العربي الآن

لماذا التفاوض الأمريكي الإيراني لا ينتهي؟

غسان المفلح – العربي القديم

هذا السؤال في الحقيقة من الأسئلة التي تشغل بال المراقب. التفاوض الأمريكي الإيراني ممتد منذ أزمة الرهائن. عندما اقتحمت مجموعة من الطلاب الإسلاميين في إيران السفارة الأمريكية في طهران دعما للثورة الإيرانية واحتجزوا 52 أميركياً من سكان السفارة كرهائن لمدة 444 يوم من 4 نوفمبر 1979 حتى 20 يناير 1981. منذ ذلك التاريخ والعلاقات الامريكية الإيرانية دخلت فيما يمكننا تسميته بحقل القضايا المزمنة في السياسة الامريكية. أربعة عقود ونيف لا تزال هذه القضية في حقل المزمن أقله حتى اللحظة.

محاولة وحيدة جرت في الواقع، لاخراج هذه القضية نسبيا من هذا الحقل هي الاتفاق النووي الذي أجراه الرئيس الأسبق باراك أوباما مع سلطة الملالي 2 نيسان/أبريل 2015 في لوزان السويسرية. لكنه كان اتفاقا أيضا يحتاج لكثير من الزمن لتنفيذ بنوده، حاول أن يؤسس أوباما أن يعيد العلاقات مع إيران إلى علاقات طبيعية، وإلغاء العقوبات المفروضة عليها أمريكيا وامميا. لكن الحسابات الاوبامية الديمقراطية نسبة للحزب الديمقراطي، لم تنسجم مع الحزب الجمهوري ورئيس اميركا دونالد ترامب. حيث أعلن ترامب في يوم 8 مايو عام 2018 رسمياً خروج بلاده من الاتفاق النووي مع إيران.
هنالك سمتان لهذا التفاوض الأمريكي الإيراني المزمن:
الأولى: تشبه حالة اللاسلم واللاحرب على الجبهة السورية مع إسرائيل والتي أسس لها حافظ الأسد وإسرائيل بإشراف امريكي بعد اتفاقيات الفصل الذي صاغها كيسنجر تقريبا في النهاية 1975.
الثانية: لم يتم أي حالة اشتباك مسلح خلال طول تلك الفترة حتى الآن. رغم المناوشات المحدودة أحيانا. ربما الاستثناء كان يأتي عن طريق أذرع إيران، التي لا يغفل عنها الأمريكان:
– في 23 أكتوبر 1983، انفجرت شاحنة مفخخة في المجمع السكني حيث كان يقيم أعضاء أمريكان وفرنسيين من القوة المتعددة الجنسيات في لبنان وفي مطار بيروت الدولي. وكانت القوة المتعددة الجنسيات موجودة في لبنان كجزء من مجهود دولي لحفظ السلام. وأسفر الهجوم عن مقتل 241 عسكريا أمريكيا وإصابة 128..
– في يوم 28 كانون الثاني /يناير 2024 قتل 3 جنود أمريكيين وجرح 34 بعد هجوم بطائرات من دون طيار على قاعدة عسكرية أمريكية تعرف بـ “البرج 22” في منطقة الركبان بمديرية الرويشد، شمال شرقي الأردن قرب الحدود السورية، وتبني المقاومة الإسلامية في العراق للعملية في نفس اليوم نقطة تحول مهمة في مسار الاستهداف المستمر للقواعد الأمريكية في سورية والعراق من قبل الأذرع الإيرانية وخروجاً عن قواعد الاشتباك المنضبطة بتجنب قتل جنود أمريكيين.


غالبا الاشتباكات تكون عبر أطراف ثانية…

 أذرع إيران ضد إسرائيل. مما يشير إلى أن قواعد الاشتباك المنضبطة هذه تعطينا مؤشرا قويا على حالة التفاوض- التخادم الوظيفي بين الطرفين. وفي غالبية هذه المناوشات كان الرد الأمريكي باهتا. وهذا مؤشرا إضافيا على طبيعة هذه العلاقة.
تقول دراسة مهمة قام بها مركز كاندل للدراسات بعنوان-العلاقات الإيرانية الأمريكية نطاق التخادم وحدود الاشتباك- ” المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة التي تدركها إيران تماماً وتتحرك في ضوئها وتحرص على التخادم معها والتي تتلخص ب:

– حماية أمن إسرائيل وتطبيع وجودها في الشرق الأوسط عبر بناء منظومة تحالف بين العرب وإسرائيل.

