء القطيعية، مآخذ دامغة قلما تحتمل الجدل.

منه وعليه وإليه، قلنا: له ما له وعليه ما عليه، من دون أن ننكأ جراحات نبشتها ثورات الشباب العربي، من قبيل أمراض المثقفين، وعمالة الحكام…أو حتى جهل جُلِّ المجتمعات العربية لدرجة انقيادها، لتجّار الدين، وجياع الحكي، ومرضى المناصب… ودور هذي الآثار مضروبة بألف، كانت متفشية بالمجتمع العربي، خلال حكم ناصر في خمسينيات القرن المنصرم.

_________________________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى