فنون وآداب

نصوص أدبية || قناص الضيعة (فصل من رواية لم تنشر)

كتبها: باسل حسن

يسر العربي القديم أن تقدم لقرائها فصلا من رواية (بحر بـ قاعين) للكاتب الشاب باسل حسن، التي لم تنشر في كتاب بعد، والتي تروي بمهارة أدبية واضحة، فصولا من معاناة السوريين في ظل مليشيات القتل والإجرام التي ساندت النظام الذي فجروا ثورتهم ضد نظام حكمه الاستبدادي الفاسد (العربي القديم).

الستائر البيضاء لم تكن تكفي للحماية من القناصين، في كل يوم كان هناك شهيد أو اثنين من أبناء البلدة.

 شيّعنا أطفالاً ونساءً ورجالاً قتلهم القناص خلسة حين كانوا يعبرون الطريق. معظم الأطفال الذين قُنصوا كانوا عائدين إلى بيوتهم من المدرسة الوحيدة التي ما زالت قائمة ضمن هذا الحصار، في بعض الأحيان يتلذذ القناص بقتلهم قرب أهاليهم وأمام أعينهم. أذكر يوما جاء فيه خبر مفجع كأغلب أخبار هذه الأيام: “قنصوا الولد وهو ماشي جنب أمو ومات وهو ماسك ايدها مين بدو يصبرها وينسيها المشهد” يقول ناقل الخبر بأسى.

الرجال والنساء كانوا يُقنصون من مواقع عدّة خلف الستائر، لكن أخطر المواقع قنصاً والتي مهما حاول أهل البلدة تغطيتها بالستائر وبالركام ظلت مكشوفة، هي زاوية مقهى الإنترنت الوحيد في شمال شرق الساحة الصغيرة التي لا تزيد مساحتها عن واحد كيلو متر مربع، ويطلق عليها الناس هنا اسم “الضيعة”.

والضيعة هذه هي محط أنظار النظام لموقعها الاستراتيجي، فهي تعتبر قلب البلدة المنخفض ومن حولها كل الأراضي أكثر ارتفاعاً، مما جعلها هدفاً واضحاً للقناصين الذين يتربصون بالمارة من مناطق يسيطر عليها نظامهم. لم أعرف لماذا سُمّيت هذه الساحة بالضيعة فالبلدة كلها تبدو أقرب لضيعة، يتفرع من الضيعة هذه “الساحة” أربعة طرق رئيسية، عند بداية كل طريق وضع الأهالي ستارة قماشية ضخمة تغطي الزاوية التي يكشفها القناص، هذه الطرق الأربعة غير متوازية في الاتجاهات، عشوائية بتوزعها؛ إذ أن البلدة برمتها عشوائية التموضع كسائر الأرياف في دمشق.

 إلى الجنوب قليلا طريق يصل بين الضيعة والنقطة الأخيرة من البلدة التي تحتوي على بعض من المقرات العسكرية التابعة لفصائل الجيش الحر، وهناك أيضا تم تثبيت نقاط الجبهة الرئيسية التي تحمي من دخول قوات نظام الأسد وحلفائه. الطريق الثاني وهو أضيق من غيره يتجه شرقا وآخره منفذان، منفذ لا يوجد فيه إلا نقاط ومقرات عسكرية لجبهة مغلقة بالسواتر الإسمنتية، ومنفذ آخر مفتوح على حي صغير تابع للبلدة ولكنه معزول عنها بعض الشيء، فهو يصل بنهايته إلى بلدة أخرى أقرب إلى نقاط التماس مع العدو، وقد ذاع صيتها بأنها صالحت النظام الحاكم وعقدة هدنة معه، فصار الحي أشبه بممر من وإلى البلدة “المطوبزة ” كما كان يصفها الجميع!

 في بداية هذا الطريق وضع الناس ستارة بيضاء طويلة أيضا فهو يكشف للقناصين الطرف الشرقي من الساحة ولكنه أقل الطرق خطرا لبعد المسافة التي يقبع فيها القناص عنه، وقليلا ما كانت تطال رصاصة ما أحد المارة، إلى الجنوب تماما طريق مقهى الإنترنت الأخطر والمحمي بالستائر والبيوت المهدمة، كانت زاوية المقهى هي المصدر الرئيسي لتتالي حوادث الموت، هناك يتجمع الكثير من الشبان أمام المقهى ممسكين بأيديهم هواتفهم النقالة محاولين الاتصال مع أهل خارج الحصار او مع صديق او صديقة، المقهى بالحالة الطبيعية هو ليس مقهى بحد ذاته، لكن في هذا الحصار القاتل هو أكثر من مقهى، باب صغير حديدي محطم ومعاد تقويمه لمدخل بناء مهدوم بعض الشيء من الأعلى، حيث تلاحظ انكسار المبنى من بعيد بشكل غريب، كنت أراه كلوحة لامرأة بعنق مائل حتى الانكسار وكانت الامرأة تشبه خيال  “مودي غالياني”، بعد عبور الباب هناك قاعة صغيرة وعلى ما يبدو كانت من قبل غرفة في هذا المنزل المهدوم قام أحد الشبان بتوضيبها، ثم مع بعض المقاعد وطاولة في المنتصف بث الحياة فيها، واستطاع بطريقة أو بأخرى تأمين خط إنترنت، وأطلق اسم مقهى انترنت على هذا المكان، وصار الناس يقصدونه من كل أنحاء البلدة.

 هكذا حصل المكان على شهرته، لا يتواجد في كل الأوقات اتصال غالبا ما يكون معطل وحين يتوفر فقد يكون أسوأ اتصال قد تحصل عليه. كنت أجلس ساعات هناك كي أجري مكالمة أو محادثة مع صديق ما، ولكن لأمثالي الذين ليس لديهم أي وسيلة اتصال أخرى خارج الحصار كان هذا المكان ثروة هائلة، ولذلك كان القناصين يستهدفون من يتواجد بالقرب منه على وجه الخصوص.

 الطريق الأخير من الضيعة يصل بيننا وبين بلدات الغوطة الشرقية المحاصرة، نقاط الاتصال بهذه البلدات كانت ثلاث، دخلت أثنان منها، النقطة الأولى كانت بوابة نفق طويل وضخم جدا يطلق عليه اسم نفق جيش الإسلام، هذا النفق لا نستطيع عبوره لنصل إلى بلدة أخرى إلا بعد موافقة المسؤولين عنه وهؤلاء المسؤولون عن النفق هم من عناصر جيش الإسلام، قد تستطيع في بعض الأحيان العبور بالتزكية ولكن هذه الحالات لمن يملك معارف عندهم، أما الحالات العامة للعبور فهي نظام مؤسساتي مصغر، كأن تتوجه لمكتب الإدارة الخاص بالجهة المعنية وتحصل على ورقة مختومة تفيد بالموافقة على عبورك، لا يوجد شرط أساسي يحكم الموافقة أو الرفض ” أنت وحظك”، يحتاج عبور النفق بالإضافة للموافقة الأمنية وسيلة نقل فقد يستغرق وقت من ساعتين إلى ثلاث إذا ما قررت العبور سيرا على الأقدام، أغلب العابرين كانوا يستعينون بالدراجات النارية فرغم اتساع النفق الهائل الذي يوحي لك بأنه أضخم من محطة قطارات إلا أنه وفي بعض الأماكن مازال ضيقا ولم يتم إكمال حفره الى حد أن الدراجة النارية هي أضخم وسيلة باستطاعتها العبور، ينتهي النفق ببداية الغوطة الشرقية.

في أول عبور لي من هذا النفق كنت بصحبة شقيق “المدني”، الطبيب الذي  لجأت إليه طالبا منه التواصل مع أحد القادة المشرفين على الجبهة الشرقية، فأوكلني لشقيقه الذي بدوره أوصلني على دراجته النارية إلى مقر في الجبهة الشرقية داخل النفق حيث التقيت بأحد الضباط الذي قدمني بدوره لقائده محمد علوش الأخ الأصغر لقائد جيش الإسلام سابقاً زهران علوش، وقفنا جميعا حول طاولة دائرية يتوسطها شاشة الكترونية ضخمة تظهر خريطة المنطقة بأكملها، ذهلت حقيقة من هول المشهد فخلال مسيرتي للقاء هؤلاء القادة مررت بعدة نقاط عسكرية تكاد تكون معدومة العتاد أمام من تقاتله فهي تقتصر على أجهزة اللاسلكي والبنادق اليدوية، حيث يجلس ثلاث إلى أربع عناصر حول علبة حديدية صدئة وقديمة يضعون بداخلها ما توفر من حطام لإشعاله كي ينجوا في البرد القارص وفي الصيف رحمة الغيب ما تجعلهم يصبرون على حرارة باطن الأرض، كانت النقاط العسكرية هناك كهوف طينية صغيرة تشكل كل نقطة عقدة بين فواصل الأنفاق، في النقطة الأخيرة حيث القادة شعرت بفسحة أكبر للكهف هذا وتطور غريب يملأه، هنا مكتب وكراسي متحركة وهناك على الجدران ثمة خرائط ورقية وبعض المقاعد الخشبية للانتظار أمام بوابات الغرف المصغرة داخل هذا الكهف الغريب، على كل حال كان مجيئي إلى هنا بسبب المعلومات التي أخذتها من مقر جيش النظام قبل فراري وهي معلومات خطيرة وتنقذ أرواح كثيرة، قلت ذلك لصديقتي كندا التي ساعدتني على الفرار في بادئ الأمر من جيش النظام فنصحتني بالمدني الذي بدوره أوصلني إلى هنا، سألني قائدهم هل تحفظ مواقع النظام على الخريطة؟ أجبت بنعم وأشرت على الخريطة إلى أماكن لتموضع قادة عسكريين ذو شأن لدى النظام، ثم أدليت بجميع المعلومات والإحداثيات التي جئت لأوصلها، وبشكل أو بآخر من ردود الأفعال التي قرأتها على الوجوه آنذاك استنتجت أنهم غير مهتمين بالأفراد، فعندما تخبر قائد بأن عناصر لديه سيموتون إذا لم يغلق نفق معين لأن العدو يفخخ هذا النفق من جهته وهو على دراية بتواجدكم هنا، على القائد أخذ مثل هكذا كلام بعين الاعتبار، ولكن كانت ردة فعلهم سطحية جدا بقولهم

