العربي الآن

عن فيديو الملثم ذي الحاجبين: سقيفة بني إدلب

هبة عز الدين- العربي القديم

يهدر الترامواي في الشارع المحاذي لبيتنا، ويمشي في زقاق بيتنا جارنا التركي صعب المراس كمعظم كبار السن، يشتم و يتمتم ويعود لباب بيته، ثم يذهب مرة أخرى. تخشخش قطة على الرصيف بكيس النايلون المركون قربها عبثاً، ثم ترفع يدها لتخدش وردة زهرية متدلية، نسيت أن تسقط ليلاً. ترتج قهوتي من قوة الترامواي، وأنظر إلى كل البيوت حولي، بيوت السوريين التي أستطيع تمييزها من بين مئات البيوت في غازي عنتاب، من الغسيل المتناسق المنشور على الحبال كمصفوفة هندسية، والأراكيل على الرفوف الحجرية، والستائر القاتمة المسدلة.

أمسك جوالي وأنا أتمتم: “يا فتّاح ياعليم، خليني شوف أشو السيرة ع الفيسبوك اليوم”.

عليّ أن أعترف بأن فيسبوك السوريين لم يخذلني يوماً، متجدد، خلّاق للقضايا التي نختلف عليها، ولعل ليس آخرها المنشور الذي طالب به أحد الإدلبيين أن يرحل النازحون السوريون من إدلب، والمنشورات الكثيرة التي لا تقل بغضاً عنه.

إي، إذاً اليوم الصد والرد إدلبي الهوى، و علي أن أتحمل، إن كتب أحدهم: “بعتولنا زبالة كل المحافظات”، وترد عليه إحداهن: ” أي شو صارت إدلب لوكسمبورغ؟”، وآخر يجود: ” كل عمرن قرباط، أصلاً النازحين عملوا قيمة لإدلب”، وآخر يكتب: “ما بيهمني من السيرة غير حواجب الملثم اللي عم يحكي، زابطين أكثر من حياتي”.

لقد كتب أحدهم وهو متطوع مع الدفاع المدني السوري، منشوراً عبر صفحته الفيسبوك يطالب بترحيل النازحين السوريين من إدلب، ويعبر عن امتعاضه منهم، ومن ثم سانده عبر تطبيق التيكتوك شاب يبدو أنه عشريني، ملثم، لا يظهر منه سوى عينيه وحاجبيه المشذبين والمرتبين أكثر من حياة الأخ أعلاه.

ياصباح الخير فعلاً!

كنت قد قررت منذ الغزوة الماضية، ألا أعود إلى ساحات الوغى الزرقاء ثانية، إلا أن هذا الفضاء المجنون هو الوحيد فعلاً المتبقي لنا، لنقنع أنفسنا أننا ذوات مهمة ولنا رأي، نسطتيع أن نشتم الرئيس، ويا سيدي أمّ الرئيس، ونفتح القدس، ونعمر الدولة، نكتب الدستور، ونتغزل بأنفسنا مرات نادرة.

مر على تلك الغزوة شهر وتسعة عشر يوماً، وكانت على مضارب بني الأتارب، حينما  رفعت لافتة صغيرة في إحدى المظاهرات، كتب عليها دولة عربية وبجانبها إشارة إكس، دولة كردية وبجانبها إشارة إكس، دولة سنية وبجانبها إشارة إكس، ومن ثم دولة وطنية ديمقراطية لكل السوريين وبجانبها إشارة صح خضراء كبيرة.

أشهرَ بعض السوريين سيوفهم وعصيهم وسكاكين مطابخهم لمن استطاع سبيلاً، مزبدين ومرعدين، أي علمنجي أو علمنجية قد تسول لهم أنفسهم التفكير بالدولة الوطنية الديمقراطية. تلك اللافتة، البسيطة في تصميمها والعميقة في معناها، أصبحت رمزاً لحالة التشتت والبحث عن اتجاه جديد في تاريخ الحراك المدني السوري. هناك من يرى أن الحل يكمن في إقامة دولة سنية، تعكس الأغلبية الديموغرافية للسكان، وتستند إلى الشريعة الإسلامية كمرجع أساسي. هؤلاء يرون أن الدولة السنية ستكون القادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والحفاظ على الهوية الدينية والثقافية للأغلبية.

فئة أخرى ترى أن الديمقراطية مفهوم غربي، لا يتناسب مع التقاليد والقيم الإسلامية، ويعتبرونها حراماً. هؤلاء ينادون بإقامة دولة تستند إلى القيم الإسلامية بشكل أكثر صرامة، ويرفضون الفكرة الديمقراطية من أساسها. يرون أن النظام الديمقراطي يفتح الباب أمام الانحلال الأخلاقي والفوضى.

