(المادية العشائرية وصديقي القرباطي) لحسام الدين الفرّا: تجارب الأنا ولعبة الصديق الماكرة!
العربي القديم- محمد منصور
أكثر ما يحيّر مَن يودّ الكتابة عن كتاب (المادية العشائرية وصديقي القرباطي) للكاتب حسام الدين الفرّا، هو توصيف الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه هذه النصوص، فلا هي قصص قصيرة دائماً، وإن كانت تنطوي على سمات قصصية واضحة، ولا هي مقالات ساخرة، وإن كانت تقارب هذا الجنس أحياناً، ولا هي سرديات تائهة في فضاء النص الأدبي تبحث عن هوية، إذ إن ثمّة هوية جامعة تربط بينها، حتى لتكاد تشكّل ملامح رواية لو تمّ العمل على بعض شخصياتها الرئيسية بأناة، وربط أحداثها بخط درامي تصاعدي يسير بها نحو نهاية ما!
شغف الإمتاع والمؤانسة
ولعلّ ما يزيد هذه الحيرة أن الكاتب – وكذا الناشر – لم يهتما بتصنيفها، أو تقديمها للقارئ تحت أي جنس، أو تعريف، فتركا العنوان مع ما يحمله من نصوص بين دفتي الكتاب يعرف نفسه بنفسه إلى القارئ المهتمّ بتجنيسه…
على أن هذه الحيرة سرعان ما تختفي وتذوب، حين ينخرط القارئ، في تلقّي هذه النصوص الشديدة العذوبة والسلاسة، والتي تتدفّق في سردها الحكائي، وكأنها حديث مرسل، مسكون بالشغف في إمتاع السامع، برشاقة وخفّة وإبجاز محاذراً أن يُثقل على القارئ… فالكاتب متعجّل من أمره، لا يحبّ المقدّمات، ولا العبارات المنمقة، إنه يدخل في موضوعه مباشرة:
“لم يكن صديقي، ليخاف من شخص، بقدر خوفه من رجل الشرطة والأمن”،
أو هكذا: “صعد صديقي حافلة النقل الداخلي في المدينة، وبالكاد استطاع أن يجد موطئ قدم له وسط الزحام الشديد”،
أو هكذا: “قيّض الله لصديقي المدرس أن يُقبل للعمل في إحدى دول الخليج العربي، وبسم له الحظ أخيرا”.
لكن هذا الدخول المباشر في الموضوع، سواء من زاوية الشعور النفسي، أو تصوير الحالة المشهدية، أو التعريف بالشخصية من قبيل: “أبو الذكا هكذا كان يُسمّى، لأنه يعتبر نفسه عالِماً وذكياً لا يشقّ له غبار” هذا الدخول المباشر لا يخلو من جاذبية فنية، فهو يُمسك بتلابيب القارئ من السطور الأولى، دون أن يترك له مجالاً، لأن يتأفف، أو يتلفت.. وهو ينطوي على قدرة خلاقة على إبراز الروح القصصية التي تأخذك سريعاً إلى عوالم هذه النصوص، بعيداً عن التطويل، أو الثرثرة الفائضة، أو التعقيد الأسلوبي. إنها تعقد صداقة سريعة مع القارئ، دون أن تهيِّئ له الأجواء؛ كي يندمج في وصف مسهب، أو يستغرق في حبكة بوليسية، أو يلهث وراء معرفة ما سيحدث، وهل سيحدث كما يتوقع.
لعبة الصديق: قناع الأنا والـ “هو”!
إنّ هذه البساطة في أسلوب القصّ أو السّرد، لا تبدو عائقاً أمام الغوص عميقاً في تشريح ظواهر، وسلوكيات تعبّر عن بنية المجتمع السوري، بعد عقود من القمع والاستبداد. فالخوف من رجال الشرطة والأمن، ومن سلطة الدولة التي لا تبدو ملجأً للمواطن، بل خصماً ونداً، تبدو سمة عامة في هذه النصوص التي يجعل الكاتب لها بطلاً افتراضياً هو صديقه.