– لا يهم نحن ثابتون

على ماذا بالضبط ثابتين سألت القائد بدوري

– ثابتون مع الحق ولن ننسحب مهما كانت الخسائر كلنا مشروع شهادة، تكبير

صرخ بالكلمة الأخيرة وصرخ كل من في الكهف بها. لم أفهم معنى الثبات لا على الحق الذي يتحدث عنه ولا على مشروع الشهادة الذي كبّر الجميع له، قلت في داخلي هل الموقف كوميدي سوداوي أم أنه جهل مطلق، صرخت بوجه القائد ورجوته أن يثبت في أماكن غير قابلة للسقوط الحتمي وأن ينقذ أرواح الشبان في مواقعهم الآن فأجاب بهزلية مفرطة:

– أنت عنصر منشق حديثا عن جيش الأسد وأعداء الله لست على دراية كافية لتنصح بما يجب وما لا يجب، تعال لنصلي العصر جماعة يا بني.

***

وضعتني الحياة خلال سبعة أعوام من الحرب في أماكن كثيرة لا أُحسد عليها، أحيانا أجد نفسي أجابه طاغية وحيدا، أتلفت حولي، لا أحد، كل الذين ينطقون بالحق ماتوا أو تعبوا لا فرق فتعب الحرب موت قاس أكثر من الموت الفعلي، قد تظن لوهلة أنه لا أحد حقيقة يجابه طاغية وحيدا ولكن حين تعلم أن الطغاة ليسوا من يقبعون في قصرهم العاجي فقط بل هم هنا في هذا الكهف الغريب وفي المنزل المجاور وفي الغرفة المجاورة وفي داخلك أيضا، حين تؤمن بذلك فقط حينها ستواجه وحيدا كل طغاة العالم بما فيهم أنت، هذا هو الخلاص لا الموت، هذه هي  القدرة على تخطي الذات لما هو أعلى وأسمى منها، كلنا دكتاتور إذا ما تجردنا من أخلاقنا وقيمنا وكلنا طاغية إذ ما فقدنا الرحمة وخرجنا من إنسانيتنا، يفصل بيننا وبين الظالم حبل المظلوم حبل السرة الذي إن انقطع اختل ميزان الحياة ومالة الكفة حتى الانهيار، فلا ضحية بدون جلادها، اختبرت النزاع  لأوقات طويلة وخضت مواقف لا تعد ولا تحصى بين المطرقة والسندان، والكل اشتركوا بمبدأ الثبات هذا الذي تحدث عنه القائد وكأنه يرفع راية النصر، ولم أعلم أبدا على ما هو ثابت إلا بعد حين، كنت أقف في وجه الموت وأبعده قدر ما استطعت وكان أولئك الذين يشبهون القائد يدفعون بالعالم نحو الموت بكل قوتهم، هم ثابتون نعم، ولكن نحن الوقود المحترق ونحن الوجود الغير ثابت على شيء بالنسبة لهم

 في بداية الثورة حين كان الحراك سلميا، كنا نهتز كأغصان الزيتون في مهب الريح نتراقص كموج البحر ونهتف بقلب واحد بإرادة واحدة للحرية، بعد ذلك بقليل فقط ظهر أول قائد وتبعه الكثيرين فصيّرهم وقودا، ثم ظهر القادة تباعا وتبعتهم جموع المطالبين بالحرية فصاروا وقودا لنار هؤلاء القادة

وما الفرق؟ كيف نخلع عنا عباءة القائد الدكتاتور الذي خرجنا صارخين بوجه طغيانه لنلبس عباءة القائد الآخر الذي لن يكون أقل دكتاتورية وطغيانا مهما حاولنا فلسفة وجوده، ولكن الكثيرين بدلوا العباءات حتى مزقتهم أنياب الصحراء، ماء ماء يصرخ الظمآن والقادة ثابتون، لا ماء لكم أيها الظمآنين

عدت مع المدني من ذات النفق، لم يتحدث كلانا كلمة واحدة طوال الطريق وعند وصولنا إلى البلدة صافحني ثم افترقنا كأننا لم نلتقِ أبداً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button