فلسطين في الصحافة العربية: حكاية المستوطنات اليهودية الأولى
العربي القديم- محمد كساح
من الأفضل عدم الاكتفاء بربط هجرة المجموعات اليهودية من سائر دول العالم نحو فلسطين بمؤتمر بال الذي انعقد في العام 1897، أو بوعد بلفور الذي ينص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين التاريخية، فقد تم تأسيس عدد من المستعمرات قبل ذلك، بفترة طويلة.
ويمكن للمقالات التي نشرتها الصحافة العربية نهايات القرن التاسع عشر وحتى نهاية العقد الثاني من القرن العشرين أن تفيدنا في معرفة حجم المستعمرات اليهودية التي تم إنشاؤها قبل وعد بلفور، خاصة مع تنبه العرب مبكرا للهجرة اليهودية ما جعل مجلات تلك الأيام ترصد بعض تفاصيل هذه المستعمرات الاستيطانية وتقارن بينها وبين المدن العربية من حيث استعمال الأساليب الحديثة في الزراعة والطبابة والتقنيات العلمية.
وتتفق الصحف على أن أول دفعة جاءت إلى فلسطين من يهود العالم الغربي كانت سنة 1882 وهي من يهود روسيا وبها بدأت الهجرة المتعلقة بالصهيونية، لكن قبل هذا التاريخ جرت هجرات عديدة ليهود شرقيين وتم خلالها إنشاء قسم كبير من المستعمرات الأولى.
وتقول “المجلة الجديدة” ( العدد8 سنة 1936) إن الهجرة ظلت “مستمرة ولكن بنطاق ضيق إلى أن جاءت الحرب العظمى فوقفت. وحالما انتهت الحرب وقامت حكومة الانتداب في فلسطين استؤنفت على نطاق واسع وأخذ المهاجرون يغمرون فلسطين من معظم أقطار العالم ولاسيما بلدان شرق أوروبا”.
لكن الصحف تتضارب حول أرقام اليهود في فلسطين قبيل وعد بلفور تضاربا كبيرا. حيث تذكر مجلة الهلال (العدد 7، سنة 1948) نقلا عن الجمعية الصهيونية أن عدد اليهود في فلسطين في سنة 1918 بلغ أكثر من 55 ألفا من سكان فلسطين بنسبة لا تقل عن 7 بالمئة من عدد السكان. بينما يؤكد موضوع صحفي هام منشور في مجلة “المشرق” في العام 1899 تحت عنوان “اليهود في فلسطين ومستعمراتهم” أن عدد اليهود حتى ذلك التاريخ أي قبل وعد بلفور ب20 سنة وصل إلى 80 ألفا.
والحال أن هذه القطعة الصحفية إضافة لقطعتين أخرتين (الثانية منشورة في مجلة “الهلال” (العدد 1، سنة 1917) حول “أجناس أهل فلسطين”، والثالثة في مجلة المقتطف (العدد 1، سنة 1914) حول “استعمار فلسطين”) تخبرنا معلومات كثيرة عن التركيب السكاني في فلسطين وعدد المستعمرات اليهودية ومهن سكانها منذ نشوء أولى المستعمرات، وحتى العام 1914.
ترتيب تاريخي للمستعمرات الأولى
حتى العام 1899 أي تاريخ نشر البحث الذي كتبه هنري لامنس اليسوعي في مجلة (المشرق) – وهي القطعة الصحفية الأولى التي نعتمد عليها- بلغ عدد مستعمرات اليهود في فلسطين 5 مستعمرات كبرى تتبع لها عشرات الضواحي. وهو ما جعل المجلة تحاول استلفات “ذوي الأمر” أي الدولة العثمانية إلى “استدراك ما يعدونه مخالفا لنظام الدولة”. وقد اعتمدت المجلة على تقارير أعلنها اليهود في مجلاتهم، وإلى رحلة قام بها الكاتب “في تلك النواحي”.
ويقول الكاتب إن “المستعمرات اليهودية في فلسطين خمس تشتمل على عدة محال وهي: مستعمرة يافا وضواحيها، ثم مستعمرة القدس الشريف، ثم صفد وبلاد بشارة، ثم حيفا وتوابعها، وأخيرا مستعمرة الحوران وعبر الأردن”.
وإذا أردنا ترتيب المستعمرات وضواحيها وفقا لتاريخ إنشائها، -لا كما ذكرها الكاتب بدون ترتيب تاريخي- فإن أول مستعمرة يهودية تأسست في فلسطين هي مستعمرة “ذكر يعقوب” وذلك في العام 1862 بالقرب من حيفا.
وفي العام 1869 تم تأسيس “نحلة شيع” أول أحياء مستعمرة القدس.
بينما تم تأسيس مستعمرة “منزل إسرائيل” وهي حديقة واسعة الأرجاء كثيرة الأشجار تبلغ سعتها 240 هكتارا، بالقرب من يافا، عام 1870.
ثم مستعمرة “رؤوس صهيون” التي تم تأسيسها في ضواحي يافا عام 1882 وتبعد 7 كيلومترات من قرية يازور على طريق غزة.
ثم مستعمرة “تذكار بيت الله” جنوبي غربي الرملة، أنشأها البارون روتشيلد عام 1883.
ثم مستعمرة “قطرا” التي أسستها جمعية أحباء صهيون عام 1884.
تليها مستعمرة “قسطينة” التي أنشاها اللورد روتشيلد عام 1888.
وهذه المستعمرات الأخيرة تتبع جميعها لمستعمرة يافا.
وبين عامي 1882 وحتى 1884تم تأسيس مستعمرات “روش قنا” و “خربة زبيد” و “جسر بنات يعقوب”، وجميعها تتبع لمستعمرة صفد.
وبالنسبة لعدد السكان تضم مستعمرة القدس العدد الأكبر من اليهود بين 40 وحتى 50 ألف يهودي. بينما يتجاوز عدد سكان مستعمرة صفد 13 ألفا، لتأتي في المرتبة الثانية من حيث العدد.
أما مستعمرة حيفا فتأسست بعد تملك لجنة “أحباء صهيون” ضيعة كفرعتا في العام 1891، لكنها واجهت صعوبات في أثناء محاولتها تملك الأراضي الواقعة بين حيفا وعكا بسبب معارضة الحكومة العثمانية التي “فسخت عقد البيع بإرادة سنية لئلا تقع كل سهول عكا المخصبة في أيدي اليهود”.
وأما المستعمرة الخامسة في حوران فتعتبر “أوسع من مقاطعة كبرى من مقاطعات الشام”، وتشمل أملاك اليهود “ضياع سحم جولان وجلين وتل عميدون وبيت أكار” وصولا إلى “9 آلاف هكتار غيرها جعلها اليهود ملكا لهم في محلات أخرى كبيت تيما وخان الشيخ قريبا من دمشق عند سفح جبل حرمون”.
أجناس أهل فلسطين
في رحلة قام بها جرجي زيدان مؤسس مجلة الهلال صيف العام 1913 إلى فلسطين يقسم زيدان سكان فلسطين من حيث الجنس إلى وطنيين وأجانب. ويقسم الوطنيين إلى 3 أقسام: عرب، سوريين، يهود. (الهلال، العدد 1، سنة 1917).
ويرى زيدان أن اليهود “هم أقدم الأمم الفلسطينية الباقية إلى الآن” في إشارة إلى السكان اليهود الذين تعرفهم فلسطين قبل نشوء الحركة الصهيونية. ولكن الرحلة تؤكد أن عدد هؤلاء قليل مقارنة ب”اليهود الغرباء الذين عادوا.. في العهد الأخير. وهؤلاء أكثر عددا من أولئك الذين فصلنا سبب نزوحهم”.
ويبلغ عدد اليهود حتى سنة كتابة هذه الرحلة 78 ألفا، أكثرهم يقيم في القدس ويافا. كما “تقسم جالية اليهود في فلسطين إلى صفارية واشكنازية، والصفارية عددهم 4500 نفس، أكثرهم يمنية ومغاربة، ومنهم جماعة من جالية كردستان وبخارى والعراق. أما الاشكنازية فإنهم أكثر كثيرا. ومنهم في القدس وحدها نحو 40 ألف نفس. ولكل من هذه الجماعات عادات خاصة وأخلاق خاصة، فضلا عن الأخلاق اليهودية الأصلية”.
وصف المستعمرات
وتسلط القطعة الثالثة المنشورة في مجلة المقتطف الضوء على بنية المستعمرات اليهودية مشيرة إلى أن “بيوتها حسنة البناء وبساتينها وحقولها جارية الزراعة فيها على الأساليب الحديثة”.
وتلمح إلى أن “أحد الإسرائيليين اكتشف أصل القمح في فلسطين وزرع القمح البري الذي وجده وكان مهتما بالحصول على أصناف جديدة تجمع بين استطاعة القمح البري على تحمل القيظ ومقاومة الآفات وبين شدة نمو القمح الذي يزرع الآن وكثرة غلته”. وهذا المزارع الذي يدعى هارون ارنسون (بن هارون) غدا مديرا لدار البحث الزراعي في فلسطين التي تأسست عام 1909.
وتذكر المجلة مخازن النبيذ في “إحدى مستعمرات الإسرائيليين المجاورة لحيفا فإذا هي مشحونة به وأنهم أصدروا إلى أوروبا في العام مليوني زجاجة وربع مليون”.
وتعتبر أن اكتشاف القمح ليس سوى عمل واحد قامت به المستعمرات اليهودية “وأهم منها إنشاء إدارة صحية هناك لدرس الأمراض الوطنية ومقاومتها”.
واللافت أن مثل هذه العدسات المكبرة التي سلطتها المجلة على المستعمرات اليهودية، وهو رصد لا يخلو من الإعجاب، سنلحظها بعد ذلك في بعض الصحف العربية عند تسليطها الضوء على اتساع المستعمرات اليهودية، ما يعطي انطباعا مبدئيا بعدم اتفاق الصحف العربية بعد، على التصدي لأطماع الحركة الصهيونية والتضاعف الهائل في المستعمرات حتى حدوث نكبة 1948، كونها، لم تكن بعد، قد كشفت عن أنيابها الطويلة والحادة.