أرشيف المجلة الشهرية

عبد الناصر يخوض معركة الانفصال غناءً

أم كلثوم تصرخ في قادة الانفصال: "باسم مين يا خارجين ع الشعب باسم مين؟"

لم تكد تمرّ ساعاتٌ قليلةٌ على انتشار أخبار الانفصال، ووصول المشير عبد الحكيم عامر، ومعه قائد الجيش الأول جمال فيصل إلى القاهرة قادمَين من دمشق، بعد إحكام قادة الانقلاب قبضتَهم على الجيش، والمقرّات الرسمية، والمؤسسات الحكومية، حتى بدأ كبار مطربي وملحني مصر بخوض معركة الدفاع عن الوحدة، وهجاء الانفصال، واتهام قادته والمشاركين فيه بشتى تهم العمالة والخيانة. 

أم كلثوم في قلب الهجوم

وسرعان ما تحوّلتْ إذاعة القاهرة إلى ورشة لإنتاج الأغاني، والأناشيد القومية التي تتمسّك بالوحدة، بعد أن جَنَّدَ كبار المطربين والملحنين أنفسَهم في خدمة المعركة التي قرّر جمال عبد الناصر أن يخوضها على أثير الإذاعات مستخدماً سلاح الفنّ، والأغنيات النضالية. 

السيدة أم كلثوم لم تتردّد في المشاركة في هذه المعركة، بل كانت صاحبة الصوت الأعلى في الهجاء، وتقريع قادة الانفصال من الضباط السوريين، ومعها الشاعر أحمد شفيق كامل، والملحن الفذ رياض السنباطي، ولهذا صدحَ صوتُها بنبرة استفهامية استنكارية في أغنية حملت عنوان (باسم مين) تقول كلماتها:

“باسم مين يا خارجين ع الشعب إنتم باسم مين؟

باسم إسرائيل والاستعمار وباسم المأجورين

ولّا باسم الشعب… والشعب البطل منكم بريء

يا خارجين ع الشعب إنتم باسم مين؟”

وأراد عبد الحليم حافظ الذي سبق أن غنّى للوحدة (غنّي يا قلبي)، أن يتفوق على السيدة أم كلثوم في التعبير عن الموقف، فقدم بدل الأغنية اثنتين:

الأولى: كتب كلماتها صلاح جاهين، ولحنها الموسيقار كمال الطويل، وحملت اسم (لا يمكن)

والثانية: (وحدة شعب) كتب كلماتها الشاعر عبد الوهاب محمد، ولحنها بليغ حمدي. 

نجاة الصغيرة، وفي أجواء من الابتهال الديني للعلي القدير أن يحفظ الوحدة، غنّت (يا رب انصر أمتنا) التي كتب كلماتها حسين حلمي المناسترلي، ولحنها الموسيقار رياض السنباطي. تقول كلماتها:

“يا رب انصر أمتنا يا رب

يا رب احفظ وحدتنا يا رب

أمتنا الأمة العربية، وحدتنا الوحدة القومية

بنسبّح بعلاك ونكّبر… يا رب يا رب

أمنا مصر وسورية وأبونا وأهالينا

لا غاصب ولا خاين يتحكّم يوم فينا

بردى والنيل روحنا وأكتر

شريان ووريد شعب اتحرر

يا رب.. يا رب”

ولم تتأخر الدلوعة (شادية) بإعلان نبرة التأييد السياسي لشخص الرئيس جمال عبد الناصر، منذ عنوان أغنيتها الذي حمل (إحنا وياك يا ريس) التي كتب كلماتها محمد حلاوة، ولحنها محمد الموجي، وفيها تطوف شادية بصوتها العذب على أسماء المدن السورية، فتنطقها باللهجة المصرية محاولةً استمالة أذن المستمع وقلبه:

“يا دمشق ودير الزور يا حلب يا بلاد أحبانبا

وحدتنا طريق النور… نفديها بكل شبابنا

الشعب العربي بحاله وياك وياك وياك

لنداك هبت أبطاله واحنا وياك يا ريس احنا وياك”

فريد الأطرش وصباح.. ومساهمات المطربين العرب

المساهمات لم تقتصر على المطربين المصريين الذين تطول قائمة مساهماتهم، لتشمل: فايدة كامل في (إرادة الله) وكارم محمود في (تعيش الوحدة) ومحمد قنديل الذي سبق أن قدّم أجمل أغنيات الوحدة، وأكثرها شعبيةً وانتشاراً (وحدة ما يغلبها غلاب)، بل شملت المساهمات الغنائية في المعركة ضد الانفصال، المطرب السوري فريد الأطرش، والمطربة اللبنانية صباح.

وكان فريد الأطرش الأعلى نبرةً في هجاء الانفصاليين، بعد السيدة أم كلثوم، إذ تقول كلمات الأغنية التي كتبها فتحي قورة، ولحنها وغنّاها فريد الأطرش:

“قول للخاين والمأجور سيب الظلمة وعيش في النور

مش ح يفيدك خدمة سيدك اللي حياته غش وزور

مفيناش خاين ولا مأجور

ويتابع فريد الأطرش في أغنيته ذات اللحن الشعبيّ الشديد السلاسة، مؤكداً أنّ الوحدة ستنتصر، وعلمها سيبقى مرفوعاً عالياً يحرس أرض وطنه الغالي سورية:

“علم الوحدة ح يفضل عالي يحرس أرض الوطن الغالي

فين ح تروح من شعب مثالي مهما تلف ومهما تدور

سيب الظلمة وعيش في النور!”

