نصوص أدبية || جلسة اتهامية مع طبيب نفسي
قصة: محمد المير إبراهيم
ما الموضوع؟! ماذا جرى لك خلال الفترة الماضية!؟ كيف انهارت جدران دفاعاتك النفسية دفعةً واحدة؟! كيفَ نسيت كُل ما علمتك إياه؟؟
أدارَ وجهه نحو النافذةِ المُطلة على الشارع. ثم عاد بنظرهِ إلي وهو ينتظرُ ما لدي من جواب. حقيقةً لم يكن في بالي سوى طعمُ التبغ المحشو في السيجارة التي أرغُب في تدخينها. والعدد المتبقي منها في علبة السجائر التي لدي الآن.
قُلت:
هل حدث معك أن كُنت لا تملك سوى ٥ يورو وكان هذا المبلغ مرصود لطعام يوم كامل.. ثم ذهبت إلى الدُكان واشتريت خبز وعلبةً من المارتديلا وحبتين من الطماطم.
أقنعتَ نفسك أن هذا نصيبك لذاك اليوم وعدت إلى المنزل… فتحت علبة المارتديلا تريد طبخها فإذ بها منتهية الصلاحية ومتعفنة فاضطررت للعودة إلى الدكان لتبديلها لأنك إن رميتها فلن تأكل أبداً!؟؟
أجاب:
هذه الجلسة معك لا معي. هذه التفاصيل اليومية غيرُ مهمة.
قُلت:
بل هي الأصل الذي تنطلق منه المشاعر والأحاسيس. على أي حال سأجيبك عن سؤالك لكن باستفاضة. الأسبوع الماضي خرجت مع اثنين من الأصدقاء. تسكعنا على الميناء وشربنا وضحكنا كثيراً. كانت جلسة جميلة من أيام الزمن الجميل. تلك الجلسات التي تشعرك بالأمان… وتعطيك الإذن كي تكون على طبيعتك .ليلتها وبعد انتهائنا عدتُ إلى المنزل… وبكيت بكيت. بكيت كثيراً وكأن شيئاً ما تفجر في قلبي ودفق.
قال:
مازلت مصرّ على استخدام هذه اللغة الشعرية حتى وأنت تتحدث عن نفسك.. أو مع نفسك !؟ ابتسم ثم لاح برأسه يميناً ويساراً.
تجاهلتُ ردة الفعل تلك وتابعت الكلام غير مكترث:
في صباح اليوم التالي استيقظت وكأن دمعي غسلَ روحي وعقلي. شكلت هذه الحالة التي كنت عليها صدمةً مهولة. وكأني أرى نفسي على حقيقتها من جديد. وكأن باب فُتح في داخلي وخرجَ كائن محبوسٌ خلفه إلى الضوء.
أووف كائن!؟؟ ماهو هذا الكائن !؟ أهو كائن أم شخص ! أم شخصية!؟
قاطعني الطبيب مستغرباً.
قُلت:
سألتزم بمصطلح الكائن.. هو كائنٌ معجونٌ من مشاعر يقال عنها سلبية. كائنٌ من جوع وقهرٍ فقر وظلم فقدٍ واشتياق لوعةٌ وبؤس نقص وسحق.هو تجميعٌ لما حطمته الأيام في داخلي من جمال وأمل ومحبةٍ وسعادة وضياء. كائنٌ قاتم داكن ضُغط بفعل الزمن وغرائز الحياة.
القوة الأساسية كانت الإحساس. ضغطته لدرجة أصبح يشبه الثقب الأسود في صغره وكثافته وجاذبيته يلتقط كُل ما يقترب منه ويبلعه ثم يجعله عدماً.
فتحَ عينيه الطبيب في دهشة لم يستطع إخفاء آثارها على وجهه وكتبَ ملاحظة في مفكرته وسَكن.
تابعت:
هذا الكائن عندما يتحرر يأخذ أبسط الأشكال ليجنبني الألم. ألمُ الفعل والتفاعل.
حُزن .. يصير حُزناً قاتما يغطي الوجود بأكمله. لكن يفرض سطوته بجسارة ويُمسك بدفة الحس حتى تنتهي طاقته ويعود إلى محبسه الإفتراضي.
قال:
لما إذا كُل هذا الإنكسار.. إن كان قد عاد إلى محبسه وأنت أمامي الآن؟!
أجبت:
المشكلة تكمن في حقيقته.. في أصالته وتجذره فيّ. في كُل مرةٍ يخرج يجعلُ صورتي في المرآة مختلفة عن ما أراه كل صباح حين أغسل وجهي. يشقُ بيني وبين نفسي. يوضح الفرق بين ابتسامتي التي علق عليها الكثيرين وبين دمعتي التي لايعرفها أحد.. يوضح الفرق أمام عينيّ. يقول لي في وجهي وهو يضع عينه في عيني تماماً: كم أنت كاذب.. يضع اصبعه في ذاك الجرح الفاصل بين وعيي ولا وعيي. يزعزع ثقتي بنفسي وبالآخرين. يحطم الوهم الذي سعيت جاهداً كي أحياه. وهم الحياة بحد ذاتها. وهم أنني حيّ كما أريد. وهم أنني قادرٌ على تنظيم الحِس.. بل رُبما ضبطه والتحكم به. وهمٌ يشبه القناع ألبسه وأسيرُ به في الشارع وبين الناس حتى أبقى مقبولاً… أو الأدق حتى أبقى على قيد الحياة وبين أقراني من البشر.
في تلك السكرة لمستُ حقيقةَ روحيّ رفيقيّ. في هذه اللحظات تنطلق الروح بلا حدود ولا ضابط وتكون على حقيقتها. تلتقي الكائنات الحبيسة بين جدران ذواتنا وتتحد. فتصبح بثقلِ هذا الوجود. هذا ما جرى وهذا ما يجري حتى هذه اللحظة.
أشعلتُ سيجارة وقلبي يخفق بسرعة. لا أعلم لمَ لكن توترت!
أشعل غليونه ونظر نحوي ثم قال:
ألا ترى أن الحياة أبسط من كُل هذا الكلام؟!
لم أجب وأشحت بوجهي نحو ذات النافذة المُطلة على الشارع. وأنا أرى… ذاك الكائن الداكن ينظرُ نحوي من انعكاسِ وجهي على زجاج النافذة.
يَتبع..