أرشيف المجلة الشهرية

عشت في إدلب

بقلم: الأب إبراهيم فرح

نحن اقتُلعنا من جذورنا، ورُمينا في الهواء. هكذا شعرت، عندما خرجت من إدلب، مساء يوم الثامن والعشرين من آذار عام 2015، بعد احتجاز دام لأكثر من أسبوعين، ثم أُطلق سراحي؛ لألجأ إلى تركيا، ثمّ أقيم حالياً مع أسرتي، ومنذ سنوات في كندا.

أتذكر طفولتي في إدلب، وتلحّ عليّ الآن صور ستة عقود عشتها من حياتي في هذه المدينة التي لا أرى بديلاً للعيش عنها، مهما امتدّ بنا الدرب، وتقطّعت بنا السُّبل. فقد ولدت فيها في صيف عام 1958 (آب اللهاب)، كما يُقال. كانت إدلب في تلك الفترة مدينة صغيرة مقسّمة إلى أربعة  أحياء. أنا ولدت في الحي الغربي الذي كان يُعرف بـ “حي المسيحيين”، ورغم أنّ فيه تجمعاً للمسيحيين، إلا أنه كان متنوّعاً، فيه سكانٌ من كلّ الطوائف. والدي (نافع فرح) كان أحد مخاتير إدلب الأربعة، كان مختار الحي الغربي، وبعد وفاته في ثمانينات القرن العشرين، أتى مختار مسيحي آخر، وقسّموا الحي إلى ثلاثة أقسام: وسط المدينة، والحيّ الغربي، وحيّ المسيحيين (الحرية).

أبرز المهن التي كان يزاولها مسيحيو إدلب هي: صياغة الذهب، والتجارة بالزيوت والزيتون، والاتجار بالوقود، عبر تأسيس محطات الوقود، كما كانت على ما أذكر هناك مهنٌ موسمية، حيث يعملون في مطاحن الحبوب بالشتاء، ومعامل الثلج بالصيف.

أيام الابتدائية كنا نذهب أبناء حارة سكن أهلي (زقاق بيت السيد) على الدرّاجات الهوائية، ومرّة تسلّط ولدٌ من حارة أخرى على درّاجتي الهوائية. أخبرت أحد أبناء الحيّ عن ذلك، فقال: ليك “إنت أشّر لي عنه، وكن بعيداً”، وعندما ميّزه، ركله ركلة بقدمه، سطحَه أرضاً، وقال له، وهو جاثمٌ فوقه: “إياك الاقتراب من إبراهيم”، وكانت، كما يقول المثل (فاطمة بنت فطّوم). كانت إدلب هي أماننا وبيتنا، وأهلها أخوتنا وعزوتنا.  

درست في مدارسها، وفي عام 1987 نلت شهادة الدراسة الثانوية – الفرع العلمي، وبعدها درست في المعهد المتوسط التجاري بحلب، وتخرّجت عام 1980، وبعدها درست إعداد  م .القديس يوحنا الدمشقي في جامعة البلمند في لبنان عام 1982، ثم التحقت بمركز الأبرشية، مطرانية الروم الأرثوذكس في حلب، مع المثلث الرحمات إلياس يوسف، ثم تزوجت ١٩٨٤ من المعلمة مجد ندرة.

ارتسمت شمّاساً إنجيلياً، بعد عودتي من شهر العسل، وكانت إقامتي في بيت  للمطرانية…  عملت مدرِّساً لمادة الديانة المسيحية في ثا/المعري للبنين، وعدنان المالكي للبنات المرحلة الثانوية العامة، وبعد ولادة ابنتي الأولى ديالا ١٩٨٦ ارتسمت كاهناً في مدينة إدلب ١٥ أب ١٩٨٦، وأصبحت راعياً لأبناء كنيسة السيدة العذراء، وممثّل الصاحب لابتدائية جول جمال.

شريط حياتي يمتدّ أمامي؛ ليبدو سوريّاً في كلّ محطاته، ولتبدو إدلب فيه فضاءً للعمل والحبّ، والتحديث، ففي مطلع العام الدراسي ١٩78،  بدأت بمساعي أبناء الطائفة والمدينة تحديثاً؛ لجعل الابتدائية ذات الصفّين التحضيريين مدرسةً حقيقية، ولإعادة العمل بالترخيص المتوقّف لها، وإجراء الأمور الإدارية، وتعيين معلمات مؤهلات، وتوسيع المراحل، حتى شملت المراحل الثلاث، وفق قانون التعليم الخاص: (مرحلة الروضة، الحلقة الأولى، والحلقة الثانية). استعنت بكوادر جامعية متخصصة، وعملت على الاعتناء بالمواد الفنية من الرسم، والموسيقى، والرياضة بثمانية ألعاب يذهب الطلاب، مع الأساتذة للصالات التابعة لمديرية التربية، ويقومون بالمشاركة بالأنشطة، ضمن حدود المحافظة، وعلى مستوى القطر، فاستقطبت  المؤسسة التعليمية (جول جمال المختلطة النهارية) الطلاب من كلّ أنحاء المحافظة، وحازت جوائز  التفوّق والنجاح، بالتوازي مع المشاركة بالأنشطة لمديرية الثقافة بإدلب،  ومنظمات العمل الاجتماعي؛ هذا فسح المجال لي، ولأبناء الطائفة، وأبناء المدينة؛ للتواصل الاجتماعي والثقافي في أوسع المجالات، وأسهم ازدهار العلاقة مع المراكز في التأكيد على إرث  وتاريخ العيش المشترك، والتجاور بالسكن، والمحلات التجارية، ودوائر الوظيفة بالقطاع العام والخاص في إدلب.  كان لهذه المؤسسة التعليمية دورها في تعميق هذه العلاقة بشكل واضح ومباشر؛ نظراً لقيام الكادر الإداري والطلاب بالأنشطة المتنوعة، بمشاركة أهاليهم. أتحدث عن محافظة إدلب المدينة والريف… أتحدث عن مظاهر البساطة، والكرم والضيافة.. أتحدث عن الانفتاح الاجتماعي، والحفاظ على التواصل الصحيح الخالي من الغدر والخيانة بين أبنائها السوريين.. ولو كانت هناك حالاتٌ خاصةٌ أحياناً لم نكن نلتفت إليها كثيراً.

لا أهرب من التسميات، ولا أجمّل الواقع.  إن تكونوا مستغربين اليوم،  فالحقيقة أننا عشنا مع بعضنا بعض، نحترم خصوصية كلّ المكوّنات، رغم تنوعها. تعدد المكونات كان يُغني العيش الكريم: انفتاح وقبول،  واستقبال الزوّار، وتقديم كلّ الحلاوة والتكريم لهم.  العائلة القادمة إلى إدلب أيام العنب والتين، ولأن جميع المعارف والأصدقاء يقدمون لضيوفهم من مواسمهم، تعتقد أن القادم من مُلّاك الأراضي.. وهذا يشمل موسم الزيتون والزيت، وباقي المواسم، (إلا ما رحم  ربّك من قادم مؤذٍ، أو سيئ)، فالخير كان يعم الجميع.

 أنا لم أكن من ملّاك الأراضي، وكان يصلني الكثير الكثير. كان زوج خالتي يمتلك قطعة أرض، وأيام التين كلّ صباح يصعد إلى بيتي في الطابق الثالث، ويُقدّم لي سطل تين، ورغم تنوّع أمراضه لم يكن يخرق هذا التقليد طيلة الموسم، وحين أسأله من أين هذا؟ كان يجيب: من الأرض؛ ليشعرني أنه من رزق أملاكه. بعد وفاته تقول لي خالتي (نوال): كان يقول لك من الأرض، وهو كان صادقاً، فالتين من الأرض يخرج ثمره منها، لكنه كان يشتري الأفضل من السوق، ويُقدمه لك.

إن بيت الخوري مقصودٌ، وعليه أن يُقدّم للضيوف أفضل الثمر… والجميع كان يحرص أن يكون هذا الأفضل جزءاً من حياتنا. تلك إحدى القصص عن بعض أهالي إدلب.

أذكر أيضاً علاقتنا مع الأهالي التي تتجدّد في بداية  كلّ عام دراسي جديد. كان  القسط  في مدرستنا مرتفعاً، بالمقارنة مع المدارس الخاصة الأخرى؛ بسبب تميّز المدرسة بتعليم اللغات من مرحلة الروضة، كنا نعلّم ثلاث لغات: العربية، والإنكليزية، والفرنسية من  مدرِّسين جامعيين. كان يأتي بعض الأهالي المقتدرين؛ ليقدّموا بعض الأقساط لطلاب ليسوا من أبنائهم، ونحن نعرف وضعهم المادي؛ لأننا كنا نعفي، ونخصم للبعض من حساب ربح المدرسة.

أذكر أيضاً أنه بعد إحداث مديرية الثقافة في إدلب، تمّ تشكيل مجموعة أصدقاء الثقافة، من قبل المرحوم الأستاذ سهيل  نور  (أبو أسامة)؛  لتجمع خيرة المثقفين والمهتمين، وكان  الثلاثاء  يوم الثقافة من الأسبوع، نستضيف خيرة المثقفين، والمفكرين، والكتاب، والشعراء السوريين، والفِرق المسرحية والموسيقية، والمعارض، بحضور جمهور غفير.

بعد خروجي من إدلب، فقدتُ مكتَبي الكنيسة والمدرسة ومكتبتي الشخصية، اختفى كلّ شيء، وسُرق  بالكامل… لكنني مازلت هناك، ومازال قلبي وذاكرتي هناك: أنا إبراهيم بن نافع فرح ابن إدلب، وسأبقى ابن سوريا التي لم يكابد شعبٌ في هذا العصر ما كابده شعبُها.

أخيراً مع الصلوات للرب العلي القدير التى نرفعها حيث يتواجد السوريون في بلاد الاغتراب من أستراليا إلى كندا وأميركا وبينهم أوروبا، نعمل على تواصل الحوار الوطني السوري – السوري وتفاعل مع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المعنية بحقوق الإنسان والمرأة وحماية الطفولة وحق التعلم واللقاءات مع دول الجوار والدول الإقليمية والدولية، لتنفيذ القرارات الدولية بشأن الجمهورية العربية السورية.  ومانزال ننتظر إنجاز كبير مشروعاتنا، سورية للسوريين من خلال شبكات الأمان في كل تجمع أو منطقة في سوريا.

__________________________________________

من مواد العدد العاشر من (العربي القديم) الخاص بإدلب، نيسان / أبريل 2024

زر الذهاب إلى الأعلى