الرأي العام

دلالات وقضايا | حِجارة من سِجِّيل أم حَربٌ بيولوجيَّة؟

مهنَّا بلال الرَّشيد

ينقلُنا هذا العنوان مباشرة إلى تفسير كلمتين مهمَّتين من القرآن الكريم، وردتا في سورة الفيل؛ تستحقَّان أن نُقدِّم لهما قراءة فيلولوجيَّة نظراً لكثرة اختلاف المفسِّرين والمؤرِّخين حول معنى هاتين الكلمتين، وقد نبَّه أُستاذنا الدُّكتور سليمان الذِّيب في كتابه المهمِّ: (الكتابة في الشَّرق القديم من الرَّمز إلى الأبجديَّة) سنة 2007.م إلى أهمِّيَّة الإلمام بالعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة والتَّطبيقيَّة -لا سيَّما: الرِّياضيَّات واللَّاهوت- قبل الشُّروع بأيِّ قراءة فيلولوجيَّة (دلاليَّة-تأويليَّة-تفسيريَّة) حول كلمة أو آية من آيات القرآن الكريم، ووجد أنَّ علماء الفيلولوجيا الغربيِّين قد سبقوا العلماء المسلمين حين استعانوا بالفيلولوجيا والعلوم الأخرى لدراسة الكتاب المقدَّس والنُّقوش والكتابات التَّاريخيَّة الأخرى؛ لذلك لا بدَّ لعلماء المسلمين من الشُّروع بمثل هذه القراءة الفيلولوجيَّة لدراسة القرآن الكريم وتأويل دلالاته وتفسير مقاصده مستفيدين من تطوُّر العلوم من خلال دراسات بَيْنيَّة تشبك بين جملة من العلوم المفيدة في إطار التَّأويل الفيلولوجيِّ أو البحث (فقه اللُّغويِّ المقارِن) عن معنى أيِّ كلمة في القرآن الكريم، والحقُّ يلفتُ انتباهي بعد ملاحظات أستاذنا الدُّكتور سليمان الذِّيب كثرة أقوال المفسِّرين والمؤرِّخين وعلماء اللُّغة في كلمتي: (أَبَابيل) و(سِجِّيل) بعد ورودهما في (سورة الفيل) من سُوَرِ القرآن الكريم، الَّتي يقول فيها سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ كيفَ فعلَ ربُّك بأصحابِ الفيل. أَلَمْ يجعَلْ كيدَهَم في تضليل. فأرسلَ عليهِم طيراً أبابيل. ترميهم بحجارة من سِجِّيل. فجعلَهم كَعَصْفٍ مأكول).

لَمْحَة تاريخيَّة

رَجَّحَ المُفسِّرون والمؤرِّخون أنَّ النَّبيَّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم وُلد في الثَّاني عشر من ربيع الأوَّل بعد الفيل بخمسين يوماً سنة (571.م) المشهورة بين المؤرِّخين العرب باسم (عام الفيل)؛ نظرًا لُقُدوم أبرهة الحبشيِّ الأشرم من اليمن إلى مكَّة المكرَّمة بعدما بنى في اليمن كنيسة القُلَّيسِ، وأراد أن يصرف الحُجَّاج عن الكعبةِ المشرَّفة إلى كنيسته في اليمن بعد مرور حوالي (2500) سنة على بناء الكعبة المشرَّفة أو بيت الله الحرام من قِبَل إبراهيم وإسماعيل عليهما السَّلام. وتكشف لنا غزوة أبرهة الحبشيِّ الأشرم هذه عن تأثير الدِّين بوصفه أيديولوجيا في حركة التَّاريخ القديم، وتُعيدنا إلى رحلة إبراهيم -عليه السّلام- من جنوب العراق إلى مكَّة المكرَّمة عَبْرَ كلٍّ من أورفا و(حلب-إدلب-إيبلا) ثم حماة وحمص ودمشق حتَّى مدينة الخليل في فلسطين، ثمَّ وصوله إلى مصر الفرعونيَّة ومصاهرة الفراعنة وزواجه من سارة، ثمَّ توجُّهه إلى مكَّة المكرَّمة على بُعد (100) كيلو مترٍ تقريبًا شرقيَّ سواحل البحر الأحمر، وبناء الكعبة المشرَّفة على تقاطع طريق رحلتي الشِّتاء والصَّيف بين اليمن وبلاد الشَّام ومصر وبلاد الرَّافدين، وكذلك تبعد مملكة أجداد إبراهيم -عليه السَّلام- من الأموريِّين في إيبلا حوالي (100) كيلو مترٍ في إدلب شرقيَّ سواحل البحر الأبيض المتوسِّط على تقاطع الطُّرق التِّجاريَّة بين الشَّرق والغرب والشِّمال والجنوب، ثمَّ ازدهرت ديانة التَّوحيد الحنفيَّة الإبراهيميَّة مكَّة المكرَّمة، ولو لم يدرك الفراعنة دور ديانة التَّوحيد الحنفيَّة الإبراهيميَّة بوصفها أيديولوجيا دينيَّة تُسهم في بَلْبَلَة الاستقرار الدِّينيِّ ضدَّ الوثنيَّات الأكديَّة في بابل وما حولها لم يكونوا ليقبلوا -من وجهة نظري- بمصاهرة إبراهيم عليه السَّلام على حدودهم الشَّرقيَّة في الجزيرة العربيَّة، وهم الَّذين -بسبب خشيتهم على المُلْك- رفضوا تزويج نسائهم وأميراتهم إلى ملوك آشور وبابل برغم إلحاحهم، وتزوَّجوا من شقيقاتهم بسبب رغبتهم الشَّديدة بالحفاظ على المُلْك.

