تفاصيل سورية | حين أمسكني والدي مسك اليد!
غسان المفلح
في الصف الخامس، وفي مدرسة إسكندرون، لم أعد أرى في المدرسة مدرسي الفلسطيني. رأيت أستاذنا الجديد وهو دمشقي من آل الشماع. نسيت اسمه الأول. كان شديد التهذيب، متحفظاً، نادراً ما يضحك. لا أعرف بالضبط ما هو السبب، أو الأسباب التي جعلتني في هذا الصف مجتهداً جداً زيادة عن اللزوم، حيث لفت نظر الأستاذ منذ الشهر الأول. تلميذ مجتهد! حتى في البيت لاحظت أمي وأبي رحمهما الله، أنني هذا العام غير الأعوام السابقة، من خلال حرصي على كتابة الوظائف، فور عودتي من المدرسة، ومراجعة كل شيء، وسؤال والدي، عما أجده صعباً على الفهم.
في هذا العام صرت كثير آدمي كما يقال، حتى إنني لا أخرج للحارة، إلا للعب كرة القدم، والذهاب إلى السينما عموماً، وسينما النجوم خصوصاً. سينما النجوم التي تقع في قلب المخيم. سينما النجوم هذه لها قصص كثيرة في حياتي. طبعاً ليس لأنني أذهب إليها مشياً مع أصدقائي في الحارة، بل لأن صاحب السينما نفسه يقطن في حارتنا، ولدي صديقان من أبنائه، لكن نادراً ما كنا ندخل نحن أصدقاءهم” ببلاش”! سأحدثكم لاحقاً عن سينما النجوم. بالمناسبة أيضاً كان هنالك سينما أخرى قريبة منها اسمها سينما الكرمل، كانت بالنسبة لشلتنا مختصة بالأفلام الهندية التي لا نحبها. نحب أفلام الويسترن، وأفلام روما، ومصارعي إسبارطة، وعلى رأسهم هرقل. هذه الأفلام كانت من اختصاص سينما النجوم حصراً.
كانت شلتنا تذهب إليها كل يوم جمعة، وأحياناً نمر مرة، أو مرتين خلال أيام الأسبوع، حسب توفر” الخرجية”. هيك اسمها بالشامي تلك النقود التي تحصل عليها يومياً من أهلك. سأفشي سراً، بسبب سينما النجوم هذه: كنت أحياناً أسرق نقوداً من الفراطة التي تكون في جيب جاكيتات والدي فقط للذهاب للسينما، ومنذ ذلك التاريخ أعشق السينما. بقي هذا الداء يلازمني، حتى صرت في المرحلة الإعدادية. توقفت عن سرقة جيوب والدي. لم أكن أسرق سوى خمسة وثلاثين قرشاً فقط، وهي ثمن الدخول إلى سينما النجوم آنذاك. أعود إلى الصف الخامس، ولأنني كنت مجتهداً، صار والدي ينتبه أكثر لقصة السينما خاصة، بعدما شعر بنقص ما يسمى الفراطة في جيوبه. تركني معتقداً أنني أستغفله، حتى أمسكني مسك اليد، وكانت تلك المحاضرة الثمينة التي لم أعد بعدها لسرقته، لكن بعد سنتين من التمتع بالمسروقات هذه، والذهاب بها إلى سينما النجوم. أي كنت عند تلك المحاضرة العرمرمية، قريباً من نهاية العام الدراسي في الصف السادس “السرتفيكا”!
هذه مقدمة للحديث لاحقاً عن سينما، النجوم سينما العشوائيات في المخيم، مع سينما الكرمل. لم يكن هنالك سينما أخرى في عشوائيات دمشق، بل كل دور السينما في دمشق المدينة حصراً، وخاصة في المرجة، والصالحية، وجسر فيكتوريا. حتى هنا سرقني الحديث عن السينما من الحديث عن تفاصيل الصف الخامس، الذي نلت فيه الأول على الصف، وكانت المرة الوحيدة في حياتي الدراسية. لكن للأمانة أحياناً أصدقائي أبناء الحج أبو عدنان رحمه الله صاحب السينما، يدخلوننا سينما والدهم هذه مجاناً، حسب مقدرتهم، وكان والدهم يمتلك سينما في المرجة اسمها أمية، كنا نذهب مشياً من حارتنا في أول التضامن إلى المرجة؛ كي نحضر فيلماً، بعد أن نتأكد أننا سندخل مجاناً، ونعود كذلك مشياً. والذاكرة أيضاً لعينة، لأن هذه العائلة المغاربية الدمشقية، بقيت حاضرة في حياتي، حتى محاكمة الشهيد رفيق الحريري، وهذه قصة أخرى أرويها لكم لاحقاً في حينها.