واختيار “الصديق” المُغفَل الاسم، يذكرني بهذه الثيمة في الأفلام والمسلسلات العربية، حين يتحرّج البطل منَ الحديث عن مشكلته، أو البوح بحبّه، فيتحدّث عن مشكلته، أو عن حبّه على أنه أمر يخصّ صديقه الذي حكاه له، وطلب معونته ومشورته. لكن حسام الدين الفرّا لا يلعب هذه اللعبة الدرامية بالسذاجة المكشوفة التي نراها في المسلسلات والأفلام، بل يلعبها بمكر ودهاء، رغم أنني أميل إلى الاعتقاد أن هذا الصديق هو الكاتب ذاته، وأنّ بعضاً من سيرته واهتماماته، وطبيعة مهنته تتقاطع مع شخصية الكاتب الحقيقية التي ألبسها لصديقه.
لكن اللعبة الفنية تكمن في إلباس هذا الصديق أيضاً ثوباً منَ البراءة التي قد تقترب من حدود السذاجة في أحيان كثيرة، لكنها ليست سذاجة غافلة، بل ماكرة يحتاجها الأدب الساخر؛ كي يمرّر سخريته، ويفضح التناقضات، ويكشف التقلبات، ويصوّر الضعف الإنساني وهو يخالط النبل، دون أن يستغرق في فلسفة ذلك كلّه وتبريره، فيقتل روح النكتة الطازجة والكاشفة فيها.
ولهذا يمكن اعتبار شخصية الصديق، هي الأنا المُعارة، وهي ضمير الغائب الحاضر، الذي يتيح للكاتب مساحات أوسع للسرد، بعيداً عن الذاتية التي لا يميل إليها، رغم أنه ينتجها بشكل، أو بآخر عبر أفكار وسلوكيات صديقه.
تجارب معاشة، ووقائع وأسماء
إن شخصية الصديق تبدو على مدار الكتاب شخصية روائية، رغم أنها لا تتطور درامياً، على مدار هذه النصوص، بل تتكشف ملامحها تبعاً للحدث، أو الموقف الدرامي، ذلك أن الكاتب لم يُعنَ ببنيتها الروائية التي يمكن أن تُستثمر، وإنما اتخذها كأداة، أو كمفتاح لقصّ حكاياته، ولهذا هي تتضح ملامحها حسب الحالة الحكائية.. وربما هي تصلح، لتكون بطلاً في سلسلة لوحات درامية تلفزيونية ناقدة، تنتج رؤيتها للمجتمع، والناس، والسلطة والقمع والخوف، من واقع تجربتها المُعاشة، تلك التجربة التي تكشف عن رؤيتها للحياة بروح شعبية أصيلة، ملتصقة بالناس، وحركة المجتمع، لأنها منغمسة على طول الخط بالتعبير عن فعاليتها، في كل موقع تتواجد فيه، سواء كان في وسط مهني كالتعليم، أو في وسط عسكري كأداء خدمة العلم، أو حتى في الوسط الثقافي، كما في قصة (الوزير والشاعر المعمم) التي حكى فيها – دون أن يسمّي ذلك بوضوح – عن حضوره لأمسية شارك فيها وزير الدفاع الراحل مصطفى طلاس، في تأبين الشاعر مصطفى جمال الدين، فاختلق عنه قصة أثارت جمهور الحضور من أبناء طائفته، حين زعم أنه قال لممرضة كانت تعالجه أثناء رحلته العلاجية في لندن: “يا حلوة النهدين أفديك بالحسن والحسين”!
كما تحدث الكاتب عن حضوره لأمسية تأبينية، من الواضح أنه قصد بها تأبين الموسيقي عمر النقشبندي جَدّ الممثلة سلمى المصري، كما حكى عن حضوره لأمسية شعرية لم يُسمِّ شاعرها، لكن من الواضح أن المقصود هو الشاعر وليد مشوح الذي كان يشغل منصب مدير تحرير جريدة (البعث)، وسجن هو ورئيس القسم الثقافي (عبد الكريم عبد الرحيم) بعد نشر الأخير مقالاً في الصفحة الثقافية للكاتب ياسين رفاعية، يتحدّث عن أمور العشق والجنس بألفاظ صريحة، وبجرأة أثارت الوسط الديني آنذاك وغضب القيادة في آن معا!
فساد الدولة وعشائرية ومناطقية المجتمع!
لا يكتفي حسام الدين الفرّا على لسان صديقه، بالحديث عن كلّ هذه التجارب واستحضارها، دون أن يوفر حتى تجربة ركوب طائرات الخطوط السورية، والحديث عن مستواها، وعن مضيفاتها الفظّات في (طائرة الهوب هوب)، بل ينتقد الكثير من المفاهيم السائدة التي لم تفلح كلّ الثقافات، والتيارات السياسية بتلطيفها، وضبطها كمفهوم العشائرية المُتحكّم في المحاصصات والألعاب الانتخابية، في القصة التي حملت المجموعة عنوانها (المادية العشائرية وصديقي القرباطي)، فهو يفضّل أن يكون قرباطياً حرّاً، على أن يكون عشائرياً تتحكّم نزعته العشائرية في كلّ سلوكه وتفكيره واختياراته:
“كل شيء في المدينة، تتدخل فيه العشيرة، حتى في التقييمات الأدبية، فقد سئل يوماً أحد الشعراء عن أديب في المدينة، فقال مازحاً: إنه أديب جيد، لكن عشيرته غير كبيرة”.
ولعل هذه النزعة العشائرية، لا تختلف كثيراً عن النزعة المناطقية التي يتوقف عندها في نصّه: “أزمة الهوية بين أشو وشنو”، مصوراً غياب هوية سورية جامعة، أمام طغيان الهوية المناطقية، ومتحدثاً عن معاناة صديقه الذي يعترف هذه المرة أنه يشبهه، فيصفه بالقول:
“صديقي إدلبي المولد، رقي النشاة، ترك أبوه المدينة الأم منذ عقود، وسكن في مدينة الرقة، ووضعه يشبه وضعي تماماً، وهو يحب المدينتين مثلي، وينطبق عليه ما قلت يوماً:
“إني وأن كنت رقيّ الهوى نسبا
فإن مسقط رأسي إدلب الخضرا”
يستخدم حسام الدين الفرّا مقدرته كشاعر، في إغناء نصوصه بأشعار كُتبت خصيصاً لبعض المواقف الدرامية، كما حين قابل الممثلة سلمى المصري، التي كانت تحضر حفل تأبين جَدها في المركز الثقافي الدمشقي، فقال فيها شعراً بعد أن صافحها:
صافحتُها ويداي قد لمست حرير
وسمعتُ شدو حدائها شدو الخرير
ينساب فيّ كجدولٍ عذب نمير
كيف السبيل إليك بل أين المسير
قد صاغكِ الرحمن آية حسنه
حتى يُقال تبارك الرب القدير
قصص، أو مقامات، أو أشكال أخرى؟
إن أقرب توصيف للجنس الأدبي الذي كتب فيه الكاتب نصوصه الممتعة العذبة الساخرة هذه، هو المقامات، فهو مثل كتاب المقامات في الأدب العرب، اتخذ شخصية يروي الحكايات على لسانها، ويتخذها مفتاحاً وحاملاً… وهو مثل المقامات يستخدم أجناساً أدبية أخرى، لتدعيم الحالة السردية الحكائية، وإن كان قد تحرر من السجع والطباق والجناس، وسوى ذلك من المحسّنات البديعية التي كان يستخدمها كتّاب تلك العصور الغابرة.
إن مقامات حسام الدين الفرّا تشبه زماننا، وتحكي قصة إنسان هذا الزمان بلغته، وتحاكي مخاوفه وهمومه بلا مداراة، ولا مناورات. وهي تقترب من حدود القصة القصيرة المعاصرة، وإن كان ينقصها الاهتمام بالقفلة القصصة، والابتعاد عن التفسير القيمي الذي يفصح عنه الحدث بنفسه أحياناً كثيرة، كما في ختام قصة (الوزير والشاعر المعمم). وهي تلامس الرواية بشخصية بطلها التي تروي تجاربه المُعاشة، ومواقفه ومآزقه، وإن كان ينقصها الاهتمتام بالبنية الروائية للحدث والشخصيات، كما أسلفنا، لكنها في المحصلة نصوص أدبية رفيعة المستوى، تصوّر الروح الشعبية السورية بصدق وبراعة، وتهضم ألواناً وأجناساً أدبية عدة، لتنتج نصوصاً تقرأ، وتحكي حكاية الإنسان السوري، وعذاباته التاريخية المعاصرة التي لا يكتفي الكاتب بتصوير مظاهرها القمعية في ظل النظام، بل في مناطق حكم الفصائل التي ركبت ظهر هذه الثورة، ليعبر عن الضمير الثوري الشعبي بموضوعية ونزاهة وإنصاف.