وفي اللافتة، هناك إشارات إكس حمراء بجانب كل من فكرة إقامة دولة عربية، أو دولة كردية، أو دولة سنية. هذه الإشارات تعبر عن رفض واسع النطاق بين السوريين لفكرة تقسيم البلاد على أسس عرقية أو طائفية. يعتبرون أن مثل هذه التقسيمات لن تؤدي إلا إلى المزيد من النزاعات والانقسامات، وأن الحل يجب أن يكون شاملاً لكل السوريين.

في المقابل، كانت هناك إشارة صح خضراء كبيرة، بجانب فكرة إقامة دولة وطنية ديمقراطية تشمل جميع السوريين. هذه الفكرة تحظى بدعم كبير بين فئة واسعة من السوريين الذين يرون أن الحل الأمثل، هو بناء دولة ديمقراطية تعددية تحترم حقوق الإنسان، وتضمن العدالة والمساواة للجميع بغض النظر عن الدين أو العرق.

على مفترق تلك الاختلافات، قد يكون من الواجب اعتبار تلك اللافتة بداية لتقويم جديد في تاريخ الحراك المدني السوري؛ لأن تداعياتها تعكس تعقيد المشهد السياسي والاجتماعي في سوريا.

ولأن أمجاد الغزوات تُبنى تراكماً، لا تنفصل غزوة الملثم ذي الحاجبين المرتبين عن غزوة بني الأتارب، لكن السؤال ما العلاقة بينهما؟

قد يبدو غريباً أو ربطاً مجنوناً، أن أقول إن العلاقة تكمن في غياب الدولة المدنية، التي تدفع بعضهم للتمترس خلف جدار الدولة الدينية، ورفض الوطنية، وبعضهم الآخر يعتبر إدلب مضارب قبيلته التي يحق له أن يقرر من يدخلها ومن عليه أن يغادرها!

 على مر العصور، لعبت الدولة المدنية دوراً حيوياً في تنظيم المجتمعات وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي. ومع ذلك، عندما تغيب الدولة المدنية أو تضعف مؤسساتها، تنتشر الفوضى والعصبية القبلية، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي. وهذا الأمر لم يكن غريباً على التاريخ العربي، الذي شهد العديد من الفترات التي غابت فيها الدولة المدنية، فتفشت العصبية القبلية كبديل للسلطة المنظمة.

ففي فترة ما قبل الإسلام، كانت الجزيرة العربية مقسمة إلى قبائل وعشائر، وكانت العصبية القبلية هي الشكل الأساسي للتنظيم الاجتماعي والسياسي، حيث كانت كل قبيلة تعتمد على نفسها في الدفاع عن أراضيها ومواردها وكان النزاع القبلي متكررًا، وأشهر تلك النزاعات كان حرب البسوس بين قبيلتي بكر وتغلب التي استمرت لسنوات طويلة، ونتج عنها الكثير من الدمار والخسائر. ثم مع ضعف وسقوط الدولة العباسية في القرن الثالث عشر الميلادي، عادت العصبية القبلية لتسيطر على المشهد السياسي في المناطق البعيدة عن المركز. ففقدت الخلافة العباسية قدرتها على فرض النظام والقانون، مما أدى إلى تفكك السلطة المركزية وبروز الزعامات القبلية والمحلية التي تنافست في ما بينها للسيطرة على الموارد والأراضي. وفي نهاية القرن التاسع عشر، في الفترة التي شهدت ضعف الدولة العثمانية، عادت العصبية القبلية لتظهر بقوة في الجزيرة العربية، فاعتمدت القبائل على نفسها لتوفير الأمن والاستقرار، وحددت تحالفات القبائل وصراعاتها ملامح السلطة والنفوذ في المنطقة. على سبيل المثال، نجد أن آل سعود اعتمدوا على تحالفاتهم القبلية لتأسيس الدولة السعودية الأولى، وتكرار هذه التحالفات في مراحل لاحقة كان أساسياً لبقاء واستمرار سلطتهم.

إذاً يؤدي غياب الدولة المدنية، إلى نشوء ولاءات تحت وطنية، كالولاء للطائفة وللمنطقة وللعائلة والقائمة تطول، تقوض جملة هذه الولاءات الإحساس الوطني، ليس ذاك الذي لقننا إياه نظام البعث في المدارس، على أن الوطنية هي حب القائد الخالد، بل الوطنية المرتكزة على المد الشعوري بين السوريين، وحالة التضامن الاجتماعي في ما بينهم، واعتبار حقوقهم جميعاً ومطالبهم وحيواتهم أولى الأولويات أكثر من جملة الولاءات المتعددة لكل شخص، أي إذا حصلت مشاجرة بين ابن عمي وشخص مهجر من دمشق مثلاً، وكان الآخر على حق، أن أقف معه وأنصره خلافاً للسردية الشعبوية: “أنا وأخوي على ابن عمي وأنا وابن عمي ع الغريب”، أو للأكثر ثقافة زهداً بشعر دريد بن الصمة، حينما قال:

وهل أنا إلا من غزّيةَ، إنْ غوتْ                                      غَويتُ وإن ترشُد غَزية أرشدِ

بناء عليه، يشعر أصحاب الولاءات تلك بخطر حينما يلوح في الأفق أي حديث وطني، وخوفهم ذاك نابع من خشيتهم، فقدان الأمان والسلطة والقوة والاضطرار إلى الذوبان ببوتقة أكبر تخسرهم مكاسبهم الآنية، لكنها تؤسس لمنظومة مدنية تحمي الدولة، أي سوريا وحقوق جميع المواطنين على المدى البعيد. لكن أيضاً يحف أصحاب الولاءات تلك الشعور بالموت بأي لحظة، فعن أي مكاسب مستقبلية نتحدث، وهنا يجب التوقف للقول: “الله يلعنك يا بشار الأسد”؛ لأنك المؤسس لفكرة الحياة المؤقتة والموت المتواتر الذي أصبح أسهل شيء في متناول السوريين، ولو كانت الألقاب بالتمني لتمنيت أن يُسمّى تاريخياً القاتل الأكبر.

فهل من عجب أن يقاتل بعض السوريين تلك اللافتة؟ والخلاصة، لا دولة مدنية، أي منظومة عصبية قبلية، وبالتالي لا مجال للوطنية.

في مقلب آخر، يسلط تقرير “آفاق التنمية العالمية 2012: التماسك الاجتماعي في عالم متغير”، الصادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الضوء على عدة مرتكزات أساسية لتعزيز التماسك الاجتماعي، وأهمها العدالة و المساواة، وهنا علي أن أخاطب القراء المحتملين من أصحاب الولاءات المتعددة، وأقول:  حنانيكم، بإمكانكم النظر للعدالة فقط، أما أنا فوالله لو كان لي قلبان لعشتُ بواحدٍ، وأفردتُ قلباً بهوى المساواةِ يُعذّب. أما الركيزة الثانية فهي الحكم الرشيد، والثالثة هي الاستقرار، وتلك القواعد الثلاث، تكاد تكون معدومة في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، رغم المحاولات الشكلية لإظهار حالة من الحوكمة، والاستقرار والأمن الأمان والعدالة، وتقديم نموذج لإدلب على أنها المحافظة الفاضلة. أما أهم الركائز، فهي الهوية الوطنية المشتركة، وهنا مربط الفرس.

في محاولة سريعة لتعريف الهوية الوطنية المشتركة، نجد عشرات بل مئات التعريفات، كالشعور بالانتماء الواعي للأمة أو للوطن، والارتباط العاطفي و المصالح المشتركة، لكنْ أي من هذه يتحقق في إدلب، كمنطقة خارجة عن سيطرة النظام، وتخضع لسيطرة قوة متنفذة راديكالية؟  ورغم أن الرابط الثوري كان الأعمق والقادر على خلق أوتاد متينة بين السوريين من مختلف مناطقهم، لكن مع الخسارات الكثيرة، هل مازال ذاك الرابط موجوداً فعلاً؟ وهذا يعني أن هناك مجموعة من الهويات المحلية  كانت في سوريا قبل قيام الثورة، لكن الحراك المدني أعطاها المساحة الآمنة لتظهر بشكل فاقع.

أما إدلب، فحالة أخرى، فما بين تهميش النظام لها، ومحاولة الأدالبة النجاة في وطن ينظر إليهم، على أنهم (شرطة أو ملاحقو أطفال)، كانت الهوية الإدلبية ضبابية، فلا هي إدلبية و لا هي سورية، وعلى مفرق سراقب الواصل بين اللاذقية وحلب تنسى  كإدلبي، من أين أنت أصلاً، وربما تختار صوت أبي حسين التلاوي هوية لك مثلاً، لكن مع خروج المحافظة عن سيطرة النظام، وبدء تشكيل نواة لدولة مدنية في السنتين الأوليتين من الثورة، بدأ الأدالبة يفكرون جدياً بتشكيل هوية محلية لا تتنافر مع الهوية الوطنية، أي بإمكاني أن أعرّف عن نفسي أني سورية من إدلب، كفر يحمول، دون أن يشكك بانتمائي للوطن، إلا أن الدول المتصارعة في سوريا، وحالة العسكرة المشتتة، وظهور تيارات راديكالية متعددة لم تسمح بالنمو الصحي لتلك الهوية، فبقي معظم الأدالبة بهوية بلا هوية، كمن يحمل هوية نسيها بجيب البنطال، فأكلت الغسالة نصف ماكتب عليها.

بالله عليكم، هوية نصف مأكولة مع شعور باللا إنتماء، ما حريّ بهما أن ينتجا؟ مؤكد ستأتيان بغزوة بني الأتارب، وغزوة الملثم ذي الحاجبين المرتبين، كما ستنجبان شعباً من بني ساعدة لم يغادر سقيفتها لحظة!

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى