طرابلس الفيحاء: شامية النسب دمشقية اللقب ثائرة على من غلب
أنس محمد – العربي القديم
تتميز بموقعها الجغرافي الحيوي، فهي عقدة وصل بين ساحل البحر المتوسط ومدن وسط سوريا، وكذلك عقدة وصل رئيسية في طريق حيفا بيروت اللاذقية إسكندرون، وقد أطلق عليها اسم طرابلس الشام، لتمييزها عن طرابلس الغرب (ليبيا)، كما أطلق عليها لقب “مدينة العلم والعلماء”، لاعتزاز أهلها بطبقة العلماء فيها وإكرامهم وجلال قدرهم… إنها طرابلس الفيحاء التي تشترك مع دمشق الفيحاء في ذات اللقب… فقد نسبت إلى الشام، وشاركت دمشق اللقب ذاته، أوَلم يترجم نعمان أفندي قساطلي لتاريخ دمشق في نهايات القرن التاسع عشر في كتابه المعنون: “الروضة الغناء في دمشق الفيحاء”؟! ثم جاء مصطفى محمود الرافعي بعده بسبعة عقود، ليترجم لطرابلس في أربعينيات القرن العشرين بكتاب (طرابلس الفيحاء).
كان قدر طرابلس، منذ بناها الفينيقيون – ويقال الكنعانيون – قبل ٣٥٠٠ عام، وأطلقوا عليها اسم (تريبولي)… أن تكون في مواجهة الاحتلالات وهجمات الطغاة، تخوض معارك التحرر التي لا تنتهي، في وجه من يحاولون أن يغيروا روحها، ويعبثوا بهويتها، منذ احتلت من قبل الصليبيين لأكثر من قرن ونصف. لقد كان تحريرها عصياً على أهم قائدين عسكريين آنذاك (الظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي)، إلى أن جاء السلطان خليل بن قلاوون، وتمكن من تحريرها في السادس والعشرين من نيسان 1289م، فأعطى أوامره بهدم المدينة القديمة وبنائها من جديد، حول قلعة طرابلس، فأصبحت ثاني أهم مدينة مملوكية بعد القاهرة.
دخلت طرابلس الفيحاء تحت الحكم العثماني، كبقية أغلب المدن العربية، وأصبحت ضمن ولاية بيروت تحت مسمى “سنجق طرابلس الشام”، وشيد العثمانيون فيها أول خط حديدي (ترامواي المينا طرابلس)، بأمر من السلطان عبد الحميد، وكذلك شيدوا التكية المولوية الصوفية عام ١٦١٩م، التي تعتبر مركزاً دينياً لما يعرف ب “الدراويش”.
يتوسط المدينة تقريباً نهر “أبو علي” الشهير، والجامع المنصوري الكبير المحاذي للنهر، ويعتبر الجامع المنصوري الكبير من أقدم المساجد في لبنان وأهمها، ويقال إنه أول مسجد في طرابلس، وقد شهد العديد من ورش الترميم، أهمها تلك التي رعتها النائب “بهية الحريري” أخت رئيس الوزراء الشهير الراحل “رفيق الحريري” بالإضافة إلى جامع طينال، وجامع العطار الشهيرين، كما تشتهر المدينة (حديثاً) بمعرض “الشهيد رشيد كرامي الدولي “وحديقة الملك فهد.
تعتبر قلعة طرابلس إحدى أشهر المعالم الرئيسية في طرابلس، والتي بنيت قبل سبعمائة عام تقريباً، كما يعتبر برج “ساحة التل”، أو “برج الساعة” الذي بني عام ١٩٠١م مركز مدينة طرابلس.
وتحتوي المدينة على خمسة أبواب، (كباب الرمل، وباب التبانة، وباب السراي)، والعديد من الأسواق القديمة والتراثية، (كسوق النجارين، وسوق النحاسين، وسوق العطارين، وسوق السمك)، وكذلك الخانات (لفظ قديم فندق)، كخان العسكر، وخان الخياطين، وخان الصابون.
عانت مدينة طرابلس في حقبة “الحرب الأهلية اللبنانية” الكثير من الويلات، رغم جهود أهلها للنأي بالنفس قدر الإمكان، لكن وجود المخيمات الفلسطينية في ضواحي طرابلس، وطبيعة شعب طرابلس في التضامن مع محيطه العربي والإسلامي، جر على طرابلس سخط النظام السوري المجرم، فصب حقده ونيرانه على المدينة في ثمانينات القرن الماضي، وتعامل معها وكأنها مدينة ضمن مزرعته (سوريا)، وعاملها كما عامل المدن السورية بالحديد والنار، فاجتاحت قواته بدايةً المخيمات الفلسطينية في ضواحي طرابلس، كمخيم “البداوي ونهر البارد”، ثم زحفت إلى أحياء طرابلس، ودخلتها بعد حصار مرير خلّف هذا الاجتياح آلاف القتلى والجرحى، ومئات آلاف النازحين، ودماراً واسعاً وممنهجاً، كما خلّف العديد من المجازر بحق المدنيين، والتي لا تزال تروى على الألسنة جيلاً بعد جيل، وأيضاً نتج عنه ما بات يعرف ب “ملف المفقودين”، الذي لا يزال مفتوحاً حتى تاريخ كتابة هذه السطور، ولا تزال العديد من الجهات الحقوقية تعمل على كشف مصير مئات المفقودين في أقبية النظام السوري.
ولأن مدينة طرابلس تتميز بطابعها الملتزم والمتدين، أصبحت موضع استهداف النظام السوري، وذلك لطبيعته الطائفية والدموية، وقد ترجم هذا الاستهداف للمدينة في حقبة “وصاية النظام السوري” على لبنان بالعديد من الاغتيالات لشخصيات سياسية، ورموز المدينة، والتضييق على سكانها وأرزاقهم، وكذلك تهميش المدينة بكل الوسائل الممكنة؛ كل هذا جعل مدينة طرابلس معقل المعارضة الأول لهذه الوصاية.
بعد انسحاب النظام السوري من لبنان في الثلاثين من نيسان ٢٠٠٥، على خلفية اغتيال الراحل “رفيق الحريري”، الذي كان الزعيم السياسي الأول في قلوب الطرابلسيين، لم ينعم شعب طرابلس بالراحة والأمان بعد ذلك، فقد استمر استهداف المدينة من قبل أذرع النظام السوري في لبنان، حيث شهدت المدينة الكثير من التضييق من حلفاء النظام السوري في لبنان، والعديد من الاغتيالات التي تحمل بصمات النظام السوري ومرتزقته.
بعد انفجار الثورة السورية، ضد النظام السوري الدموي، هبَّ شعب طرابلس ومنذ البداية للوقوف إلى جانب الشعب السوري، وذلك لإيمانهم أن المجرم واحد، والقضية واحدة؛ ولأن التركيبة السكانية والاجتماعية بين طرابلس الشام، والمناطق الوسطى في سوريا (حماة وحمص) واحدة، فقد تلقف الطرابلسيون أسلوب الثورة السورية وشعاراتها ورايتها وأهازيجها، فقام الشعب يتظاهر ضد “طاغية الشام” من المساجد، كذلك كان الحراك الطلابي على أوجه وتحديداً في الجامعة اللبنانية متمثلة بكليتي (العلوم والآداب).
ولشرح الانتفاضة الطلابية في (الجامعة اللبنانية)، فلا بد من الإشارة إلى أن الجامعة اللبنانية تحولت بعد بداية “الربيع العربي” إلى ميدان ثوري بامتياز، وما إن بدأت الثورة السورية، حتى تحول هذا الميدان إلى أكبر داعم طلابي للثورة السورية خارج سوريا.
كان الحراك في الجامعة مندمجاً، مع الحراك الثوري في الداخل، ومتفاعلاً معه لحظة بلحظة، بل واستنسخ تجربته في الشعارات والمطالب، فكانت المظاهرات الأسبوعية تنطلق يوم الجمعة في نفس التوقيت تقريباً، مع مظاهرات الداخل، وتبدأ من كلية الآداب وكلية العلوم، ثم ينضم إليها المصلون من مسجد الرابطة المجاور لكلية الآداب، ومسجد حمزة الذي شهد أيضاً الكثير من المظاهرات المسائية المؤيدة للثورة السورية بشكل شبه يومي، وكانت تخرج منه المظاهرات بعد صلاة العشاء وتجول منطقة القبة، وأحياناً تصل إلى ساحة “التل”.
تجول المظاهرة الرئيسية منطقة “القبة” مركز الانطلاق، والثقل الثوري الأول، ثم تنطلق الجموع إلى مركز مدينة طرابلس “التل”، وتحديداً إلى “ساحة النور”، في البداية كانت تسير في خط (مشروع الحريري محاذية جبل محسن، ثم تستدير إلى التبانة، عبر شارع سوريا الذائع السيط، ومنها إلى الزاهرية، ثم إلى التل وسط المدينة ومنه إلى “ساحة النور” الأشهر في طرابلس )، لكن ومع تعرض المتظاهرين أكثر من مرة لإطلاق نار من جبل محسن (الداعم للنظام السوري من منظور طائفي بحت)، غيّر المتظاهرون وجهتهم، فأصبحوا يسلكون طريق (القبة من الجهة الأخرى الذي يحاذي منطقة أبو سمرا، ثم بمحاذاة قلعة طرابلس إلى الطريق المؤدية إلى باب الحديد، ومنه إلى ساحة التل، ثم وجهتهم الأخيرة ساحة النور).
وكان هناك طريق مختصر، يسلكه عادةً بعض الطالبات، أو الذين يسارعون إلى ساحة التل، ( يتجهون بمحاذاة مشروع الحريري، ويسلكون سلماً حجرياً قديماً وطويلاً في حارة البرانية، ثم عبر الزاهرية أو باب الحديد إلى ساحة التل).
كان الحراك الثوري الطلابي نشطاً وفاعلاً ومؤثراً، يضاف إليه الثقافة العالية لهؤلاء الشباب والشابات، ومعرفتهم بما فعله عدوهم “طاغية الشام” ضد مدينتهم وسكانها، وقدرتهم على التحدي والصمود أهم عوامل استمرار هذا الحراك، ولم يفوت الطلاب الفرصة للتعريف بجرائم النظام السوري، فقد كانت توزع البيانات الداعمة للثورة السورية، والمجلات التوعوية، وتطبع الخطابات الثورية الحماسية.
هذا الزخم الثوري الحاشد، امتد إلى ما يزيد عن عامين ونصف، وقد أوجع ذلك المد الثوري الداعم للثورة السورية النظام السوري، فعمد إلى إثارة الفوضى في هذه المدينة الثائرة عن طريق ذراعه الطائفي في جبل محسن (الحزب الديمقراطي العربي)، فبدأت جولات قتال عنيفة بين جبل محسن (الموالي للنظام السوري)، وباب التبانة، والأحياء المحيطة به كمشروع الحريري، والبّقار، والزاهرية (الداعمة للثورة السورية)، وكان نقطة الالتحام المباشر في شارع سوريا الشهير.
استخدمت في جولات القتال مختلف الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، فضلاً عن عمليات القنص التي كانت ورقة رابحة بيد مرتزقة النظام السوري في جبل محسن (نظراً لارتفاع منطقة جبل محسن عن بقية المناطق)، فكان القنص يشل المدينة، ويغلق أحياء بأكملها كالزاهرية وباب الحديد والتل وسط المدينة، وكانت أكثر المناطق سخونة، (جبل محسن الموالي للنظام السوري، وباب التبانة، والقبة، والبقار، ومشروع الحريري، والريفا)، وبالمحصلة فإن طرابلس المدينة بأكملها تحت النيران، ومرهونة بقرار الحزب الديمقراطي العربي، وقائده رفعت عيد ابن أحد أبرز مؤسسي الحزب “علي عيد”.
وقد أحصي أكثر من ثماني عشرة جولة قتال بين الطرفين، خلّفت عشرات القتلى ومئات الجرحى من المدنيين، والجيش اللبناني، فضلاً عن تضرر في الأبنية والمحلات التجارية والمرافق العامة.
ولم تنتهِ هذه الجولات الدموية، حتى تم تطبيق خطة أمنية في طرابلس في ربيع ٢٠١٤، شملت مداهمات واعتقال مطلوبين، وزعماء محاور من مختلف المناطق، وقد اعتبرت الخطة الأمنية وليدة اتفاق سياسي ضمني بين الأطراف اللبنانية السياسية كافة.
وبالرغم من سيطرة (الجيش والقوى الأمنية) خلال شهرين تقريباً على زمام الأمن داخل طرابلس، فقد وجهت انتقادات لاذعة من مؤسسات حقوقية، بسبب التضييق على المدينة أمنياً، واعتقال أشخاص على خلاف مباشر مع حزب الله، وقيل إن حزب الله كان له قائمة مطلوبين، شارك في تصفيتهم أو اعتقالهم.
أما ما يخص اللاجئين السوريين في لبنان، فقد استقبلت المدينة العدد الأكبر منهم، وخلافاً لكثير من المناطق اللبنانية التي تعاملت مع اللاجئ السوري باستعلاء وطائفية، وضيقت عليه، وحدّت من نشاطه وتحركاته، فقد كانت مدينة طرابلس المنطقة الأكثر أماناً واحتضاناً لهؤلاء اللاجئين، رغم الصعوبات المعيشية التي تواجه سكان طرابلس، وندرة فرص العمل، وقلة الموارد، ولا يزال إلى الآن مئات الآلاف يعيشون فيها حالهم حال ابن البلد.
كانت طرابلس ولا تزال “شوكة” في حلق النظام السوري، وبالرغم من مرور عشر سنوات على الخطة الأمنية فيها، فإن موقفها السياسي والإنساني تجاه الشعب السوري لم يتغير، وما من دليل أوضح على ذلك مما جرى العام الماضي للشبيح والمخبر الأول بمدينة حماة المدعو “طلال الدقاق”، حيث إنه، وأثناء مروره بسيارته من باب التبانة، قبض عليه الأهالي، وتعرفوا إلى أفعاله ضد الشعب السوري وتحديداً ضد الحمويين، فاعتقلوه وسحلوه، ولم يسلم من بين أيديهم إلا بعد تدخل قوة أمنية تابعة للاستخبارات اللبنانية.
إن مدينة طرابلس، ليست امتداداً لسوريا كما يزعم بعضهم، بل هي نصير للأحرار والمظلومين في كل مكان، وما قدمته عبر سنين طويلة هو دليل دامغ على كمية الشرف والتضحية، والحس الإنساني العالي لدى شعب هذه المدينة الذي انتفض لسوريا وغزة، وها هم الآن أهالي الجنوب اللبناني يلجؤون إليها، فيجدون الاستقبال والترحيب، على الرغم مما حاك وحرض حزب الله ضدهم، ووصفهم بالإرهابيين، فقد كان الفيصل في هذا الاتهام هو الجانب الإنساني، وقد نجحت به المدينة في أبهى وأرفع صورة، وحتى تاريخ كتابة هذا المقال لا يزال الكثير من السوريين الذين عايشوا فترة انتفاضة المدينة الداعمة للثورة السورية، يحملون في قلوبهم الكثير من مشاعر الإجلال، والفخر والاعتزاز بهذه المدينة، وما قدمته لهم ولقضيتهم الأولى والأهم “الثورة السورية”.
_________________________________________
من مقالات العدد السادس عشر من (العربي القديم) الخاص بطرابلس الشام – تشرين الأول/ أكتوبر 2024