أرشيف المجلة الشهرية

آل الأتاسي وأدوارهم السياسية منذ العهد العثماني حتى العصر الحديث (2 من 3)

د. باسل الأتاسي – العربي القديم

تناول الباحث د. باسل الأتاسي في القسم الأول من هذه الدراسة الضافية الموقع الذي تبوأته أسرة الأتاسي في حمص ونفوذها منذ نهايات العهد المملوكي، مرورا بالعهد العثماني،  وكيف تمكنت هذه الأسرة التي مارست الافتاء الديني خلال قرون، من مواكبة التغييرات والتحولات العصرية وخصوصا بعد صدور قانون التنظيمات العثمانية، وكيف سلك أفرادها طريقهم إلى السياسة والحكم والإدارة. هنا الجزء الثاني الذي يركز على تراجم أعلام آل الأتاسي (العربي القديم).

اقرأ أيضاً: آل الأتاسي وأدوارهم السياسية منذ العهد العثماني حتى العصر الحديث

يحيى أفندي الأتاسي

ومن العلماء الذين كان لهم أثر ملموس على الحياة الاجتماعية والسياسية في حمص: السيد يحيى أفندي ابن مفتي حمص السيد محمد سعيد الأتاسي، وهو ظاهرة فريدة لا بد من الوقوف عندها.  كان هذا السيد من فقهاء حمص وعلمائها الشرعيين، بل سلك أيضاً الطريقة النقشبندية من الطرق الصوفية، حتى إنه كان من المرشحين للفتوى الحمصية، لما عزل ابن عمه السيد خالد الأتاسي من الفتوى سنة 1312ه كما مر معنا، إلا أنه كان في الحقيقة سياسياً من الطراز الأول، بل أحد دهاة الأسرة.  ومع أنه لم يتبوأ الكثير من المناصب الدينية أو المدنية، إلا أنه كان لا يفتر عن العمل في الحقول التربوية والاجتماعية والاقتصادية، بل كان رائداً في الإعلام، سخّر ملكته الأدبية التي أتاحتها له خلفيته العلمية ودراسته الشرعية لخدمة عدة قضايا اجتماعية كانت قريبة من قلبه، فكان له نشاط ملحوظ في الصحف التي كانت قد انتشرت في بلاد الشام، وأخصها صحيفة (ثمرات الفنون)، التي كتب فيها مقالات كثيرة في أمور اجتماعية شتى، منها قضية تعليم المرأة التي كان هو رائدها في حمص، خاصة في أثناء عمله كمفتش لشعبة المعارف، وكاتب لها (1307-1311هـ /1890-1893م).  وهو الذي فتح أول مدرسة للبنات في قضاء حمص، واستجلب لها المعلمات القادرات من بيروت. وفي مقالاته قام باستنهاض الهمم في إصلاح أمور شعبة المعارف، وكتب عن أهمية تعليم المرأة للمجتمع عامةً، والخير الناتج عن إنشاء جيل من المتعلمات، وأكد في مقالاته على أن الدين الإسلامي حثّ على تعليم الإناث حثه على تعليم الذكور، وإن علمت أن هذا الفكر النيّر تواجد في القرن التاسع عشر الميلادي، لأدركت أن هذا الرجل كان سابقاً لعصره، حاوياً لوعي ثقافي قل مثيله في ذلك العهد. ولكن الأتاسي سخر قلمه أيضاً لمناهضة الظلم، فتعرض في مقالاته لبعض أولياء الأمور الذين تعاطوا الرشوة، وكانت مقالاته سبباً لفتح تحقيقات في أعمال بعض القضاء بأمر من والي سورية.  وتزعم السيد يحيى أيضاً مطلباً هاماً من مطالب الحماصنة، وهو فصل قضاء حمص إداريا عن لواء حماة، إذ كانت حمص في تلك الفترة مركز قضاء يتبع لواء حماة، والذي كان تابعاً بدوره لولاية سورية التي كان مركزها دمشق.  وكان الحماصنة يرون أن وجود حمص كمركز لواء قائم بذاته، ويتبع مركز الولاية مباشرة أكثر فائدة لهم من الناحية الاقتصادية، وأن مدينة حمص وجوارها على حجمها وعدد سكانها أجدر بها أن تكون لواءً بدلا من أن تكون قضاءً؛ ولذلك قام السيد يحيى بكتابة المقالات العديدة في هذا الصدد، ورفع العرائض لولاة الأمور التي شرحت أهمية هذا المطلب، والفوائد التي يمكن لحمص أن تجنيها من هذا التغيير الإداري، وكان يتابع هذه القضية في الأستانة ابن عمه وصفي بك الأتاسي النائب في مجلس المبعوثان مع الصدارة، وكاد الحماصنة أن يحصلوا على ما أرادوا، لولا قيام الحرب العالمية الأولى، ثم قيام الثورة العربية وانفصال بلاد الشام عن الدولة العثمانية. 

خالد أفندي الأتاسي

إلا أن القصة الأكثر نجاحاً هي لا شك قصة العالم الكبير محمد خالد أفندي الأتاسي، الذي لعله كان أشهر من تولى منصب الإفتاء في حمص، وكانت شهرته العلمية في حياته وصلت إلى أكثر البلاد الإسلامية، خاصة أنه مؤلف (شرح المجلة) الشهير في فقه المعاملات، والقانون المدني المستمد من الشريعة الإسلامية، والذي ما زال يُدرس لطلاب العلم الشرعي والحقوق إلى يومنا هذا في الكثير من المناطق التي ينتشر فيها المذهب الحنفي، وقد تُرجم إلى عدة لغات شرقية كالفارسية وغيرها.  لم يكن السيد خالد أول من شارك في الأحداث السياسية من علماء الأسرة، ولا كان أول من أدرك أن استمرارية نجاح الأسرة تعتمد جداً على قدرتها في التغير والتأقلم، إلا أنه كان الأبرز في تطبيق هذه التغييرات.  قبل أن يستلم الأتاسي منصب الإفتاء إثر وفاة والده المفتي محمد أبو الفتح الأتاسي سنة 1300ه، كان قد انتخب عضواً في المجلس العمومي لولاية سورية ممثلاً أهالي قضاء حمص، ثم ما لبث أن انتخب عام 1294ه (1877م) نائباً عن ولاية سورية في الدورة الأولى من “مجلس المبعوثان”، الذي كان أول مجلس نيابي في التاريخ الإسلامي، وبذلك دخل هذا الفقيه المعمم عالم السياسة من أوسع أبوابها، وعلى نطاق أكبر من النطاق المحلي الذي عرفه أسلافه.  وفي الأستانة احتك الأتاسي بشخصيات عديدة علمية ومدنية، ثم عاد أدراجه إلى حمص بعد أن حل السلطان عبدالحميد الثاني البرلمان إثر أشهر قليلة من انعقاده، مدركاً أن رياح التغيير آتية لا محالة؛  ولذلك من الطريف أن نعلم أنه دفع بأربعة من أولاده في طريق العلم الشرعي، فاعتمروا العمة البيضاء، عمة العلماء، وكان أبرزهم نجله الأكبر الشيخ محمد طاهر أفندي الأتاسي، الذي تولى مناصب القضاء الشرعي في بلاد الشام والعراق والأناضول، قبل أن ينتهي به المطاف مفتياً لحمص كآبائه وأجداده، ولكن خالد أفندي أيضاً وضع الأربعة الآخرين من أولاده في المدارس النظامية المدنية، فكان أشهرهم ابنه السيد محمد هاشم بك الأتاسي، الذي أصبح في ما بعد أيقونة العمل السياسي، وأبو الدستور السوري، وزعيم الوطنيين على وجه الإطلاق.  وهكذا كان خالد أفندي الأتاسي العالم الشرعي النبيه، الذي أدرك كيف يضمن وجود بعض أولاده في المناصب المدنية والإدارية، بينما بقي متمسكاً بالدور الديني الكبير الذي كانت أسرته رائدة له على مدى قرون خمسة.   

وصفي بك الأتاسي

وفي نهايات الدولة العثمانية بدأ عدد من الأتاسية في ولوج المدارس النظامية المدنية، واستطاع عدد منهم أن يكمل دراسته في الكليات العليا في الأستانة، ومن هؤلاء السيد وصفي بك ابن رئيس بلدية حمص الشيخ نجيب الأتاسي الذي مر الكلام عنه آنفاً، والذي تخرج من كلية الإدارة الملكية في الأستانة حائزاً على شهادتها عام 1907م، فهيأته دراسته ليكون من الإداريين والساسة المتميزين.  وبعد تخرجه عين بمعية والي بورصة للتمرس على الإدارة، فلما أتم فترة تدريبه عين في أول مناصبه الإدارية قائم مقام لقضاء باندرامه في سنجق قره سي المستقل في الأناضول عام 1909م، ثم أصبح قائممقام قضاء قلعة جك في ولاية أنقرة عام 1330ه (1912م)، عاد بعدها إلى حمص ليعمل في مجال التدريس حتى سنحت له الفرصة أن يشارك في الأعمال السياسية مبكراً، قبيل الثورة العربية وانفصال البلاد العربية عن الإمبراطورية العثمانية، فجرى انتخابه عضواً في المجلس العمومي لولاية سورية ممثلاً عن قضاء حمص مع مواطنيه كمال أفندي الجندلي، ورفيق أفندي رسلان يوم الخميس 25 تموز 1912م (25 شعبان 1330ه) حمل الأعضاء الحماصنة قضايا مدينتهم إلى المجلس العمومي في مركز الولاية بدمشق، وكان في طليعتها رغبة الأهالي في ترقية قضاء حمص إلى متصرفية مستقلة عن متصرفية حماة، وهي قضية نشط بها آل الأتاسي مدة مديدة من الزمن. وكانت المطالب التعليمية أيضاً على رأس اللائحة التي عرضها الأعضاء الحماصنة الثلاثة على المجلس العمومي، منها إنشاء مكاتب رشدية ودعم المدارس الموجودة، بالإضافة إلى أمور تمس رفاهية الحماصنة كإعطاء رخصة لشركة وطنية بجر ماء العاصي وتنوير المدينة بالكهرباء، وإنشاء طريق عربات من الميمياس للحولة، وتعزيز ميزانية البلدية والمعارف بفرض ضريبة على الحبوب التي يصدرها التجار للخارج، وغيرها. ولما لمس الأتاسي قدرته على إبراز قضايا وطنه عن طريق التمثيل النيابي، قرر أن يترشح لعضوية مجلس المبعوثان، المجلس النيابي للإمبراطورية العثمانية، فنجح في مسعاه وانتخب مبعوثاً عن ولاية سورية ممثلاً للواء حماة وقضاء حمص مع السيد عبدالقادر الكيلاني في دورة المجلس التشريعية الخامسة في أواخر نيسان (ابريل) عام 1914م، فكان ثاني النواب الأتاسيين بعد ابن عم والده السيد العلامة خالد أفندي الأتاسي الذي كان أول نائب للواء حماة في الدورة الأولى من مجلس المبعوثان العثماني عام 1294ه (1877م).  واستمر الأتاسي صوتاً لحمص وولاية سورية في المجلس حتى نهاية العهد العثماني في سورية عام 1918م، ليسجل له التاريخ مشاركة سياسية فعالة في المراحل الأخيرة من الوجود العثماني في سورية، ثم في التحضير لمرحلة انفصال سورية عن الإمبراطورية العثمانية، وليلعب دوراً رئيسياً في عملية تأسيس الدولة السورية الفتية، حتى عد مع ابن عمه الرئيس الجليل السيد هاشم بك الأتاسي -زميله في المؤتمر السوري والكتلة الوطنية- من الآباء المؤسسين للدولة السورية.  وبعد انفصال البلاد عن الدولة العثمانية انتخب الأتاسي في أول برلمان عربي، المؤتمر السوري، في حزيران 1919م.  وكان من أعضاء اللجنة الدستورية التي ترأسها ابن عمه هاشم بك الأتاسي، فوضعت الدستور السوري الأول في تموز عام 1920م، وبذلك شارك أتاسيان في حدث وضع الدستور الأول في التاريخ.

 بالإضافة إلى ذلك كان الملك فيصل الهاشمي، قد توسم فيه الحكمة وحسن السياسة، فنصبه متصرفاً (محافظاً) على منطقة حماة في شباط (فبراير) عام 1920م، وكان ابن عمه هاشم بك الأتاسي متصرف حمص في ذلك الوقت.  بين العامين 1919 و1920، كان وصفي بك الأتاسي من المؤسسين للجنة الدفاع الوطني في حمص، والتي ترأسها ابن عمه عمر بك الأتاسي، وكان من الأعضاء المتألقين فيها، يعمل على جمع التبرعات والإعانات المالية لدعم نشاطات اللجنة، ويشارك في التخطيط للثورات والمعارك التي كانت اللجنة تدعمها وتشعل شرارتها، وبالأخص تلك التي قامت في تلكلخ، ومعارك الدفاع عن مدينة حمص . وفي أوائل عام 1919، أسس الأتاسي النادي العربي في حمص فرعاً للنادي العربي الذي أسسه الأحرار العرب في دمشق في عهد الأمير فيصل الهاشمي، وكان مقره قهوة الفيصل التي كانت لا تزال قائمة حتى الثمانينات من القرن العشرين، وانتخب الأتاسي رئيساً للنادي الذي أصبح بؤرة للنشاط الوطني فقدم محاضرات ومسرحيات وطنية استهدفت الاحتلال الفرنسي، حتى أغلق الفرنسيون النادي في تموز عام 1920م. ولما قرر الوطنيون مقاطعة انتخابات عام 1926م كان الأتاسي على رأسهم، فكان من الذين اعتقلوا في حمص في 23 كانون الثاني، ثم أخذوا إلى تلكلخ ومنها أودعوا جزيرة أرواد مع غيره من أركان الرعيل الأول من الوطنيين، ومعه ابنا عمه، هاشم بك الأتاسي، ومظهر أفندي الأتاسي. 

ولما تأسست الكتلة الوطنية عام 1928م برئاسة هاشم الأتاسي لخوض انتخابات المجلس التأسيسي، انضم وصفي بك الأتاسي إلى صفوف الوطنيين الذين انتسبوا إليها، وكان أحد الموقعين على البيان الذي أعلن فيه الوطنيون عن رغبتهم في الاشتراك بالانتخابات، وتقدم وصفي بك مرشحاً نفسه للمجلس النيابي التأسيسي عام 1928م عن مسلمي حمص مع كل من عمر بك الأتاسي، وهاشم بك الأتاسي، ومظهر باشا رسلان، وشكري الجندي، ولكن حرصاً على وحدة الصف الوطني، ودفعاً للحرج دعا هاشم بك ابني عمه إلى اجتماع، فاقترح أن يسحب هو ترشيحه احتراماً لوحدة صف الوطنيين، إلا أن السيدين عمر بك ووصفي بك أعلنا على الفور انسحابهما من القائمة، ليبقى فيها هاشم الأتاسي، حرصاً منهما على تكاتف الخط الوطني، واحتراماً لقرار كانت قد اتخذته الأسرة الأتاسية في دعمها وتقديمها لهاشم الأتاسي في الواجهة السياسية للأسرة، وأعجبت حمص بوطنية الأتاسية الثلاثة، وبتضحية كل من عمر ووصفي الأتاسي، مع أن الفوز بمقاعد المجلس لم يكن ليستعصي عليهما رحمهما الله.  ولم يطل الأمر بالأتاسي بعد ذلك، إذ وافاه أجله في عام 1932، بعد حياة حافلة بالنضال الوطني والعمل السياسي.

هاشم بك الأتاسي

أما أبرز السياسيين في الأسرة ومجدد مجدها، فهو السيد محمد هاشم بك الأتاسي، الذي يعرفه السوريون اليوم على أنه زعيم الحركة الوطنية في البلاد،  ومع أن الكثير كُتِب عن سيرة هذا الرجل الكبير، إلا أن القليل يعرف أن الأتاسي أنفق ربع قرن من حياته في الخدمة الإدارية في الدولة العثمانية قبل أن يترأس المسرح السياسي في سورية.

  تخرج الأتاسي من الكلية الملكية للإدارة في الأستانة في 28 آب 1893م (16 صفر سنة 1311هـ)، وكانت أولى مهامه بعد التخرج وظيفة “بمعية والي سورية”، وهو بمثابة معاون الوالي، عادة ما يعين فيها حديثو التخرج من مكتب الإدارة الشاهاني لغرض تدريبهم على مهام الإدارة قبل استلام إدارة الأقضية، ثم عين “بمعية والي بيروت” (15 جمادى الآخرة سنة 1312هــ 13 كانون الأول 1894م) ولمدة ثلاث سنوات، وفي أثناء هذه المدة عين قائم مقام قضاء المرقب في ولاية بيروت بالوكالة، تم تعين قائم مقام بشكل رسمي لقضاء المرقب بولاية بيروت (حول اسمه في ما بعد اسمه إلى قضاء بانياس) في 4 شعبان 1315هــ (28 كانون الأول 1897م)، ثم نقل إلى قضاء صهيون في ولاية بيروت كذلك، فعين قائم مقام له في 19 ربيع الآخر 1316ه=1898م (غُيّر اسمه إلى قضاء الحفة في ما بعد)، ثم أعيد تعيينه قائمقام قضاء المرقب ثانية ورئيساً لمجلس إدارة القضاء ورئيساً لقوميسون وسائط النقل العسكري ورئيساً لشعبة معارف القضاء في 20 رجب 1317ه (1899- 1902م) مدة ثلاث سنوات.  ثم كلف بقضاء صفد بولاية بيروت في 24 محرم 1320هـ (1902م) فبقي فيها أقل من عام، حتى صدر قرار نقله قائم مقام لقضاء صور وجبل عامل بولاية بيروت في 25 ذي القعدة 1320ه (1903م)، وهناك استطاع بهمته أن يصادر الأسلحة غير المرخصة، فحاز على ممنونية الوالي وتشكره.  وبعدها نقل إلى قائممقامية قضاء السلط بولاية سورية في 16 محرم عام 1322ه (1904م)، وفي أثنائها شغل منصب متصرف الكرك بالوكالة مدة، وظل الأتاسي حاكماً للسلط أكثر من ثلاث سنوات، حتى عين قائم مقام قضاء عجلون بولاية سورية في شعبان 1325هــ (1907م) خلفاً للأمير أمين بك أرسلان، ثم تولى حكم جبلة بولاية بيروت فعين قائم مقام لها في رمضان 1326ه (1908م) حوالي العام، ثم عين قائم مقام بمدينة بعلبك (1910م) بولاية سورية، فقائم مقام قضاء حاجين بلواء قوزان بولاية أضنة في 11 رمضان 1328هـ (1910م) حتى طلب استعفاءه من هذه الوظيفة لعدم مناسبة هوائها لصحته، فعين قائم مقام لقضاء يافا بلواء القدس الشريف، ورئيساً لمجلسها الإداري في 19 صفر 1330ه (1912م). وفي يافا استطاع الأتاسي أن يملك قلوب السكان بإخلاصه لعمله، حتى إنهم اعترضوا على تبديله لما جاء أمر نقله إلى قضاء آخر.  ظل الأتاسي في قضاء يافا إلى أن رقي إلى منصب المتصرف (المحافظ)، فعين متصرفاً لسنجق حماة بولاية سورية في 7 شوال 1331هـ (1913م)، وكان يضم قضاء حمص، مدة أقل من عام، نقل بعدها متصرفاً للواء عكا الذي ضم شمال فلسطين وأجزاء من جنوب لبنان (1331-1333هـ=1913-1915م)، ثم انتقل إلى الأناضول بعد صدور أمر تعيينه متصرفاً على لواء جبل بركات في ولاية أضنة في 16 ربيع الأول 1334هـ (1916م) مدة أشهر، وأخيرا عين متصرفاً للواء بور دور من بلاد الأناضول في ولاية قونية في 15 شوال 1334هـ (1916م)، فبقي فيه حتى انتهاء الحرب العالمية وهزيمة العثمانيين، حين عزل في 17 جمادى الأولى 1337هـ (1919م) فكان آخر منصب إداري له في العهد العثماني، وعند مغادرته للواء بوردور بنهاية عهد بني عثمان، أقام له أهالي اللواء احتفالاً تكريمياً اعترافاً له بفضله ونزاهته.  وبعد خروج العثمانيين ودخول الجيش العربي عاد الأتاسي إلى حمص، وفي العهد الفيصلي صدرت إرادة الأمير فيصل بتسمية هاشم بك الأتاسي أول متصرف للواء حمص الذي انفصل عن لواء حماة، فأشرف على تشكيل اللواء في ربيع الأول سنة 1338هـ (كانون الأول 1919م) مكللاً جهود الأسرة -لجعلها متصرفية مستقلة- بالنجاح، وظل فيها حتى عينه الأمير فيصل في مجلس الشورى في جمادى الآخرة 1338هـ (شباط/ فبراير 1920م). 

هذا باختصار هو سجل الأتاسي الحافل في الإدارة العثمانية ثم الفيصلية، وهي مقدمة لا بد منها في أي بحث يتناول سيرة هذا الرجل الكبير؛ لأن هذه الرحلة الإدارية في أنحاء الإمبراطورية العثمانية أكسبته خبرة عظيمة ساعدت على تكوين شخصيته وأعدته للدور الأعظم في ما بعد، وساهمت في تقديمه لشريحة واسعة من أهالي بلاد الشام كرجل إدارة حازم وطيب الأثر في نفس الوقت، وأعانته على إنشاء روابط مكينة مع عدد كبير من الشخصيات التي برزت على الساحة السياسية في ما بعد، فكان أن دخل الأتاسي معترك النضال السياسي بعيد انفصال سورية عن الامبراطورية العثمانية بخلفية متمرسة وعلاقات قوية.

وأما باقي سيرته السياسية فمعروفة لدى أكثر السوريين، فتفاصيلها أكبر من موضوع هذه الدراسة، لأني لا أكذب إن قلت إن حياته السياسية بحق هي -دون الكثير من المبالغة- تاريخ سورية الحديث، ولكني سأعرج على وجه السرعة على أهم محطاتها، فقد انتخب الأتاسي نائباً عن حمص في أول برلمان عربي، وهو المؤتمر السوري سنة 1919م، وكان بذلك ثالث رجل من الأسرة ينتخب نائباً برلمانياً بعد والده المفتي خالد الأتاسي الذي انتخب نائباً في مجلس المبعوثان في دورته الأولى، وابن عمه وصفي بك الأتاسي الذي انتخب أيضاً نائباً في مجلس المبعوثان في دورته الأخيرة سنة 1914م.  وانتخب مع الأتاسي في المؤتمر السوري أيضاً ابن عمه وصفي بك الأتاسي، ومظهر باشا رسلان ممثلين عن حمص.  وفي حزيران اختاره النواب رئيساً للمؤتمر، فكان أول رئيس للمجلس النيابي في التاريخ السوري.  وفي 3 تموز (يوليو) عام 1919م ترأس هاشم بك الأتاسي لجنة من واحد وعشرين نائباً لصياغة رغبة الأمة السورية في تقرير مصيرها، واجتمع مع فريقه بلجنة الاستفتاء الدولية (كينج-كراين) التي كانت تستطلع آراء السوريين وقتها في قضية استقلالهم لترفعها إلى جمعية الأمم.  وفي 7 آذار 1920 أعيد انتخاب الأتاسي رئيساً للدورة الثانية للمؤتمر، وقُرر إعلان سورية مستقلة بحدودها الطبيعية -متضمنة فلسطين- مع رفض الادعاء الصهيوني بالوطن القومي، وتكوين حكومة مسؤولة أمام المؤتمر الذي اعتبر مجلساً نيابياً وتأسيسياً في آن، ومبايعة الأمير فيصل ملكاً دستورياً على البلاد.  وفي يوم الإثنين 17 جمادى الأولى 1338ه الموافق لـ 8 آذار/ مارس عام 1920م، عقد رئيس المؤتمر الأتاسي الجلسة مفتتحاً بتلاوة قرار تنصيب فيصل بن الحسين ملكاً على البلاد وأعلن الاعتراف بسوريا الطبيعية دولة واحدة ومستقلة، وبالعراق دولة مستقلة، وعدم الاعتراف باتفاقية سايكس-بيكو ووعد بلفور وأي انتداب.  وهو حدث لعمري مهم وخطير في تاريخ بلاد العرب: أعلن المؤتمر السوري بقرار موقع من هاشم الأتاسي، وبقية الأعضاء استقلال سورية ضاربين عرض الحائط كل الاتفاقات والوعود الأجنبية التي قررت وضع سورية تحت الانتداب، وتم إبلاغ الشعب في الساعة الثالثة بعد الظهر في الثامن من آذار (مارس) من على شرفة بناء البلدية في ساحة المرجة على مشهد من جموع الجماهير السورية، وجرت حفلة المبايعة الرسمية في احتفال مهيب، ورفع العلم السوري لأول مرة بالتاريخ المعاصر.  ولعل من أهم أعمال المؤتمر السوري وضع أول دستور عربي في التاريخ، وقد كان السيد هاشم بك الأتاسي وابن عمه وصفي بك الأتاسي على رأس هذا الحدث الجليل، ففي تموز من عام 1919م انتخب المؤتمر السوري لجنة “القانون الأساسي” في دورته الأولى، فتشكلت من هاشم بك الأتاسي، ووصفي بك الأتاسي، وعزت دروزة، وعبدالقادر الكيلاني، وسعدالله الجابري، وسعيد حيدر، وتيودور أنطاكي، والشيخ عبدالعظيم الطرابلسي، وعثمان سلطان، وابراهيم القاسم عبدالهادي، وانتخب هاشم الأتاسي رئيساً لها في جلستها الأولى، وعزت دروزة سكرتيراً، وباشر أعضاء لجنة القانون الأساسي للدولة السورية بعقد الاجتماعات من أجل تحديد مواد الدستور ومناقشاته، متخذين النادي العربي مقراً للجنتهم، واستمرت اجتماعاتهم حتى في أثناء تعليق جلسات المؤتمر، ولكن يبدو أن الأحداث الجارية في الدورة الأولى حالت دون عرض المواد على اللجنة العمومية للمؤتمر، إلى أن عقد المؤتمر دورته الثانية في آذار 1920، حينها طالب بيان الحكومة الوزارية المؤتمر بالإسراع في النظر بمواد القانون، فقامت اللجنة في فترة وجيزة لم تتجاوز العشرة أسابيع بالتدقيق في المواد، ووقعت نقاشات مكثفة، انتهت بإقرار المؤتمر في تموز عام 1920م للقانون الأساسي دستورا للبلاد من 147 مادة، نصت على استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، وعلى تنصيب فيصل ملكاً للبلاد، وعلى وراثية الملكية في العائلة الهاشمية. 

وفي المؤتمر السوري، بحث الأعضاء أموراً متقدمة بالنسبة لذلك العصر: فنوقش حق المرأة في الانتخاب، وكانت الخطابات والبرقيات ترد على المؤتمر من أنحاء الشام مؤيدة أو رافضة، وذلك قبل عقود عديدة من إعطاء الدول الكبرى الغربية المرأة هذا الحق بما فيها دولة الانتداب، وكانت شؤون الدولة تداول وتناقش بأسلوب ديمقراطي: فنوقش الدستور ومواده، ونوقشت خطابات الملك فيصل، ونوقشت البيانات العامة التي كانت تصدر عن المؤتمر، وألفت لجان مختلفة: فانتخبت لجنة لوضع الدستور، وأخرى لاختيار مقر المؤتمر، وثالثة لإيصال قرارات المؤتمر إلى الحلفاء، ورابعة لمقابلة اللجنة الأمريكية وبيان طلبات الأمة.  وكان المؤتمر يؤيد الحكومة وقراراتها تارة، ويحجب ثقته عنها تارة أخرى فتستقيل… كل هذا وجيش المنتدب على أراضيهم يعيث فيها فساداً، وينشر فيها الرعب والإرهاب!!  فأي انتداب هذا الذي احتاجته سورية؟

ولما قرر المؤتمر حجب ثقته عن الحكومة برئاسة رضا الركابي استقالت الوزارة الركابية.  وعهد الملك فيصل برئاسة الوزارة إلى رئيس المؤتمر السوري هاشم الأتاسي، اضطر للاستقالة من رئاسته للمؤتمر. وشكل الأتاسي وزارته الأولى في 3 أيار (مايو) 1920م (14 شعبان 1338ه) وهي الوزارة الثانية في تاريخ سورية والحكومة الخامسة، فكان هو رئيسها ووزيراً للداخلية بالوكالة، ولكن أعيد تشكيلها في 5 أيار مع بعض التعديلات. أنشئت في عهد حكومة هاشم الأتاسي الجامعة العربية التي ضمت كليتي الحقوق والطب المحدثتين في العهد العثماني، فكانت الثانية من نوعها في العالم العربي بعد جامعة القاهرة. 

وعزل الملك فيصل، وبارح البلاد في 29 من تموز 1920  إثر سقوط دمشق بعد معركة ميسلون واحتلال الفرنسيين للمدينة، فعاد الأتاسي إلى حمص.  وهناك أصبح من العقول المنظمة للثورة السورية الكبرى التي أعلنت عام 1925، وفي أثناء الثورة في آب من عام 1925 اعتقلت السلطات الفرنسية اثنين من أولاده في مدينة حمص (عدنان ورياض الأتاسي)، وخمسة آخرين من أبناء عمهم وحاكمتهم بتهمة التحريض على الثورة وحكمت على بعضهم بالإعدام في 4 كانون الأول (ديسمير)، ثم خففت العقوبة إلى السجن لمدة سنتين إلى ثلاث سنوات.  ولما أعلن الوطنيون بقيادة المترجم مقاطعة الانتخابات التي أراد الفرنسيون إجراءها في المناطق التي لم تخضع للأحكام العرفية عام 1925، اعتقلت سلطات الانتداب الأتاسي مع رفاقه الوطنيين: السيد وصفي الأتاسي واضع الدستور السوري، ومظهر الأتاسي شقيق الرئيس الجليل وكبير أعيان حمص، ورفيق رسلان، ومظهر باشا رسلان، والسيد راغب الجندي، والسيد نورس الجندي، والسيد توفيق الجندي، وسعدالله الجابري، وفارس الخوري، وطاهر الكيالي، وعثمان الشراباتي، ونجيب الريس، وربيع المنقاري، ونفي هؤلاء إلى جزيرة أرواد مدة ثلاثة أشهر عام 1926م (23 كانون الثاني-26 آذار). ولكن كان للأتاسي وأخوانه الوطنيين تأثير على مسار الاحتجاجات الوطنية، حتى في منفاهم؛ الأمر الذي أرغم المندوب الفرنسي دي جوفنيل على أن يرسل له، وهو في منفاه عارضاً عليه دخوله في حكومة سورية جديدة، ولكن الأتاسي رفض ما لم تقبل مطالب الأمة أولاً. وما لبث أن أُطلق سراحهم لما رأى الفرنسيون أن في احتجاز زعماء الوطن إثارة للمشاعر الوطنية عند الشعب قد تأتي بالآثار السلبية على الانتداب.

وفي 20 تشرين الأول 1927م أسس الأتاسي “الكتلة الوطنية” مع مجموعة من رفاقه الوطنيين، ومركزها دمشق، كحزب سياسي، شعاره إعادة توحيد البلاد وتحقيق استقلالها، وانتخب رئيساً لها مدى الحياة.  ودخلت الكتلة الوطنية في مناورات سياسية مع سلطات الانتداب الفرنسي انتخب أثناءها الأتاسي نائباً لحمص عام 1928 في المجلس التأسيس، ثم رئيساً للمجلس وقام بالإشراف على وضع الدستور للمرة الثانية في التاريخ، إلا أن الفرنسيين علقوا بعض مواد الدستور، لتعارضها مع أغراض الانتداب وحلوا المجلس.  انتخب الأتاسي للمرة الثالثة نائباً عن حمص في مجلس 1932، ولكن تلاعب الفرنسيين في الانتخابات، حال دون وصوله لرئاسة المجلس أو رئاسة الجمهورية التي فاز فيها بالنهاية الرئيس محمد علي بك العابد.  وفي نيسان 1934 شارك الأتاسي في “وفد السلام الإسلامي” للتوفيق بين الملك عبدالعزيز عاهل السعودية، وبين إمام اليمن السيد يحيى حميد الدين، بعد نشوب حرب بين البلدين، وكان من أعضاء الوفد أيضاً الأمير شكيب أرسلان من لبنان، ومن فلسطين الحاج أمين الحسيني المفتي الأكبر ورئيس المجلس الإسلامي، ومن مصر وزير الأوقاف السابق محمد علي علوبة باشا عضو اللجنة التنفيذية للمؤتمر الإسلامي، وقد نجح الوفد في مهمته، فكان الأول من نوعه في التاريخ العربي الحديث، بل لعله كان الأول والأخير من حيث نجاح مسعاه، وقد شكل بذلك نواة رئيسية لوسائل الوساطة بين العرب، وذلك قبل قيام الجامعة العربية بسنين.

وبعد مناورات عديدة أخرى رضيت السلطات الفرنسية بمفاوضة السوريين من أجل معاهدة استقلال، وفي 21 آذار عام 1936م رحل وفد الاستقلال الذي ترأسه هاشم بك الأتاسي إلى باريس من أجل المفاوضات، والتي دارت أولاً بين الوفد وبين رئيس وزراء الدولة الفرنسية آنذاك، ألبير سارو، وماطلت الحكومة حتى استقالت لتخلفها حكومة ليون بلوم، والتي أخذت على عاتقها التساوم مع الوفد السوري. وبعد التفاوض مع الفرنسيين وقع السوريون برئاسة الأتاسي والفرنسيون برئاسة المسيو فينو على المعاهدة في 9 إيلول عام 1936، بعد مفاوضات شاقة مع حكومات متعاقبة طيلة شهور ستة، وكان قد أضاف إلى مجموعة التواقيع الرئيس بلوم الحروف الأولى من اسمه، واحتفل بالتوقيع في مقر وزارة الخارجية الفرنسية في قاعة الساعة الشهيرة. عاد الأتاسي إلى بلاده في استقبال مهيب، وما لبث أن انتخب نائباً في مجلس سنة 1936 للمرة الرابعة، ثم انتخبه المجلس رئيساً للجمهورية لأول مرة في 21 كانون الأول عام 1936، واستمر فيها حتى قدم استقالته في 7 تموز من عام 1939، لما عاد الفرنسيون عن الإقرار بالمعاهدة وسلخت لواء إسكندرون من سورية وأعطته للسلطات التركية. 

اتخذ الأتاسي قراراً بعدم العودة إلى المناصب السياسية، ما دامت فرنسا تحتل البلاد؛ لذلك عندما زاره الرئيس الفرنسي الجنرال ديغول في منزله بحمص في عام 1941م عارضاً عليه العودة إلى الرئاسة رفض الأتاسي عرضه، فعين الفرنسيون الشيخ تاج الدين الحسني رئيساً، ولكنه مع ذلك استمر في إدارة الكتلة الوطنية من خلف الكواليس، حتى إن شكري القوتلي زاره في منزله سنة 1943، طالباً موافقة الأتاسي على خوض القوتلي غمار المعركة الانتخابية للرئاسة، باعتبار الأتاسي رئيساً للكتلة الوطنية وزعيم الوطنيين في البلاد.  وتتابعت الأحداث، وحصلت سورية أخيراً على استقلالها، وقام الانقلاب العسكري الأول بقيادة حسني الزعيم في 1949، تلاه انقلاب اللواء سامي الحناوي في 14 آب، والذي دعا الأتاسي إلى تكوين حكومة انتقالية، تشرف على انتخابات جديدة ودستور جديد، فترأس الأتاسي حكومة مؤقتة في 15 آب (أغسطس)، تمتعت بصلاحيات رئيس الجمهورية المؤقتة والسلطتين التنفيذية والتشريعية، ريثما تقوم الانتخابات لمجلس نيابي جديد. وقد استمرت هذه الحكومة من 14 آب (اغسطس) إلى 14 كانون الأول (ديسمبر) عام 1949.  كان من أهم إنجازات هذه الحكومة هو إعطاء المرأة حق الانتخاب لأول مرة في تاريخ سورية، فكانت سورية أول دولة عربية، تسن قانوناً يمنح المرأة حق التصويت، وهذا بعد خمس سنوات فقط من إعطاء فرنسا -التي كانت ما تزال تستعمر سورية حتى سنوات ثلاث قبل صدور هذا القانون- نفس الحق لنسائها، بل سبقت في هذا المضمار دولاً أوروبية كاليونان وسويسرا وموناكو.

أشرفت وزارة الأتاسي على انتخابات الجمعية التأسيسية التي كلفت بوضع دستور جديد للبلاد، فجرت الانتخابات في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1949، وعقد المجلس في 12 كانون الأول (ديسمبر)، فانتخب الكيخيا رئيساً له، وفي 14 كانون الأول 1949 انتخب المجلس التأسيسي في اجتماعه الثالث بمجموع 89 صوت من 108 هاشم بك الأتاسي رئيساً مؤقتاً للدولة بصلاحيات تنفيذية وتشريعية (ما عدا الاتفاقات الدولية)، وبحقوق رئيس الجمهورية المنصوص عليها في دستور عام 1928، ريثما يتم وضع دستور جديد وتقوم انتخابات جديدة، فكانت هذه المرة الثانية التي ينتخب فيها الأتاسي رئيساً للبلاد. وفي هذه الفترة -أثناء رئاسة الأتاسي الثانية لسورية- قام المجلس التأسيسي بوضع دستور جديد للبلاد، فكان ثالث دستور سوري يوضع بإشراف الأتاسي، وانقلب إثر ذلك المجلس التأسيسي مجلساً نيابياً، وأجريت انتخابات جديدة للرئاسة فأعيد انتخاب الأتاسي رئيساً للجمهورية للمرة الثالثة في 7 إيلول عام 1950، وتعاقبت الحكومات في عهده والجيش بزعامة العقيد أديب الشيشكلي يعرقل عملها، حتى قام الشيشكلي في  29 تشرين الثاني 1951 بانقلاب عسكري، واعتقل رئيس الحكومة الدكتور معروف الدواليبي، وأغلب أعضاء حكومته وحل البرلمان، فاستقال الأتاسي في أول كانون الأول عام 1951 معترضاً على تدخل الجيش السافر، وعاد إلى منزله في حمص.

ولم يقف الأتاسي مكتوف الأيدي، فقاد المعارضة من منزله بحمص ضد الشيشكلي الذي قام بتنصيب نفسه رئيساً للبلاد، وحكم بقبضة من حديد، معلقاً الحريات السياسية والإعلامية، وحرض الأتاسي على عصيان مدني، وأخيراً قام الجيش بانقلاب على الشيشكلي في 5 شباط 1954 بقيادة العقيد فيصل الأتاسي ابن أخ الرئيس الأتاسي، والعقيد أمين أبو عساف، فأزاحوا الشيشكلي الذي هرب من البلاد، وعاد الأتاسي إلى منصب الرئاسة، معتبراً أن فترة الشيشكلي لم تكن شرعية، فأكمل مدة رئاسته الشرعية، وفي السادس من أيلول (سبتمبر) عام 1955، حدثت أول وآخر عملية انتقال دستوري للسلطة الرئاسية في تاريخ سورية من رئيس منتخب، انتهت ولايته إلى الرئيس المنتخب الذي يخلفه. وعاد الأتاسي إلى مدينته ومنزله في حمص، وعاش السنوات الخمس الأخيرة من حياته كأي مواطن عادي، ينزل الأسواق ويمشي بين الناس؛ ولذلك استحق أن يطلق عليه شعبه لقب “الرئيس الجليل” رحمه الله.

القسم الثالث والأخير غداً | محنة عدنان الأتاسي في زمن الحرية ونورالدين الأتاسي في زمن البعث

_________________________________________

ملف العدد الرابع عشر من (العربي القديم) الخاص بالأسر السياسية في التاريخ السوري – آب / أغسطس 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى