الغزو الأمريكي للعراق في رواية (خطوط النار) لفواز حداد: فلسفة الاغتصاب الأمريكي
أنس محمد – العربي القديم
مضى أكثر من عشرين عاماً على الغزو الأمريكي للعراق، ولا تزال مئات القصص تُروى، والعديد من الأعمال الأدبية تُكتب.
وبعد بحث بسيط عن بعض الأعمال الأدبية، حول هذا الموضوع، وجدت الكثير والكثير من تلك الأعمال. وقد استوقفتني رواية “خطوط النار” للأستاذ فواز حداد الصادرة عام ٢٠١١، فاستهوتني فكرة قراءة ما جرى في العراق في تلك الحقبة، بمعزل عن ثورات الربيع العربي، ومن جهة أخرى، كيف انعكس ما جرى هناك، ولو بطريقة غير مباشرة على ما بات يُعرف ب “الربيع العربي”.
جوهر الرواية مذكرات شخصية لطبيب نفسي أمريكي، أُرسل إلى العراق لعلاج وتشخيص بعض الحالات النفسية للجنود، ثم أُلقي إليه مهمة معالجة فتاة عراقية من نوازعها الإرهابية. وبالرغم من قلة الشخصيات في الرواية، فقد استطاع الأستاذ فواز حداد الصعود بالرواية تدريجياً، وجذب القارئ إلى أحداث الرواية.
تمثلت الشخصيات الرئيسية بالإضافة إلى الفتاة العراقية “بثينة”، الطبيب الأمريكي، والمترجم العراقي.
من خلال هذه الشخصيات، لعب الكاتب في ميدان واسع، وصال وجال في الرؤيتين العراقية والأمريكية، وأحاط القارئ بكل ما يُغني ذاكرته، ويحفّز خياله من مشاهد الحرب والدمار إلى الأرتال العسكرية، وبنية المجتمع العراقي، والنظام السابق، وهيكلية القيادة الأمريكية في العراق، كما وصف لنا بشكل دقيق ولافت “الساحة الخضراء ” في بغداد، والأسلحة والأقسام الأمريكية.
كما عرّج الكاتب على المقاومة العراقية وفروعها، والجهاديين والأحزمة الناسفة. ومن خلال هذا التوصيف، لا أستطيع الجزم أن فواز حداد قد زار العراق بعد الغزو الأمريكي؛ لأنه نفى ذلك لاحقاً، لكن ما أستطيع الجزم به أنه زارها في خياله مراراً، ورسم خريطة روايته بدقة متناهية، حتى كأنه كان الشاهد الملك هناك على “خطوط النار”.
لم يبخل فواز حداد على القارئ في توصيف تركيبة وبنية المجتمع العراقي (الطائفية)، فمن جهة وصف لنا الطقوس الدينية التي بدت صادمة للطبيب الأمريكي، وأيضاً للقارئ، لكن ليس بوصفها الديني، بل بطريقة وصفها الدقيقة والمركبة والمتحررة من قبل الكاتب.
هذا التوصيف كان وبلا شك رؤية شاملة ومدروسة للبعد العاطفي والنفسي لهذه الطائفة؛ هذه الرؤية أغنت خيال القارئ بعد الربيع العربي تحديداً، في فهم إلى حد كبير طريقة وتفكير ومنهج الطائفة الشيعية دون الإساءة إليها.
وحرص فواز حداد أيضاً على ربط شخصيتَي الرواية العراقيتين بهذه التركيبة الدينية الحساسة، فكان المترجم شيعياً، وبطلة الرواية “بثينة” سنّية.
وهنا يظهر دور حداد ككاتب مثقف، ينظر إلى المكونات الطائفية داخل المجتمع العراقي ككتلة واحدة، لها حاضر واحد ومستقبل واحد، متجاوزاً وحدة الماضي ومؤكداً أن وحدة ثالوث الزمن (الماضي والحاضر والمستقبل)، ليست شرطاً أساسياً في بناء المجتمعات والأوطان، وهذا يدل على عمق ثقافة الكاتب، وعمق تجربته في الساحة العراقية والعربية عموماً.
ركزت الرواية في هدفها الرئيسي على قضية مهمة في سلوك الإدارة الأمريكية في العراق، وهي الاغتصاب وانعكاس تلك القضية على الواقع العراقي الجديد، فكان لدور المرأة ومعاناتها دور كبير في هذا الشأن.
غاصت الرواية في فعل “اغتصاب المرأة” كعقاب فردي وجماعي في المعتقلات الأمريكية، وأثره النفسي والاجتماعي على المجتمع العراقي، كما بيّنت كمية الاحتقان النفسي الذي خلفته، ولم يكتفِ الكاتب بذلك، بل ذهب إلى تصوير فعل “الاغتصاب الجماعي”، وطقوسه المرضية داخل عناصر الجيش الأمريكي ببعد فلسفي واجتماعي عميق وواسع، حرّض دائرة تفكير القارئ حول هذا الموضوع الحساس.
وسعى الكاتب إلى نسج حبكة روايته، من خلال ذلك البعد الروحي والنفسي للحياة والموت، وجعل هذا محور الرواية وأداتها الرئيسية.
كان هذا المحور رغم بساطته عقدة القصة ومفتاحها، لعب الكاتب من خلاله على إظهار لامبالاة الشخصيات الأمريكية في تسويق الموت كحل واقعي، وكأنه يرمز إلى الرؤية الغربية المادية للحياة والموت، كما أظهر تفاني المترجم في إنقاذ “بثينة” من أفكارها ونوازعها الانتحارية، للدلالة على أهمية الحياة لدى شعب يحاصره القتل يومياً، حتى أظهرت نهاية الرواية مقصد الكاتب في هذا المجال، عندما انتصرت الرؤية الروحية على الرؤية المادية البحتة.
ولم يُهمل الكاتب الجوانب الثانوية في روايته، فعرّج على حكم الديكتاتور، وعلى الديمقراطية التي جاءت بالدبابات الأمريكية، وصور لنا طبيعة عمل المترجم، والمهام الملقاة على عاتقه، ودوره الرئيسي والفعال في أي لقاء أو نقاش أمريكي – عراقي، والضغوط النفسية المترتبة على ذلك.
وبالرغم من قلة الشخصيات في الرواية، إلا أن فواز حداد، استطاع التغطية على هذا الأمر، من خلال سرد روائي غني وفعال، عزّزه بالكثير من الوصف والمشاعر والمعلومات المتعلقة بالغزو الأمريكي، وما شهده العراق بعد ذلك من مقاومة متعددة منها (الوطنية والجهادية والبعثية).
كانت مقدمة الرواية سلسة وبسيطة، ثم أخذت الأحداث تتصاعد تدريجياً، ما ساعد القارئ على تكوين صورة دقيقة لمجريات الأحداث، بعيداً عن “الهزات الدرامية” التي تُسبّب بعض الارتباك والتشويش لصورة الأحداث في ذهن القارئ.
أدرك فواز حداد منذ بداية كتابة روايته، أن الهدوء في التسلسل الزمني والمكاني للشخصيات، مع الحفاظ على طبيعة تفاعل الأحداث، سيرسخ من قدرة القارئ على إدراك الكمية الضخمة من المعلومات في الرواية.
لغة الرواية كانت سلسة غالباً، لكنها لم تخلُ من المصطلحات في مجال علم النفس (كالكتاتونيا- تفكك الأنا- المازوخية- طغيان نزوة الموت)، هذه المصطلحات المعقدة قابلها أيضاً مفردات بسيطة وقريبة من الحياة اليومية للقارئ (كالشحاطة- جعجعة)؛ هذا الدمج في السرد الروائي، سهّل على الكاتب التعبير عن قصته، وأعطاه حرية أكبر للسيطرة على مفاصل القصة الرئيسية، وحفّز القارئ على المزيد من البحث والمعرفة.
عرّج الكاتب فواز حداد أيضاً على الذات الإلهية، وأظهر النقيض في طرفَي الصراع داخل روايته، فأطلع القارئ على وجهة النظر الغربية، وطريقة تعاطيها المادي معها، وكذلك لم يغفل عن إظهار أهميتها في المجتمعات الشرقية، وتأثير الأديان على ممارسات وسلوكيات الأفراد، وهذا طبيعي جداً من كاتب مخضرم ك” فواز حداد”، لكن الكاتب آثر الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك، فطرح موضوع “وجود الذات الإلهية” على لسان بطلة الرواية “بثينة”، في لحظة حساسة من مجريات الأحداث والصراع الداخلي النفسي المعقد للبطلة، وما تفرزه تلك الصراعات المرهقة من أسئلة وجودية وعميقة، ونتائجها على القرار اللاحق، وهذا ما أشارت إليه الأحداث دون تدخل مباشر من الكاتب، فرأينا أن البطلة تختار طريق الحياة، ليس لجماله أو حباً به، لكن كي تنقذ إنساناً وحيداً، هو بأمس الحاجة إليها (أخوها الصغير)، فكانت مهمة فواز تسليط الضوء على المكنونات الإنسانية الداخلية بجرأة تُحسب له، ثم إظهار القرار الصائب على لسان ومن خلال أفعال الشخصية، دون التدخل المباشر في ذلك القرار، لإفساح المجال لخيال القارئ لالتقاط ذلك.
رواية خطوط النار الصادرة عن دار رياض الريس عام ٢٠١١، تُعتبر من أهم الأعمال الأدبية التي تحدثت عن الغزو الأمريكي للعراق، وما تبعه من اقتتال طائفي وحرب مفتوحة على ما يُعرف بقوات “التحالف”، كما تُعتبر مرجعاً أدبياً مهماً للباحث عن رؤية أدبية لهذه الحقبة الزمنية.
وعلى عكس الكثير من الأعمال الأدبية، فقد تميزت الرواية بالحياد الإيجابي والمصداقية، وكشفت عن نظرة أدبية وثقافية عالية وجرأة، وتحرر كبير للكاتب فواز حداد.
وخلافاً لبعض الأصوات المتشددة التي وجهت للرواية الكثير من النقد، وبالتحديد ذكر الكاتب في روايته بعض الطقوس لطائفة معينة في العراق، ووصول بعضهم إلى درجة اتهام الكاتب بالتطاول، أو السخرية من معتقدات تلك الطائفة، إلا أن ما جاء داخل الرواية بهذا المجال، لا يتعدى وصف ما نشاهده على مواقع التواصل الاجتماعي في احتفالات الطائفة السنوية لتلك الأحداث التاريخية، ما أضافه فواز حداد فقط، هو توصيف دقيق لوجهة النظر الغربية حول تلك المشاهد.
أنصفت رواية “خطوط النار” المرأة العراقية كثيراً، وسلّطت الضوء على معاناة النساء، خلال الحرب، وأظهرت الطبيعة القذرة للحروب الحديثة، وتأثيراتها على النساء والأطفال، وظهر ذلك جلياً في تعليق “الكولونيل الأمريكي”: (هذه حرب بلا قواعد.. هل تعرف ماذا تعني؟ انتهاك كل المحرمات).
وهذا بالتحديد ما فسّره لنا فواز حداد في مجمل روايته، ولو لم يُكتَب عن قذارة الحرب الأمريكية، وتأثيرها على النساء إلا هذه الرواية، لكانت كفيلة بإدانة وتجريم هذا الغزو، ومحاكمة مَن أقدموا عليه.
_________________________________________
من مقالات العدد الخامس عشر من (العربي القديم) الخاص بالروائي فواز حداد أيلول – سبتمبر 2024