أما المطربة اللبنانية صباح، فقد جاءت كلمات أغنيتها التي كتبها الشاعر اللبناني عبد العزيز سلام، ولحنها محمد الموجي (أنا وأخويا مع ابن عمي) مختلفةً في توجهها، وذات نبرة تصالحية ليس فيها أثرٌ للشتم، أو الهجاء، تقول كلماتها:

“أنا وأخويا مع إبن عمي وإِحنا التلاتة على الغريب

وحب أهلي يجري في دمّي وكل عربي ليه حبيب

انا وأخويا والحب بينا فارد جناحه عَ النيل وبردى

وانا وابن عمي مهما تخاصمنا تصفى قلوبنا بكلمة وحدة

واحنا اتحدنا علشان بلادنا تعيش كريمة حرة بجهادها

أنا وأخويا مع إبن عمي… وإِحنا التلاتة على الغريب”

تقول المعلومات أن هذه الأغاني تمّ إعدادُها، وتسجيلها في الأيام الأخيرة من شهر أيلول/ سبتمبر عام 1961 حيث انكبّ الفنانون على تلقف الكلمات الغاضبة من الشعراء، واعتكفوا في منازلهم مع مُلحّنيهم لسماع الألحان وحفظها، قبل الانتقال إلى استوديوهات الإذاعة للتسجيل.

أكثر من ذلك… أجّل بعضهم موعد دخولهم للمشفى لإجراء تحليلات، أو عمليات جراحية إلى ما بعد الانتهاء من إنجاز هذه الأغاني، كما فعل الموسيقار محمد الموجي الذي كان في ذلك الوقت يستعدّ لدخول مستشفى المبرّة، لإجراء عملية جراحية في القلب، وحجز غرفته في المستشفى، لكنه اُضطر لتأجيل الجراحة، وانصرف للعمل في مكتبه ليلةً كاملة، حتى انتهى من وضع لحن “أنا وأخويا وابن عمي” لصباح، ثمّ لحّن أغنية شادية “احنا معاك يا ريس”. وحفظت صباح الأغنية مع اللحن في اليوم التالي في ساعتين، وسجلتها مساء اليوم نفسه في الإذاعة بإشراف الموجي، وكلّ ذلك تمّ خلال ثمانٍ وأربعين ساعةً تلتْ إعلان الانفصال، وسقوط الوحدة.

سيناريو اللعب بالمشاعر، وتوزيع الأدوار

ليس مستغرباً أن يغنّي الفنانون بتكليف من القيادة السياسية، أو تلبية لرغباتها، فمَن يعرف أجواء الأوساط الفنية العربية يُدرك تماماً أن هذه هي القاعدة لدى كبار الفنانين وصغارهم، وأن الاستثناء الذي يندر أن يحدث، هو أن يعتذر أحدهم مُعتبراً أنه لا يغنّي إلا برغبته الشخصية. ويمكننا ملاحظة أن هذه الأغنيات حاولتْ أن تلعب على الوتر العاطفي لدى المستمع العربي، وعلى حالة الإعجاب الفنّي بنجومه الكبار، بمعزل عن أي مناقشة عقلانية لأسباب الانفصال ودوافعه، أو لأخطاء تطبيق الوحدة ومسؤولية مَن تسبّب في وأد أحلامها، وسنلاحظ هنا أيضاً أنه تمّ توزيع الأدوار بمهارة كالتالي:

– صوت أم كلثوم الشديد المهابة، والحضور اُختيرتْ له كلماتٌ فيها نوعٌ من التحقيق الفوقي، مع قادة الانفصال، عبر السؤال: باسم مَن قمتم بهذا العمل؟

– صوت عبد الحليم المتوهّج دفئاً، وشباباً في غنائه الوطنيّ اختيرتْ له كلماتٌ تعبّر عن الصدمة والذهول، وعدم التصديق، وعدم الاستسلام للأمر الواقع في الوقت نفسه.

– صوت نجاة الرقيق سلك طريق الابتهال الدينيّ، بأن يحفظ الله الوحدة، وصوت شادية الخفيف الظلّ، والمفعم بالظرف راح يذكّر بوحدة الأهل والحبايب مستحضراً أسماء المدن السورية، ومنتهياً إلى الاصطفاف وراء الريس.

– فريد الأطرش بانتمائه السوريّ المعروف رفع صوته ضد أبناء وطنه من (الخونة والمأجورين) على طريقة: شهد شاهد من أهله!

– صباح اللبنانية التي لا تنتمي للجانب السوريّ، ولا للجانب المصريّ، أرادت أن تذكّر بأهمية تجاوز الخلافات بين الطرفين، أشقاء كانوا، أم أبناء عمومة، داعية لتجاوز الخلافات! 

في المحصلة لم تنجح هذه الأغنيات لا في أن  تُنزل جموع الجماهير الغاضبة إلى الشوارع، كي تردع الانفصاليين، ولا في حماية الوحدة من الانهيار، بل لم تبقَ في الذاكرة والوجدان، مثلما بقيتْ أغنيات الابتهاج بالوحدة، والتغنّي بها، فقد كان مصير بعضها – كما أغنية فريد الأطرش –  المنع بسبب حدّة النبرة، ومصير أخريات الاختفاء تماماً من الأرشيف المتداول كأغنيتَي عبد الحليم، ولو لم نعش عصر الثورة الرقمية التي جعلت الهواة والمحترفين ينبشون التسجيلات المنسية، أو المعتم عليها، ويعيدون نشرها على الشبكة العنكبوتية، على سبيل الانفراد، أو الطمع به، لما سمعنا بهذه المعركة التي انتهت (زوبعة في فنجان) إلا على صفحات المجلات الفنّية القديمة، المتناثرة هنا وهناك.

_________________________________________

من مقالات العدد الثالث من صحيفة (العربي القديم) الخاص بذكرى مرور 62 عاماً على الانفصال-  أيلول/ سبتمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى