الرأي العام

من حظر الخمور إلى إقفال بيوت الدعارة: قوانين لتطهير الدولة

الثوري المندفع وإلى جانب خصاله المثالية، يشعر في كثير من الأحيان أنه "مصطفى" أرسلته الاقدار لنشر الفضيلة

عبد الرحمن ريا – العربي القديم

قانون بإقفال بيوت الدعارة ودور القمار، بالإضافة إلى حظر كافة أنواع الخمور تحت طائلة سلسلة من العقوبات القاسية. لم يعد لدى الثوار صبر على الانحلال الأخلاقي وانتشار الرذيلة فكان لا بد من تطهير فرنسا الثورة عام 1793. لم يكتف اليعاقبة بذلك، بل إنهم حرّموا الكسل “المعادي للجمهورية”، ورأوا أن أفضل عقاب، سَوق الكسول إلى الجيش. إياك أن تظن عزيزي القارئ أن خلفية القوانين السابقة دينية، فالفرنسيون قاموا ليشنقوا آخر ملك بأمعاء آخر قسيس[1]

لم يختلف المشهد في موسكو إبـّان ثورتها، فقد حظر البلاشفة في وقت مبكر تعاطي الخمور والفودكا، واتخذت كل مجالس السوفييت الأولى تقريباً خطوات لمنع الدعارة والمقامرة والحياة الليلية[2]. مرة أخرى أجدني مضطراً للتذكير أن “لينين” هو من تبنى مقولة “الدين أفيون الشعوب”.

في دمشق وقبيل أيام من عيد الفطر قامت المحافظة بإغلاق حانات ومطاعم تقدّم مشروبات كحولية بحي مسيحي، قبل أن تتراجع عن قرارها بفعل ضغط إعلامي، يبدو أن ضجيجه كان مقلقاً. توجس بعض المسيحيين وكثير ممن يعتقدون أن منع الخمور تمهيد لفرض دولة دينية سوف تحرمهم من أن يعيشوا حياتهم الاعتيادية. ولكن مهلاً، هل تمنع دولة الإسلام بيع الخمور فعلاً؟

من المؤكد أنك ستجد في كتب الفقه كماً كبيراً من الإجابات المختلفة (والتي قد تبدو متناقضة أحياناً) أحدها ما أخرجه الخلّال[3] في أحكامه، عند الإجابة على سؤال: هل للرجل أن يمنع زوجته الكتابية من شرب الخمر؟ قال يأمرها، قيل له: لا تقبل منه، أله أن يمنعها؟ قال: لا[4]. فإن كان لا يستطيع منع زوجته، ما بالك بالكتابيين. ممن لا تربطه بهم رابطة!

مؤكد أن الثائر، كما أكّد لي بعضهم، لن يطربه الرأي الأخير ومن الطبيعي ان يبحث عن فقيه يشرعن له اغلاق الحانات (على الأقل)، فهو يشبه البلاشفة الروس واليعاقبة الفرنسيين؛ وإن اختلفت ايديولوجياتهم ومرجعياتهم. هم جميعاً قاموا بثوراتهم للبحث عن المدينة الفاضلة؛ لإلغاء الرذائل الكبرى والصغرى، سواء كان ذلك تنفيذاً لإرادة الرب أو الطبيعة أو العلم.

لا أعتقد أن العالم المثالي الذي نحلم به يتسع للخمر والدعارة والقمار والكسل، كما لا أعتقد ان القوانين الغربية المعاصرة التي شرعنت المثلية وحشرتها في انوفنا، أقل تطرفاً (فضلاً عن سوئها باعتقاد الكثيرين) ولو باتجاه آخر. فلماذا إذاً ثار كل ذلك الضجيج عندما حاولت المحافظة في دمشق اغلاق الحانات؟

هل هو الخوف من الخطوة التالية؟

في الحالة الفرنسية، لم يكتف اليعاقبة بحظر الخمور ومنع الكسل، بل تقدموا خطوات للأمام: “على المواطن فلان إبقاء كلبه مقيداً، وعلى آخر أن يتزوج الفتاة، ويجب لوم الثري الفلاني بسبب نوبات غضبه، ويجب على أحدهم منح موافقته على زواج ابنته من شاب يعقوبي فقير لكنه صادق وحاصل على مرتبة جيدة في نادي اليعاقبه”. وكما هو متوقع، لن تختلف الحالة الروسية كثيراً، فقد قال غوركي[5]: ” كان لينين رجلاً منع الناس من أن يعيشوا حياتهم المعتادة، كما لم يفعل أحد قبله ذلك”.

الثوري المندفع وإلى جانب خصاله المثالية، يشعر في كثير من الأحيان أنه “مصطفى” أرسلته الاقدار لنشر الفضيلة. الحقيقة بالنسبة إليه واحدة، يمتلكها جميعها، بشكل يجعل أي اختلاف معه، اختلافاً معها. لا يفعله إلا خاطئ أو خائن، أو كافر؛ يجب دحره أو سحقه. مما يلغي أي مساحة للتعدد ناهيك عن الاختلاف. وهذا ما قد يكون السبب في الضجيج المبالغ به من خطوات أولية كإغلاق حانة أو مطعم أو مستودع بيع خمور. يرى البعض أنها قد تكون توطئة لكثير آخر.

حسناً فعلت الحكومة بإلغاء القرار، وبإصرارها على الاعتدال في أمور عديدة، رغم تذمر العديد من أنصارها؛ ما يزيدنا حرصاً عليها. ربما للمصادفة أنها بذلك أيضاً تتشابه مع الثورات الكبرى كالثورة الفرنسية التي سادها الاعتدال منذ قيامها عام 1789 إلى أن سيطر عليها التطرف عام 1793. ما يتطلب الحذر من الجميع، والفهم لطبيعة تطرف الثائر الذي تلهمه مثاليات تبحث عن مبرر (ديني أو غيره) للوصول إلى المدينة الفاضلة.

أخيراً قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن سقوط الحكومات الثيوقراطية (الدينية) يؤدي لسقوط الدين نفسه كما أن سقوط المدينة الفاضلة يؤدي إلى انتكاسات تعيد المجتمعات إلى ما قبل إرهاصات الثورة؛ فـ “بعد أيام قليلة من إعدام روبسبير وأتباعه البارزين بالمقصلة، شرع الباريسيّون بالممارسة العلنية باندفاع، لسلسلة كاملة من المتع التي حرموا منها. فُتحت قاعات الرقص في كل أنحاء باريس، وشرعت العاهرات بالعمل “باجترائهن السابق” على حد وصف تقرير للشرطة، وراح شبان أثرياء يرتدون ملابس أنيقة وهم سكارى على نحو غير لائق بالجمهورية، يتجولون ويضربون جمهوريين أفاضل عبوسين على الرأس”[6].

المشكلة أن المرحلة التالية لذلك كما يقول الباحثون هي تولي طاغية جديد، و”كأنك يا أبو زيد ما غزيت”!


هوامش:

[1]  هذه أبرز شعارات الثورة الفرنسية عام 1789

[2] تشريح الثورة – كرين برينتن

[3]  أبو بكر الخلّال، الفقيه العلامة المحدث، شيخ الحنابلة، قام بجمع فقه الامام أحمد وترتيبه.

[4] أورده ابن قيم الجوزية في كتاب أحكام أهل الذمة، فصل منع الزوجة الكتابية من السكر.

[5] أديب روسي، ومؤسس مدرسة الواقعية الاشتراكية

[6] تشريح الثورة – كرين برينتن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى