العربي الآن

من الاحترام إلى الازدراء: التنميط الثقافي للمهن النبيلة

براء الجمعة * – العربي القديم

ما زالت مهنة “راعي الغنم” وحتى غيرها من المهن تُعتبر أقل شأناً في العديد من المجتمعات والبيئات، حتى أصبحت تستخدم كمرادف للانتقاص، فقد نسمع العبارة: “أي هو تالي راعي غنم”، وكأن الراعي لا يملك قيمة إلا في سياق ساخر وانتقاص، وهي نظرة ترتبط بنمطية ثقافية مغلوطة تحتاج إلى إعادة نظر. فما الذي يجعل من هذه المهنة هدفاً للسخرية والاستهزاء؟ وما الذي يفوتنا عندما نختزل حياتنا في صورة براقة ونهمش حياة أولئك الذين يكرسون أنفسهم لحماية الطبيعة والحياة الريفية وتأمين قوت يومهم بكرامة؟

الراعي والناي. للرسام الانجليزي وليام جيمس ويب (1830-1904).

جوهر المهنة: بين الصبر والتواضع

لدى استعراض هذه المهنة، نجد أن هناك حكمة عميقة يتعلمها كل من يمتهنها؛ فالرعاة الذين يعيشون بين الحقول، يرعون الماشية بصبر وتواضع، ويراقبون حركة الطبيعة اليومية التي تعيد لهم دروساً حول الحياة لا تقدمها أي وظيفة مكتبية. بين الجبال والمراعي، الراعي هو مثال للثبات أمام الصعاب، فهو يعمل تحت ظروف قاسية، دون رفاهية تكنولوجية، متعرضاً للشمس والبرد والمطر، ما يكسبه صلابة وطاقة للتحمل.

راعي الغنم وحارس الطبيعة

الراعي ليس مجرد شخص يرعى قطيعاً من الأغنام، بل هو أيضاً حارس للحياة البيئية، يحافظ على التوازن البيئي من خلال التواجد بين المراعي والبيادر؛ حيث إن الرعاة يسهمون في رعاية الأراضي وتجديدها عبر أنشطة الرعي، مما يمنع تصحرها. كما يسهم الراعي في الحفاظ على سلالات محلية من الحيوانات عبر ممارسات تقليدية تضمن سلامة القطيع وتساعد في استدامة الموارد الطبيعية. لذا فإن الراعي يمارس دوراً بيئياً حيوياً، يغيب عن كثير من وظائف اليوم الحديثة، فهو يساهم في حماية النظام البيئي للمناطق الريفية، ويؤدي بذلك خدمة عظيمة.

عامل النظافة والاحتقار

يُنظر إلى عامل النظافة، أو كما يُعرف في مجتمعنا بالزبال، بنظرة تعالٍ أو سخرية، مع أن هذه المهنة تتطلب جهداً وتضحية للحفاظ على نظافة الشوارع والأماكن العامة، بما يسهم في تحسين جودة الحياة لكل فرد. يقوم عامل النظافة بدور محوري عبر إزالة النفايات وتدويرها، مما يحد من التلوث ويحمي البيئة، وهو بذلك يقدم خدمة جليلة لا تخلو من الصعوبات. ومع أهمية هذا العمل وقيمته الإنسانية، نجد أن الكثيرين لا يقدرونه كما يستحق، متجاهلين أن جهوده اليومية تضمن لنا بيئة صحية ومريحة. فكيف لنا أن نحتقر عملاً كهذا، يُعد من أصدق أشكال العمل اليدوي وأكثرها فائدة للجميع؟

نصب وتماثيل لتكريم عمال النظافة في اليابان

هل العمل الشاق سبب للسخرية؟

قد يكون السبب الرئيسي وراء الاستهزاء بمهنة الراعي هو أنها تتطلب العمل الشاق تحت أشعة الشمس، في الحقول، أو لأن الراعي ليس من حملة الشهادات، بعيداً عن المكاتب المكيفة والملابس الرسمية. لكن هل يعد ذلك سبباً مشروعاً للاستخفاف؟ في عصرنا الحالي، هناك تمييز واضح تجاه نوعية الأعمال، فنميل إلى النظر بإعجاب لأولئك الذين يمارسون الأعمال المكتبية والفكرية، بينما ننظر بازدراء إلى من يقومون بالأعمال اليدوية، وكأن الجهد الجسدي يخلو من القيمة الإنسانية.

الكثير منا قد لا يدرك أن الراعي يتعلم لغةً خاصةً في تواصله مع الحيوانات والطبيعة، وأن مهاراته تتجاوز ما هو مألوف، بل وتمتد إلى المعرفة بأصول التفاعل مع الحيوانات، وإدراك احتياجاتها. الراعي يقيم علاقة متوازنة مع ما يحيط به، قد تفتقدها حياتنا المسماة حضرية، فهي علاقة تقدير لا سعي للاستغلال أو الاستنزاف.

الثقافة المجتمعية والتنميط

إن النظرة الدونية تجاه مهنة “راعي الغنم” تكشف لنا عن ثقافة مجتمعية تصنع تنميطاً يختزل إنسانية الأشخاص بناءً على طبيعة عملهم، وهي ثقافة جارحة تستحق التغيير. يمكننا أن نجد أن التنميط ليس فقط مقتصراً على مهنة الراعي، بل يمتد ليشمل العديد من المهن الأخرى، التي قد تُصنف تقليدياً على أنها أقل “شأنا”. ولكن، من خلال إعادة النظر، يجب علينا أن نعيد الاعتبار لهذه المهن ودورها الكبير في دعم المجتمع، ونُعزز من ثقافة الاعتراف بأن لكل مهنة قيمة، وأن الاحترام لا يتوقف على مظهر العمل أو بيئته.

قراءة نفسية اجتماعية للظاهرة

هذه النظرة الدونية تجاه مهن معينة تعود في جذورها إلى ما يسمى “التنميط الاجتماعي”، حيث يُعطى الناس قيمة أو مكانة بناءً على نوعية عملهم، وهي ظاهرة تضع في الحسبان “المظهر الاجتماعي” كمعيار للقيمة، لا الجهد أو النفع الحقيقي. غالباً ما تنبع هذه الأحكام من شعور غير واعٍ برغبة في التميز أو التفوق على الآخرين، وهي من آليات الدفاع النفسي التي قد تساعد الأفراد في تعزيز شعورهم بالأهمية الذاتية ضمن بيئاتهم الاجتماعية. ومع الوقت، تتكرس هذه النظرة ويصبح التنميط راسخاً، مما يصعب تغييره في الوعي الجمعي، خصوصاً عندما تُرى هذه المهن من خلال عدسة الفوقية أو الاحتقار.

دعوة لتغيير النظرة

علينا أن نتساءل: كيف يمكن لمجتمع أن يتكامل وينمو إذا كان ينظر بازدراء إلى الأعمال التي يعتمد عليها يوميًا؟ عندما نتحدث عن “راعي الغنم” أو “عامل النظافة” بنبرة ساخرة ومهينة، فإننا نكرس نظرة سطحية تعكس تركيزاً متزايداص على المظهر والصورة المجتمعية المثالية المادية على حساب الجوهر والقيم. لقد أصبحنا في مجتمعات ترفع شأن المظاهر بينما تتجاهل الجهد الانساني المتواضع والقيم الحقيقية التي تبني المجتمع. من الضروري أن ندرك أن احترام جميع المهن هو جزء أساسي من بناء مجتمع يقدّر الإنسان لذاته ولعمله بغض النظر عن مظهره أو طبيعة وظيفته.

بدلاً من تعزيز الأحكام السطحية والنمطية المدمرة، علينا السعي للتغيير من خلال الاعتراف بقيمة كل مهنة وتقدير من يمارسونها. المجتمع الحقيقي لا يُقاس بمظاهر أعماله، بل بمقدار احترامه للتنوع واحتفائه بكرامة من يسهمون في ازدهاره.

*  مختص في الصحة النفسية والدعم النفسي الاجتماعي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button