– ضمان الربط الاستراتيجي لبيع النفط بالدولار كعامل مهم في تعزيز الهيمنة الأمريكية وبقائها كقطب أوحد في العالم.

– عدم السماح بظهور قوة في المنطقة متفوقة على إسرائيل يمكن أن تشكل مركزية استراتيجية خارج السيطرة الأمريكية.

– ضمان ألا تذهب المنطقة إلى حيز النفوذ الصيني عبر خلق بيئة غير مستقرة ومتوترة بالصراعات الطائفية والإثنية لا تسمح للصين بالاستثمار والهيمنة الاقتصادية.

– إضافة لمصالح تتعلق بأمن الطاقة وأمن المعابر المائية وسلاسل التوريد”.
إيران في استجابتها لهذا التخادم وفي اس مشروعها نجد:
– اثارة النزعات الطائفية.
– تهديد مباشر لدول الخليج مما يجعلها تلتصق أكثر بالمصالح الامريكية. ودفعها نحو مزيد من التقرب من إسرائيل! هنا يظهر سؤال لماذا لم تقترب هذه الدول من تركيا مثلا؟
– زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، وهذا أيضا من اساسيات المشروع الأمريكي في خدمة مصالحه، وجعل الشرق الاوسط منطقة سيطرة شبه مطلقة أمريكيا.
– تحويل دول المنطقة إلى مزيد من دول فاشلة، وهذا بالضبط ما يجعل إيران ذات نفوذ في هذه الدول، نفوذ غير دستوري من جهة وميليشياوي من جهة أخرى. حزب الله لبنان والحوثي اليمن والحشد الشعبي في العراق وميليشياتها الطائفية في سورية الاسدية. هي تحاول في الأردن الان.
هذه السياسة خدمتها أمريكا بتدخلها في لبنان1983 احتلال أفغانستان 2001 مما جعل إيران شريكا للاحتلال الأمريكي لهذا البلد، ثم اتى احتلال العراق 2003 وقدمته لإيران لتحتل جانبا مهما من الوضع الداخلي لإيران عبر تأسيس ميليشيات طائفية تابعة لإيران. أمريكا أسمت وجودها في العراق احتلالا بينما إيران تحتله عبر هذه الميليشيات وعلى رأسها الحشد الشعبي الذي يعد اقوى من الجيش العراقي نفسه، وهذا تأسس بموافقة أمريكية واضحة. والذي سمح بهذا النوع من الاحتلال هو انسحاب القوات الامريكية من العراق نسبيا، تاركة الوضع الداخلي لإيران. كي تتوج هذه التخادمية بتوقيع باراك أوباما اتفاقه النووي مع الملالي 2015. ليفك العزلة قليلا عن النظام الإيراني ويمنحه بعض العملة “الكاش”، وما رافق ذلك من تعريض السعودية للمساءلة والتضييق الأمريكي على يد اوباما نفسه.

وأخيرا …

سياسة أمريكا في إجهاض عاصفة الحزم في اليمن التي كلفت السعودية ثمنا باهظا، وبقي الحوثي ودولته الموالية والملتصقة بالمشروع الإيراني. هذه الدول الأربع قدمتها أمريكا لإيران على طبق من ذهب. من جهة أخرى سمحت أمريكا وإسرائيل لإيران بالتدخل في سورية ضد ثورة شعبها2011 على العصابة الأسدية، حيث تدخلت إيران ومعها كل ميليشياتها وعلى رأسها حزب الله لتقتل الشعب السوري. إسرائيل سمحت لقوات حزب الله بالوصول إلى الجولان والقنيطرة على حدودها من أجل قمع الناس وقتلهم، علما أنها لم تسمح سابقا لجيش الأسد نفسه بالوصول لهذه المنطقة.

كل هذه السياسة كان التفاوض مباشر ام غير مباشر مستمر بين الطرفين. كأنه أسس لقواعد اشتباك مزمنة متوافقة مع هذا التفاوض المزمن. هذا التخادم الذي دفعت وتدفع شعوب المنطقة ثمنه دما من جهة وانسداد أفق التغيير والتنمية في وجهها. قواعد الاشتباك هذه والتفاوض المزمن فرضته أمريكا بالطبع، لكننا نجد أنفسنا امام مفارقة مذهلة:
أمريكا تستفيد ماليا ومزيد من النفوذ المتراكم، بينما إيران استفادت نفوذا اجراميا مشوها من جهة، وبقيت حتى اللحظة تدفع من جيبها ماليا. كل ذلك التوسع والصرف عليه كان على حساب الشعب الإيراني الذي لايزال يعيش نصفه تحت خط الفقر تقريبا. التنمية الارتجالية في طهران بقيادة الملالي مجهضة امريكيا سلفا. احتياج الملالي للعملة الصعبة والكاش أيضا، لأن الكاش هو المفيد في تمويل جماعاتها خارج المساءلة، وحاجتها لحرية الحركة المحاصرة بقواعد اشتباك تفاوضية خاصة بعد مجيء ترامب، الذي ألغي اتفاق أوباما ورفع سقف المطالب الامريكية من الملالي، بحيث يعجز الحزب الديمقراطي عن تجاوزها باتفاق جديد. مما اجبر الملالي كي تحاول الضغط على أمريكا للعودة للاتفاق القديم او عقد اتفاق جديد، من خلال ميليشياتها في بعض الدول، كمحاولة قصف بعض القواعد الامريكية في العراق مثلا، او التحرش بإسرائيل بحجج شتى. او عبر حلفائها كحركة حماس مثلا. وإسرائيل لسان حالها انتهت مهمتكم في سورية وعليكم العودة لإيران، ـو وضع هذا النفوذ ذاته في خانة الاستسلام الكلي لها على طريقة العصابة الأسدية.

وهذا الأمر لا يناسب الملالي دون عقد اتفاق نووي نهائي معها من اجل فك الحصار المالي، لدعم سياساتها الداخلية والخارجية. إيران دولة عمليا ممكن ان تتعرض في أي لحظة لازمة اقتصادية قوية. هذا ما يخيف الملالي. أهل غزة ضحية نسبيا جراء هذا التحالف الحمساوي الإيراني. كما اهل لبنان المسيطر عليه من قبل حزب الله سيطرة شاذة وغير دستورية. على هذا الأساس جاءت الفرصة لإسرائيل المختلفة مع السياسة الامريكية تجاه إيران، كي تدمر غزة وتقتل شعبها ومزيد من إبادة القضية الفلسطينية ماديا ومعنويا من جهة، وجعل غزة منطقة غير قابلة للعيش كما صرح بذلك أكثر من مسؤول اممي. إضافة إلى إخراج حزب الله خارج أية معادلة اقليمية بعد ان انتهى دوره في سورية تقريبا. أبق مسيطرا على لبنان لكن لا تتدخل في أي ملف آخر. نحن أمريكا وإسرائيل من يقرر تدخلك في أي ملف. من جهة أخرى كل الانتفاضات التي قام بها الشعب الإيراني ضد نظام الملالي أمريكا ودول الغرب خاصة فرنسا وبريطانيا وقفت مع نظام الملالي هذا ولم تنل هذه الانتفاضات أي دعم من هذا الغرب! بل بالعكس حتى وسائل إعلامه لم تغطي هذه الانتفاضات.

بعد كل ذلك هل يمكننا القول إن التخادم بين أمريكا والملالي قد انتهى؟

 هذا سؤال الأسئلة برأيي. القصة هنا ليست مؤامرة بل كل شيء موضوع على طاولة التخادم التفاوضي المستمر بين “الشريكين” في قتل شعوب المنطقة. ضمن هذا الجو أتت حملة إسرائيل على حزب الله وقتلت معظم كوادره القيادية. هذه الحملة التي اثارت نقاشا حادا بين السوريين أنفسهم وبينهم وبين بعض اللبنانيين والفلسطينيين. حيث أن أكثرية الشعب السوري انفرجت اساريرها جراء ما تعرض له قادة حزب الله…
وأنا اكتب هذه المادة قامت إسرائيل بقتل خليفة نصر الله هاشم صفي الدين ومعه مجموعة من الكوادر القيادية، بعد أقل من أسبوع من تسلمه لهذا الموقع. وتم تعيين خلفة آخر اسمه إبراهيم السيد. تجدر الملاحظة أن التعيين يأتي من خامنئي مباشرة. هذه العملية الجديدة تترك كثيرا من الأسئلة أيضا عن مدى اختراق إسرائيل لهذه البنية السردابية. هذا ما سنتعرض له في القسم الثاني من هذه المقالة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى