النرجسية آفة اجتماعية تفتك بك بصمت: من هو النرجسي؟ وماذا تعرف عنه؟
مريم الإبراهيم- العربي القديم
عندما تسمع مصطلح “النرجسية” أو “Narcissism ” قد يتبادر إلى الذهن صورة مشرقة تشبه الورود وتحيلك إلى عطر النرجس، إلا أن هذا التصور خاطئ تماماً، فالنرجسية حفرة مظلمة تغري صاحبها بالاعتقاد بأنه لا يخطئ، وأن من ينتقده إنما يفعل ذلك بدافع الحسد أو الغيرة، في واقع الأمر، النرجسية ليست فضيلة، بل هي عيب نفسي وأخلاقي، يشوه العلاقة بين الفرد والآخرين،النرجسية، بوصفها حالة نفسية واجتماعية، تتجلى في أشكال متعددة من تضليل الذات، حيث يغرق الشخص النرجسي في تمجيد نفسه وإنكار عيوبه، هذه الحالة تتسم برفض النرجسي للاعتراف بأخطائه أو قبول الحقيقة التي قد تتعارض مع صورته المثالية، النرجسية لا تقف فقط عند حد الافتخار المفرط بالذات، بل تتجاوز ذلك لتصل إلى محاولات دؤوبة لتضليل النفس والآخرين، في سعي مستمر لتسويق وهم.
تضليل الذات وآليات الدفاع النفسية
يستخدم الشخص النرجسي آليات دفاع نفسية لتجنب مواجهة الواقع، إحدى هذه الآليات هي الإنكار، حيث يرفض النرجسي رؤية أخطائه ويُسقط مشكلاته على الآخرين، في عقله، هو دائمًا الضحية التي تتعرض للظلم، ويُعزى أي فشل إلى عوامل خارجية لا علاقة لها به بهذا، يصبح النرجسي غير قادر على التعلم من تجاربه، ويظل عالقًا في دورة من التكرار الدائم لنفس الأخطاء.
هذا النوع من التضليل ليس نابعًا فقط من الرغبة في الحفاظ على صورة الذات، بل يمتد ليشمل محاولة استعادة الشعور بالسيطرة، عندما يواجه الشخص النرجسي المواقف التي تُهدد غروره أو تكشف عيوبه، فإنه يعمد إلى تقليب الحقائق ومحاولة إقناع الآخرين برواية كاذبة للواقع، إنه نوع من الإسقاط النفسي، حيث يقوم بتحويل الانتباه عن مشكلاته بإلقاء اللوم على الآخرين.
يتسم الشخص النرجسي بالتمركز حول الذات وبإنكار كامل للخطأ، يرفض مواجهة الواقع أو الاعتراف بضعفه البشري، بل يرى في الآخرين سببًا لكل مشكلاته. النرجسيون ينكرون الفطرة السليمة التي تجعل الإنسان يسعى للإصلاح والاعتذار عند الوقوع في الخطأ، بدلاً من ذلك، تراهم يقلبون الحقائق ويحاولون إقناع الآخرين بكذبهم، معتقدين أن هذا الأسلوب سيشعرهم بالراحة النفسية وتبرئة الذات.
النرجسية هي واحدة من أكثر الآفات الاجتماعية تعقيداً وتأثيراً، إذ تتغلغل في العلاقات الشخصية والمهنية لتسمم روح التفاعل الإنساني، على الرغم من أن المصطلح يشير في البداية إلى الإعجاب المفرط بالذات، إلا أن النرجسية تتجاوز ذلك لتصبح حالة نفسية معقدة، تمتزج فيها مشاعر العظمة مع حاجة ماسة إلى التقدير والاعتراف من الآخرين، في جوهرها، تكمن النرجسية في رؤية الفرد لنفسه كمركز الكون، حيث يُعتقد أنه مميز واستثنائي، دون أن يعترف بأهمية الآخرين أو يقدر دورهم.
الحاجة إلى التبرير الذاتي
إحدى الدوافع الأساسية وراء تضليل الذات لدى النرجسيين هو الحاجة الماسة إلى الشعور بالتبرير بالنسبة لهم، الاعتراف بالخطأ يُعتبر ضعفًا لا يمكن قبوله، وبالتالي، يلتجؤون إلى تحوير الواقع وتقديم تفسيرات كاذبة لسلوكهم، حتى يصبح كل شيء مبررًا في أعينهم، هذه الآلية الدفاعية تمنعهم من تطوير النقد الذاتي والنضج العاطفي، مما يؤدي إلى خلق شخصية غير قادرة على التعامل مع التحديات الحياتية بواقعية.
النرجسية ليست مشكلة فردية فحسب، بل هي آفة اجتماعية تصيب العلاقات البشرية بالضرر البالغ، فمن صفات النرجسي أنه يتوقع من الآخرين ما لا يقدم هو نفسه، يريد أن يهتم الناس به بينما يهملهم، ويطلب الحب رغم أنه ينشر الكراهية، ويجرح الآخرين وهو ينتظر منهم الشعور بالأمان تجاهه، إن الشخص النرجسي يدمر العلاقات بسلوكه الأناني وغير المسؤول.
يؤدي تضليل الذات لدى النرجسي إلى آثار مدمرة على العلاقات الاجتماعية، الأشخاص المحيطون بالنرجسي غالبًا ما يعانون من الفوضى النفسية الناتجة عن محاولاته لتغيير الحقائق، هذا الأسلوب السام يجعل من الصعب بناء علاقات قائمة على الثقة والاحترام المتبادل، حيث يتعرض الشركاء أو الأصدقاء للتلاعب العاطفي والإساءة النفسية، في نهاية المطاف، يجد النرجسي نفسه محاطًا بعزلة اجتماعية، حيث ينفر الناس من التعامل معه بسبب سلوكه المدمر.
تأثير النرجسية على العلاقات الاجتماعية
ترتبط النرجسية بمجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية التي تسهم في تشكيلها، يمكن أن تكون النرجسية نتيجة تربوية أو بيئية، حيث يتلقى الطفل اهتمامًا مفرطًا من الأسرة أو المجتمع، مما يجعله يعتقد أن لديه حقوقًا خاصة لا يتمتع بها الآخرون، في بعض الأحيان، قد تكون النرجسية وسيلة دفاعية تُستخدم لتعويض الشعور بالضعف أو عدم الكفاءة، هؤلاء الأفراد يخلقون صورة مثالية لأنفسهم ليغطوا على هشاشتهم الداخلية.
على المستوى الاجتماعي، يتفاقم تفشي النرجسية في مجتمعات اليوم بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، التي تمنح الأفراد منصات لعرض حياتهم بشكل مثالي متضخم، بات كل شخص يسعى لخلق “ماركة شخصية” تُبنى على أسس زائفة، مما يعزز من النرجسية ويجعلها أكثر قبولاً اجتماعيًا، حتى وإن كانت في العمق تؤدي إلى عزل الشخص وتباعده عن الآخرين.
النصوص القرآنية تحذر من النرجسية
النرجسية تتعارض مع التعاليم والنصوص القرآنية التي تحث على التواضع والاعتدال في التعامل مع الآخرين، يقول الله تعالى في القرآن الكريم: “ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله”، وهي حكمة إلهية تؤكد أن من يمارس الخداع والظلم سيعود عليه سوء فعله، كما تحذر الآية الكريمة “ولا تمش في الأرض مرحاً” من التكبر والغرور، مما يعزز ضرورة نبذ النرجسية كسلوك كأسلوب حياة.
العلاقات السامة وضرورة الابتعاد
لا تتوقف تأثيرات النرجسية عند الذات فقط، بل تمتد لتدمير العلاقات الشخصية والمهنية، النرجسيون غالبًا ما يجدون صعوبة في تكوين علاقات صحية بسبب عدم قدرتهم على التعاطف مع الآخرين، في العلاقات الزوجية، على سبيل المثال، قد يظهر النرجسي غير مكترث بمشاعر الشريك، مستغلًا العاطفة دون تقديم المقابل، كما أن علاقات العمل قد تتأثر بشكل سلبي، حيث يسعى النرجسي دائمًا للسيطرة على الآخرين والاعتراف بإنجازاته دون تقدير جهود زملائه.
أول أسس النجاح في العلاقات الإنسانية هو الابتعاد عن السلوكيات السامة التي تشوه الروح وتطفئ نور الحياة في عيوننا، النرجسية هي واحدة من أخطر تلك السلوكيات، لأنها تمتص كل ما هو جميل في الإنسان
العلاقات السامة، وعلى رأسها العلاقات مع الأشخاص النرجسيين، تمثل تحديًا كبيرًا للأفراد في حياتهم الشخصية والمهنية والزوجية، هذه العلاقات ليست مجرد حالات من التوتر أو سوء الفهم العابر، بل هي سلوكيات تؤدي إلى استنزاف الروح، تدمير الثقة بالنفس، وإحداث ضرر طويل الأمد على الصحة النفسية والعاطفية، النرجسية، بوصفها أحد مظاهر العلاقات السامة، تشكل تهديدًا حقيقيًا لاستقرار الأفراد وإحساسهم بالسلام الداخلي.
الشخص النرجسي يسعى دائمًا للسيطرة والتفوق على الآخرين، مما يجعل العلاقات معه مليئة بالتلاعب العاطفي والاستغلال، في البداية، قد يبدو النرجسي جذابًا، متفوقًا واثقًا من نفسه، لكنه مع مرور الوقت يكشف عن حقيقته التي تتسم بالتقليل من شأن الآخرين، وفرض تصرفاته عليهم دون اعتبار لمشاعرهم لا يهتم النرجسي ببناء علاقات صحية قائمة على الاحترام المتبادل، بل ينظر إلى الآخر كمصدر لإشباع رغباته الخاصة، سواء كانت نفسية أو مادية.
هذا النوع من العلاقات يدمر تدريجيًا قدرة الشريك أو الشخص المحيط بالنرجسي على الشعور بالراحة النفسية، الفرد يجد نفسه في حالة دائمة من القلق والإحباط، بسبب استمرار تعرضه للنقد والتحقير أو التلاعب، النرجسيون يستخدمون آليات مثل الإسقاط النفسي، حيث يُلقون بمسؤولية أخطائهم على الآخرين، مما يجعل الطرف الآخر يشعر دائمًا بأنه المذنب أو غير الكفء، هذا النوع من التلاعب العاطفي يزرع بذور الشك داخل الشخص، مما يؤدي إلى ضعف الثقة بالنفس وزيادة الاعتماد على النرجسي، وهو ما يعمق من سمية العلاقة.
الابتعاد عن العلاقات السامة، وخاصة تلك المرتبطة بالنرجسيين، هو ضرورة ملحة للحفاظ على الصحة النفسية والعاطفية، العلاقات الصحية تعتمد على الاحترام المتبادل، التعاطف، والتعاون بين الأطراف، بينما النرجسي يفتقر إلى هذه الصفات الأساسية الشخص الذي يتعامل مع نرجسي يجد نفسه دائمًا مستنزفًا، مضطرًا لتقديم الكثير دون أن يحصل على شيء في المقابل، هذا الاستنزاف النفسي يمكن أن يؤدي إلى آثار خطيرة على المدى الطويل، مثل الاكتئاب، القلق، والشعور بالعزلة.
في ظل هذا السياق، يصبح الابتعاد عن الشخص النرجسي ضرورة، وليس مجرد خيار، الشخص يحتاج إلى التحرر من القيود النفسية التي يفرضها النرجسي عليه، حتى يتمكن من استعادة قوته النفسية والعاطفية، الابتعاد يمنح الفرد الفرصة لإعادة بناء نفسه وتقدير ذاته بعيدًا عن التأثيرات السامة التي عانى منها إنه خطوة حاسمة نحو استعادة الحرية العاطفية والنفسية.
دور الأخلاق والروح في العلاقات الصحية
تدعونا الحكمة القديمة إلى أن: “عاشر القلوب ثم انظر إلى جمال الوجوه”، في إشارة إلى أن العلاقات الحقيقية تُبنى على أساس الأخلاق وصفاء الروح، وليس المظاهر السطحية والجمال الخارجي. العلاقات القائمة على القيم المشتركة والاحترام المتبادل هي التي تزدهر وتنمو مع مرور الوقت وتثمر، بينما العلاقات التي تستند إلى الأنانية والتلاعب العاطفي، كما هو الحال مع النرجسيين، تنتهي بالخراب.
الفرد الذي يحيط نفسه بأشخاص يعاملونه بتقدير واحترام يُحاط بدعم نفسي وعاطفي يساعده على النمو والازدهار، هذا النوع من العلاقات يوفر بيئة آمنة يشعر فيها الشخص بالقبول والحب، مما يعزز من ثقته بنفسه وقدرته على تحقيق النجاح في مختلف جوانب الحياة.
العزلة النفسية والاجتماعية
من المفارقات أن النرجسية، التي تبدأ بالرغبة في الحصول على التقدير والحب، تؤدي في النهاية إلى العزلة، الفرد النرجسي يُنفر الآخرين بسبب سلوكه المتعالي وعدم اهتمامه الحقيقي بمشاعرهم، ما يؤدي إلى فقدان الدعم العاطفي والاجتماعي، وعندما تُدمر العلاقات، يبقى النرجسي وحيدًا في عالمه الخيالي، غير قادر على مواجهة واقعه الحقيقي.
على الرغم من أن تضليل الذات قد يمنح النرجسي شعورًا مؤقتًا بالراحة النفسية، إلا أن هذه الآلية النفسية لها آثار طويلة الأمد على صحته النفسية والاجتماعية الشخص النرجسي يظل عالقًا في حالة من الإنكار الدائم، غير قادر على مواجهة واقعه أو إصلاح علاقاته المتدهورة، هذا الأمر يؤدي إلى شعور متزايد بالعزلة والفراغ العاطفي، مما يجعل النرجسية سجنًا نفسيًا يعجز الشخص عن الخروج منه.
النرجسية ليست مجرد سلوك مزعج أو طبع سلبي، بل هي تهديد حقيقي للعلاقات الإنسانية وللصحة النفسية الشخص النرجسي يحاول دائمًا إخفاء ضعفه الداخلي خلف قناع الكمال والغرور، ولكن في النهاية يقود هذا السلوك إلى هلاكه الشخصي وتدمير علاقاته مع الآخرين، التعامل مع النرجسي يتطلب وعيًا وحذرًا من تأثيره السلبي، والابتعاد عنه هو أحد أهم القرارات التي يمكن أن يتخذها الفرد للحفاظ على سلامة روحه ونفسه، إن العلاقات القائمة على الاحترام والصدق هي التي تصمد في مواجهة تحديات الحياة، بينما العلاقات السامة تستهلك كل ما هو جميل وتترك خلفها فراغًا نفسيًا مؤلمًا.
النرجسية ليست مجرد سلوك سلبي، بل هي تهديد للعلاقات الإنسانية ولقيم مجتمعنا الذي يحتاج اليوم لإرساء حالات التكافل والتواضع ومراجعة الذات من أجل بناء جيل واثق من قدراته وقادر على مواجهة مستقبله الصعب في ظل الحرب والهجرة واللجوء والتشرد، وبقدر ما يحاول النرجسي أن يخفي ضعفه خلف قناع الكمال، يبقى في الواقع أن الغرور والتكبر يقودان الإنسان إلى الهلاك… ذلك أن التعامل مع النرجسي يتطلب حذراً ووعياً بأثره السلبي المعدي أحيانا، وربما كان الابتعاد عنه هو أحد أسلم القرارات التي يمكن أن نتخذها للحفاظ على سلامة أرواحنا وأنفسنا.