رغوة في الذاكرة
د. علي حافظ
اعتقدت في البداية أنني وجدت طريقي نحو الخلاص، وأن هناك بعض الأمل في العيش حياة حرة وكريمة ومحترمة؛ وما يتوجب عليّ فعله ينحصر فقط بالتعلم والحصول على أكبر قدر ممكن من المعارف… وهكذا، درست ودرست حتى حصلت على أعلى الشهادات، لدرجة اعتقدت بأنني سأغير العالم في أقرب فرصة.
قرأت الكثير الكثير، وطورت قدراتي، ونميت مواهبي، وزدت إطلاعي، متأكداً من أنني سأفيد العالم بما أملك.. أعدت “بناء نفسي من الداخل، أنا الغريب وأنا المسافر، وأنا العائد وأنا المستمر مع نفسي حتى النهاية” معتمداً على وصية إميل سيوران؛ وسرت في طريقي رافعاً شعاري الأبدي “إذا لم تثقف البشرية فعليك تحملها”!
جعلتني الروحَ الإنسانيةَ التي تجري داخلي، أتعاطف مع البشر المظلومين والمعذبين والمذلولين؛ جعلتني أحزن من كل قلبي على كل ما يحدث في هذا العالم من مآس وكوراث ومجازر؛ جعلتني أفكر ملياً بما يصنع الإنسانُ بالإنسانِ… لكن تجاربي الحياتية الفاشلة وخيباتي المتكررة، جعلتني أفقد هذه الروح وسط الدرب وأعود إلى بدايتي الطوطمية؛ فكل الأحزاب والتنظيمات السياسية التي عرفتها “حملت في داخلها جرثومة التوتاليتارية” على حد تعبير سيمون ويل؛ وأغلب البشر الذين صادفتهم كانوا يشبهون المخلوق الفرانكشتايني القبيح، وقد عقدوا صفقات أنانية مع الشياطين معتقدين أنهم أصحاب حق مطلق؛ وأن الخالق قد اختارهم وحدهم لتمثيله على أرضه/أرضنا؛ فما لبثوا أن أغرقوها بالدم والجثث والدمار؛ لأستعير مباشرة كلمات الفيلسوف وعالم الحيوان جون هوارد مور: “أشعر بالخجل من الصنف الذي أنتمي إليه؛ إذ يُفرِط في القسوة، والتعصُّب، والنفاق، وبلادة الإحساس، والجنون. أُفضّل أن أكون حشرة، نحلة أو فراشة، وأُحلّق ببصيرة محدودة وسط أعشاب الصيف البرية، على أن أكون من البشر وأشعر بالنقائص والعذابات الهائلة التي تسكن هذا العالم التعيس”.
كل هذا دفعني للشعور بالتشاؤم المضاعف، وبأنني مقيد ومكبل ضمن شرنقة من الأسلاك الشائكة، وبأنني مسجون ضمن أفكار طوباوية لا تناسب وجودي ضمن مشاهد التباهي العظيم بالقتل اليومي… لم أعد أصدق فكرة أن عالم أفضل سيأتي، لاسيما وأننا بتنا نتشارك الخوف في أقفاص العصافير؛ بحيث كل ما يمكننا فعله هو أن نحلم بالحرية مصلوبين على قضبان تلك السجون البشرعصفورية.
قسمتنا الأديان والعقائد والأيدولوجيات والأفكار واللغات والسياسة والجغرافيا والمصالح..، ولا يمكننا أن نلتقي أبداً.. هذا الكون سيبقى غارقاً في مستنقع أبدي من الحروب والصراعات والتناحر، لأننا توقفنا أخيراً “عن البحث عن الوحوش والغيلان تحت سريرنا، بعد أن أدركنا، أنهم كانوا كل هذا الوقت بداخلنا” حسبما أكد تشارلز داروين، الذي ربط جميع الكائنات الحيّة في شجرة نسبٍ واحدة!
فكرت بأنه يجب عليّ أن أنفصل عن هذا العالم، الذي لا يطاق بعبثيته ولامبالاته، بأسرع ما يمكن. فقد أصبحت أكثر اقتناعاً بأن ما يعرف بـ “الإنسان” ليس بحاجة للتغيير كي يصبح إنساناً حقيقياً بكل معنى الكلمة؛ وإنما هو بحاجة للعلف الخطابي، الكفيل بتخديره لأيام طويلة وجعله في حالة افتراس همجية دائمة.
تجاوزت تجربتي الذاتية؛ واحتجت إلى قدر أكبر من التماسك بين العقل والجسد لأدرك أن اندفاعي الصوفيولوجي جعلني أرى في القمر بوجهه المستدير نحونا، تجسيداً للحضور الإلهي الثابت والدائم، حتى لو كان بارداً وغطته الظلال والسحب. فالوجود في هذا العالم القذر؛ لا يعني أنني أنتسب أو أنتمي إليه، مهما حاولوا فعل ذلك بشكل قسري؛ فأنا لم أر سوى نوع واحد من الدم ضمن مشاهد عدستي المؤلمة!
وسط هذا الظلام التاريخي، حاولت ارتداء اللون الأسود الذي يدل على الحداد والفقدان واليأس ليظهر بعتمته حداد روحي الذاهبة إلى أعمق منفى لها؛ لكنني سرعان ما شعرت بهرولة سني عمري باتجاه الأسفل نحو حفرة باردة تتجمع فيها، منتظرة سقوطي الأخير ودفن آخر ما أذكره من جمال الكون: حديقة أمي… في تلك اللحظة، لم أملك سوى رثاء نفسي واستعارة كلمات صموئيل بيكيت: “كافحتُ بجديّة لأكون جاداً أكثر، أن أعيشَ وأبدع. ولكن عند كل محاولة جديدة أفقدُ عقلي وأهربُ إلى ظلالي كما يهربُ الفردُ إلى المعبد”!
للأسف نحن (الإنسانيون) نريد أن نحيا… لكن يعيدوننا دائماً
الوحوش إلى التقوقع على نفسنا والهروب وملازمة جدران غرفتنا الأربعه… عالم مرعب
أبدعت عزيزي 💎👍🙏💔