ثمَّ ظهرت اليهوديَّة، وانتشرت في مصر، وازدهرت حين ظهرت ترجمة العهد القديم السَّبعينيَّة من العبريَّة إلى اليونانيَّة في عهد البطالمة، وفي ظلِّ الحكم الرُّومانيِّ في مصر وبلاد الشَّام ازدهرت المسيحيَّة، ولم يخشَ مُلوك مصر وحُكَّامُها على مُلْكِهم من الأيديولوجيا الدِّينيَّة، بل على العكس من ذلك كسبوا بسياساتهم العلمانيَّة النَّاجحة من خلال تعزيز الحرِّيَّة الدِّينيَّة في بلاد الشَّام ولاءَ أمراءِ سوريا الدَّاخليَّة، وتعاونوا مع أتباع الحنفيَّة الإبراهيميَّة في الجزيرة العربيَّة إلى اللَّحظة الَّتي حاول فيها أبرهة الحبشيُّ الأشرم أن يغزو مكَّة المكرَّمة؛ ليهدم الكعبة المشرَّفة، ويصرف أنظار الحُجَّاج عن بيت الله الحرام من مكَّة إلى كنيسة القُلَّيس في اليمن؛ وههنا سيتغيَّرُ دور الأيديولوجيا الدِّينيَّة من عامل استقرار وتفاعل ثقافيٍّ بين المصريِّين وجيرانهم نتيجة الحرِّيَّة الدِّينيَّة إلى عامل صراع دينيٍّ إن نجح أبرهة الحبشيُّ الأشرم في هدم الكعبة المشرَّفة والقضاء على أتباع الحنفيَّة والتَّوحيد الإبراهيميِّ وإنشاء أيديولوجيا دينيَّة غير متحالفة مع المكِّيِّين والمصريِّين من خلال ربط الجزيرة العربيَّة بكنيسة القُلَّيس؛ وهذا الَّذي لن يسمح به المكِّيُّون والمصريُّون معًا؛ أي لن يسمحوا بظهور قوى سياسيَّة فاعلة ومؤثِّرة على حدودهم وبين ظَهرانيهم حتَّى وإن اشتركت هذه القوى بالأيديولوجيا الدِّينيَّة مع كثير من المسيحيِّين في مصر ولجزيرة العربيَّة، ويُدرك أحفاد الملوك المصريِّين وأحفاد التُّجَّار القرشيِّين في مكَّة المكرَّمة جيِّدًا أثر الدِّين والأيديولوجيا في التَّأثير على المُلك والتِّجارة من خلال دورها الكبير في توجيه الشُّعوب وقيادتها؛ ومن هنا يأتي عنوان هذا المقال؛ ليُفسِّر كلمتين مهمَّتين جدًّا من كلمات (سورة الفيل) تفسيرًا فيلولوجيًّا؛ والفيلولوجيا (فقه اللُّغة المقارن) علم منطقيٌّ عِلمانيٌّ محايد، يفسِّر، ويُؤوِّل، ويترك للمتلقِّي حرِّيَّة  رَفْضِ التَّفسير الفيلولوجيِّ أو مُحاورتِه إذا التَّعمُّق به والتَّفقُّه فيه؛ وههنا لا بدَّ من الإشارة أيضًا إلى آراء بعض المفسِّرين الَّذين يرون أنَّ قصَّة تدمير فِيل أبرهة الحبشيِّ الأشرم أو فِيَلَتِهِ الثَّمانية هي قصَّة إعجاز إلهيٍّ مَحْضٍ مرتبط بولادة النَّبيِّ الكريم محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- والإرهاصات الأولى لنُبُوَّتِهِ؛ وإذا رفض أصحاب هذا النَّوع  من الإيمان محاورة التَّأويل التَّأويل الفيلولوجيَّ ستخرج القضيَّة من حدود النِّقاش العلميِّ؛ لأنَّ الإعجاز المحض خارق لحدود العلم والعقل والمنطق والأعراف، وإن فَقَدَ التَّأويلُ الفيلولوجيُ قيمته فلن نستطيع مُحاوَرةِ آراءِ كلٍّ من ابن جرير الطَّبريِّ وابن كثير والقرطبيِّ وغيرهم من المفسِّرين والمؤرِّخين، الَّذين اختلفوا في معنى كلٍّ من (أبابيل) و(سِجِّيل)؛ فماذا قالوا في التَّأويل؟

مَجَانيقُ أم طُيور أبابيل؟

أورد ابن جرير القرطبيُّ جُملةً من أقوال العلماء والمفسِّرين حول معنى (أبابيل)؛ تُشير في معظمها إلى أنَّ معنى أبابيل هو: جماعاتٌ كثيرةٌ ومُتَتَابعة من الطَّير، أُخرِجتْ من البحر، أو جاءت من ناحيته، والبحر المقصود ههنا هو البحر الأحمر، الَّذي تربط تجارتُهُ البحريَّة بين الشَّام والمصريِّين والجزيرة العربيَّة؛ وهذا يدلُّ على الأسباب الَّتي دفعت سُكَّان إيبلا الأموريِّين وحفيدهم إبراهيم -عليه السَّلام- إلى بناء مركز عاصمتهم الدِّينيَّة والتِّجاريَّة القديمة على أكروبول (تلّ مرديخ) في (إيبلا) بوصفها مكانًا جُغرافيًّا حصينًا يُهيمن على تقاطع الطُّرق التِّجاريَّة، وعلى مسافة غير بعيدة عن سواحل البحر الأبيض المتوسِّط الشَّرقيَّة، وبطريقة مُشابهة لتأسيس مملكة إيبلا أسَّس حفيد الإيبلاويِّين إبراهيم-عليه السَّلام-مُلْكَه في مكَّة المكرَّمة، وحَمَى فيها ديانة التَّوحيد الحنفيَّة الإبراهيمَّة، وانطلق منها لنَشْرِ ديانة التَّوحيد؛ نظرًا لحصانة موقع مكَّة المكرَّمة بين الجبال، وسهولة التَّواصل والنَّقل البرِّيِّ والبحريِّ نحو الشَّام واليمن ومصر والبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسِّط.

ظهرت وسائط النَّقل والتِّجارة النَّهريَّة والبحريَّة في مواطن البشر الأولى في الجزيرة العربيَّة وبلاد الرَّافدين أو ميزوبوتاميا أو بلاد ما بين النَّهرين قبل وسائط النَّقل البرِّيَّة بزمن طويل؛ ومِن هنا يرتفع احتمال ائتلاف القبائل المصريَّة والشَّاميَّة مع القبائل القرشيَّة للدِّفاع عن البيت العتيق في مكَّة المكرَّمة ضدَّ أبرهة الحبشيِّ الأشرم، وإن كانت القضيَّة قضيَّة إعجاز وإرهاصات نبوَّة فقد يكون الله -سبحانه وتعالى- قد سخَّر جنودًا من ناحية البحر الأحمر للدِّفاع عن بيته العتيق؛ لأنَّ المؤرِّخين يقولون: إنَّ عبد المطَّلب بن هاشم؛ جدَّ النّبيِّ محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم- التقى بأبرهة الحبشيِّ الأشرم، وطلب منه مئتي ناقة سَلَبَها جنود أبرهة، وعندما سأله أبرهة عن أسباب مطالبته بالإبل وإغفال المطالبة بعدم المساس بالكعبة المشرَّفة أجابه عبد المطَّلبِ قائلًا: أنا رَبُّ الإبل أُطالب بها، وإنَّ للبيت ربًّا سيَمْنَعُه ويحميه، ومن الممكن جدًّا أن يتواصل قرشيُّو مكَّة المكرَّمة -وهم أهل السِّياسة والتِّجارة النَّاجحة- مع جنودهم أو أعوانهم أو حلفائهم؛ ليهُبُّوا إلى نجدتهم من ناحية البحر الأحمر في الغرب بعد تحرير الإبل من قبضة أبرهة وجنوده؛ ولربَّما هذا ما أشار إليه ابن إسحاق صاحب أقدم سيرة نبويَّة حين قال: أَرسَلَ عبد المُطَّلب حَلْقَة باب الكعبة، ثمَّ انطلق هو ومَن معه إلى شَعَفِ الجبال. وفي ضوء هذه المعطيات سنتابع تأويلنا الفيلولوجيِّ لكلمتي: (أبابيل) و(سِجِّيل)، ويُثيرنا جدًّا ههنا اختلاف المؤرِّخين والمفسِّرين حول لَونِ طيور أبابيل وشَكْلِها وجَمْعِها ومُفْردِها في اللُّغة العربيَّة؛ فبعضهم قال: هي طيور بيضاء، وقال الآخرون: هي طيور سوداء بحريَّة في مناقيرها وأظفارها حِجارة من طين، وقال قسم ثالث منهم نقلًا عن عبد الله بن عبَّاس تُرجمان القرآن الكريم رضي الله عنه: هي طيور خضراء لها مناقير صُفْر، وخراطيم كخراطيم الطَّيرِ وأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الكِلاب، وقال البعض: إنَّ رؤوسها كرؤوس السِّباع، وقالوا: هي جَمْعٌ لم يُسمَع له مفرد، وقال آخرون: مُفرد أبابيل هو إِبَالَةٌ أو إبَّالة أو إِبُول أو إِبُّوْل أو أَبِيل أَبِّيل أو إبِيل أو إبِّيل.

وبعد عَرْضِنا لاختلاف المفسِّرين حول معنى (أبابيل) يَلْفُتُ انتباهَنا شبهٌ كبيرٌ بين هذه الكلمة واسم مدينة (بابل)، الَّتي تعني: (باب إيل)؛ أي باب الله، ولو قِسْنَا كلمة (أبابيل) على منوال (باب إيل) سنجدها (أَبَابْ إيل) أو (أَبَبْ إيل) أو (أَبْ إيل)، ومعنى الأَبُّ هو: (الزَّرع ممَّا تأكُلُه الحيوانات أو الأنعام) كما قال ابن عبَّاسٍ-رضي الله عنه-حين فسَّر معنى قوله تعالى: (وعِنَبًا وأَبًّا) [سورة عبس، الآية 31]؛ وعلى هذا يغدو معنى (طيور أبابيل) هو: (طيور الإله، الَّتي تعيش مِن زرعه)، أو (طيور الله)؛ ويمكن أن تعني: (الطُّيور، الَّتي سخَّرها الله مِن زَرعه للدِّفاع عن بيته).

من كتاب (الأنيق في المناجيق) لابن أرنبغا الزردكاش

حِجارة سِجِّيل أم حرب بيولوجيَّة؟

وإن انتبهنا إلى التَّشابه بين اسمي (بابل) و(أبابيل) يجب ألَّا ننسى معبد (آي ساجيلا) وبُرج (آي ساجيلا) في مدينة بابل، ويقودنا اسم هذا المعبد وبُرْجِه في بابل مباشرة إلى معنى حِجارة (سِجِّيل) في (سورة الفيل)، ويرتبط كلٌّ من المعبد وبُرجِه بالحادثة، الَّتي سعى فيها نمرود بابل إلى إحراق إبراهيم -عليه السَّلام-بحجارة بُرج (سِجِّيل) أو بحجارة برج (آي ساجيلا) في بابل، وغالبًا ما تُنصَب المجانق على البُرج؛ لرمي الأعداء بالحِجارة وقذائف اللَّهب، وهناك أقوال للمؤرِّخين يرون فيها أنَّ نمرود بابل هو أوَّل من استخدم المِنْجَنيق، ويُعدِّد ابن أرنبغا الزَّرْدَكاش في كتابه: (الأنيق في المناجيق) أنواع المناجيق؛ وهي عنده: مناجيق لرمي الحجارة، ومناجيق لقذف اللَّهب والزُّجاجات الحارقة، ومناجيق لرمي السِّهام، ومناجيق لرمي الأفاعي والعقارب والقاذورات، ويُطلقُ على أنواع من هذه المناجق اسم: (كَسْكَنْجِيل)؛ ولهذا الاسم علاقات دلاليَّة واضحة مع حِجارة (سِجِّيل) من ناحيتين؛ ترتبط العلاقة الدَّلالة الأولى بالتَّقارب اللَّفظيِّ بين اسم المنجنيق: (كَسْكَنْجِيل) وحجارة (سِجِّيل)، الَّتي تعني: (حِجارة من طين) أو (حجارة المنجنيق) أو (حجارة لَهَبِ المنجنيق)، وأورد القرطبيُّ أنَّ أبا صالح قال بعد هزيمة أبرهة الحبشيِّ الأشرم في مكَّة المكرَّمة: رأيتُ في بيتِ أُمِّ هانئ بنتِ أبي طالب نَحْوًا من قَفيزين من تلك الحِجارة.

وتشير العلاقة الدَّلاليَّة الثَّانية بجلاء إلى معرفة العساكر القديمة بالحرب البيولوجيَّة واعتمادها على سموم العقارب والأفاعي والقاذورات؛ لنشر السُّموم والأمراض والأوبئة بين الأعداء؛ وهذا سببٌ مهمٌّ يدفعنا إلى تأويل كلام عبد المطَّلبِ بن هاشم؛ جدِّ الرَّسول محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم: (إنَّ للبيت ربًّا يحميه) تأويلًا فيلولوجيًّا على أساسٍ مِنْ تَحَالُفِ المصالح التِّجاريَّة والسِّياسيَّة مع جيرانهم في مصر والشَّام والقبائل والشُّعوب الأخرى على السَّواحل الغربيَّة للبحر الأحمر؛ ممَّا يُعزِّزُ رأيًا مهمًّا لدينا؛ نعتقد فيه: أنَّ جيران قُرَشيِّي مكَّة المكرَّمة أو حاميات قوافلهم التِّجاريَّة على سواحل البحر الأحمر الغربيَّة والتِّلال والجبال المُشرفة على طُرُق تِجارتهم هبُّوا لِنَجدة المكِّيِّين وحِمايتهم، واستخدموا لذلك مهاراتهم في الحرب البيولوجيَّة ورَمِي حِجارة المناجق؛ فألقوا عليهم حجارة (سِجِّيل) أو (حِجارة من طين) أو حِجارة (مِنْجَنيق) أو (حِجارة كَسْكَنْجِيل بحسب تسمية المِنْجنيق عن ابن أَرْنَبغا الزَّردَكاش) ملوَّثة بالسُّموم والأمراض والقاذورات، وهذه وجهة نظر منطقيَّة جدًّا تحتملها هذه المقاربة الفيلولوجيَّة والتَّاريخيَّة معًا، ولربَّما ألقوا عليهم بالمناجق الأفاعي والعقارب وطيور المستنقعات المحمَّلة بحجارة طين المستنقعات الملوَّثة؛ كالزَّرازير وطيور الماء الخضراء ذوات المناقير الصَّفراء، الَّتي تتشابه تمامًا مع أقوال المفسِّرين في معنى (أبابيل)، وحِجارة سِجِّيل عند غالبيَّة المفسِّرين: هي الحجارة الصُّلبة الشَّديدة، وعند المسعوديِّ هي: حِجارة من طينٍ مخلوطٍ بحجارة أُخرِجت من البحر؛ وهذا متطابق تمامًا مع صناعة الفخَّار والآجرِّ والتَّنُّور، الَّذي يُخْلَطُ التُّراب عند صناعته بصخور متفتِّتة، فتحتفظ حجارة التَّنُّور بلهبها مدَّة طويلة؛ كحِمَمِ النَّار المشتعلة في برج آي ساجيلا، والنَّار الإغريقيَّة، الَّتي قد تحرق، أو تُذيب كلَّ مَنْ تسقط عليه.

اختلف المؤرِّخون في أصل كلمة مِنْجَنِيق؛ فقال نفرٌ منهم: أصلها عربيٌّ، وقال آخرون: هي كلمة فارسيَّة مُعرَّبة؛ أصلُها: (مَنْجَنِيْك)؛ أي ما أجوَدني في الحرب! ورأى فريق ثالث أنَّ أصل هذه الكلمة: روميٌ أو رومانيٌّ، واختلاف المؤرِّخين حول أصلِ كلمة منجنيق ينسحب على اختلاف المفسِّرين حول معنى كلمة (سِجِّيل) فقد رأى ابن عبَّاس-رضي الله عنه-وجمهرة واسعة من المفسِّرين: أنَّ كلمة سِجِّيل جاءت إلى العربيَّة من أصلٍ فارسيٍّ هو: (سَنَك وَكل) بمعنى (حجارة طين)، ورأى آخرون أنَّها من كلمة: سِجِلٍّ اليونانيَّة؛ بمعنى الكتاب والصَّكِّ وكتاب العهد؛ وهي مأخوذة من كلمة (Sigillum) وتعني: خَتْمُ العهد وتَصْدِيقِهِ، وتعزَّز هذا الرَّأي بوجود مدينة سجلماسة في المغرب، وهي غير بعيدة عن أطلال مدينة رومانيَّة باسم (Sigilla)؛ وتعني: مجموعة من الرُّسوم والصُّور، ومُفرَدُها: (Sigillum) بمعنى: الأثر أو السِّمة أو العلامة، والعرب قديمًا إذا أرادت وَسَمَ النَّاقة أو الشَّاة أو الفَرَس وَسَمَتها بالكَيِّ بالنَّار؛ لتظهر علامتُها.

هزيمة أبرهة الحبشيِّ الأشرم ائتلافٌ للقبائل مع قُريش أم إعجازٌ إلهيٌّ أو ائتلاف وإعجاز معًا؟

يرى نَفرٌ من المفسِّرين أنَّ (سورة قريش) في القرآن الكريم متَّصلة (بسورة الفيل) أو جزء منها، وآياتها الأربع بعد البسلمة هي: (لِإيلاف قُريشٍ. إيلافِهم رحلة الشِّتاء والصَّيف. فَلْيَعْبُدوا ربَّ هذا البيت. الَّذي أطعمهم مِن جوع وآمنهم من خوف). ومَعنى هذه الآيات الكريمة-بحسب القُرطبيِّ-لِتَأتَلِف قريشٌ، أو لِتَتَّفِقَ، أو لِتَأمَن كما أَمِنَتْ مِنَ الجوعِ والخَوف بعدما هاجر إبراهيم-عليه السَّلام-إلى (وَادٍ غَيْرِ ذي زَرعٍ) في مكَّةَ المكرَّمة، وبنى فيها البيت العتيق، أو عَبَدَ مع قومِه ربَّ الكعبة المشرَّفة أو ربَّ البيت العتيق، الَّذي وثِق جدُّ الرَّسول عبد المطَّلب بن هاشم بأنَّ للبيت ربًّا سيحميه مِنْ عُدْوانِ أبرهة الحبشيِّ الأشرم، وقد أَهْلَك الله-سبحانه وتعالى-أصحاب الفيل لتأمين قريش من الجوع والخوف بعد ائتلافها وتَعارفها وتعاونها مع جيرانها من الشُّعوب والقبائل الأخرى؛ فقد عدَّ كَعْبُ بن أُبَيٍّ سورتي: (الفيل) و(قُريش) سورة واحدة، ولم يَفصِل بينهما في مصحفه، وأُبيُّ أَقْرأُ الصَّحابة-رضوان الله عليه-للقرآن الكريم بشهادة الرَّسول الكريممحمَّد-صلَّى الله عليه وسلَّم، فقد قال: (أَقْرَؤكم أُبيُّ)، وقال سُفيان بن عُيينة: كان لنا إِمامٌ لا يفصل بينهما، ويقرؤهما معًا. وقال عَمْرُو بن ميمون الأوديِّ: صَلَّينا المغرب خَلْفَ عُمَر بن الخطَّاب-رضي الله عنه-فقرأ في الرَّكعة الأولى (والتِّين والزَّيتون)، وفي الثَّانية (أَلَم تَرَ كيف فَعَلَ ربُّك بأصحاب الفيل) و(لإيلافِ قُريش)، وقال الفَرَّاء: هذه السُّورة متَّصِلةٌ بالسُّورة الأولى.

سورة الفيل هي سورة مكِّيَّة؛ أي نَزَلَتْ في مكَّة المكرَّمة بإجماع المفسِّرين، ونَزَل قبلها ثماني عشرة سورة، وهي السُّورة التَّاسعة عشرة في ترتبيها بحسب النُّزول، وتَرجِع الأحاديث الَّتي تشير إلى أنَّها سورة واحدة مع سورة الفيل إلى زَمَن عُمر بن الخطَّاب-رضي الله عنه-عندما كانت سُوَرُ القرآن الكريم متفرِّقة على الجُلود والرُّقم والألواح؛ أي قبل جمعها في مصحف واحد في زمن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، ونجد أنَّ ترتيب سورة الفيل في مصحف عثمان بن عفَّان-رضي الله عنه-صار في المرتبة (105) بين سُوَر القرآن الكريم؛ أي في أواخر مصحف عثمان بن عفَّان رضي الله عنه بين (114) سورة يشتمل عليها القرآن الكريم؛ وهذا التَّطواف حول معاني بعض مفردات القرآن الكريم وترتيب سوره يُعلي من شأن الدِّراسة الفيلولوجيَّة، ويدفع علماء المسلمين بشغف إلى دراسة علوم القرآن الكريم في ضوء المنهج الفيلولوجيِّ المُقارِن، الَّذي يدرس حِفْظَ القرآن الكريم في الصُّدور وتدوينه في الرُّقم والجلود وجمعه في المصاحف والسُّطور وتفسيره وتأويله بالقرآن والحديث والشِّعر والكلام المشهور، ويقارن ترتيبَ سُوَرِهِ بحسب زَمَنِ النُّزول بترتيبها بحسب اللَّجنة الرُّباعيَّة، الِّتي جمعت القرآن الكريم في زمن عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، وتألَّفت من: زيد بن ثابت الأنصاريِّ رضي الله عنه، وثلاثة قرشيِّين آخرين رضوان الله عليهم جميعًا؛ هم: عبد الله بن الزّبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرّحمن بن الحارث بن هشام.

وقفة أخيرة مع سِجِّيل وأبابيل في الشِّعر العربيّ

وإن كنتُ قد أرهقتُكَ -قارئي العزيز- بكثير من الأقوال والآراء والمصطلحات في هذا المقال؛ فإنَّه من الممكن لنا أن نستمتعَ قليلًا ببعضِ ما وردَ عنِ المِنْجَنيق وطيور الأبابيل وحِجارةِ سجِّيل في الشِّعرِ العربيِّ، الَّذي يُشبِّه فيه الشُّعراءُ المجانقَ وحِجارتَها بحوائِمِ الطَّيرِ؛ فقد قال الشَّاعرُ المكِّيُّ، الَّذي كان ينزلُ بِجِدَّة على سواحل البحر الأحمر في وصفِ قذائفِ المجانقِ النَّاريَّة أثناء حِصار هارون الرَّشيد مدينة هِرقلة سنة (806.م):

هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أنْ رَأتْ عَجَبًا   حوائمًا ترتمي بالنِّفطِ والنَّارِ

كأنَّ نيرانَنَا في جَنْبِ قَلعَتِهم      مُصَبَّغاتٌ على أَرْسَانِ قَصَّارِ

وربَّما يكون مِن مُدْهِشِ القول حديثُ عليِّ بن الجهم (ت: 249.ه-863.م) عندما قال في مَدْحِ المتوكِّلِ وتهنئته بفتح عمُّوريَّة:

حتَّى إذا أصْحَرَ للمَخذُولِ                نَاجَزَهُ بِصارمٍ صَقِيلِ

ضَرَبْنَا طِلَفْحًا بالقَلِيل            ومِنْجَنِيقٍ مثلَ حَلْقِ الفيلِ

تَرْفُضُ عن خُرطومِه الطَّويلِ     صَوَاعقُ مِن حَجَرِ السِّجِّيلِ

تتركُ كيدَ القومِ في تضليلِ       ما كان إلَّا مثلَ رَجْعِ الغِيلِ

زر الذهاب إلى الأعلى