فنون وآداب

رواية (الهيلعي) لعبد القادر الجاسم: بيئة الجيش السوري المتوحشة

محمود الشيخ – العربي القديم

​تجري أحداث الرواية أثناء الثورة السوريّة، وتمتد خمس سنوات بين (2011-2015)، وتبدأ أحداثها بينما كان عمر بطل الرواية ملازماً مجنّداً في الجيش قبيل اندلاع الثورة.

​عاش بطل الرواية أوضاعاً استثنائيّة ومأساوية، أثناء خدمته في الجيش إلى أن سُرّح من الخدمة في نهاية 2011، وقد تعرّف خلال خدمته على المجنّد سعد الدين (الهيلعي)، والملازم الآخر علاء اللذين بقيا حتّى نهاية الرواية.

البيئة المتوحشة

​ تقدّم الرواية من خلال علاقات الملازم المجنّد عمر ببقية المجنّدين والضباط، أثناء الخدمة صورةً واقعيّة عن بيئة الجيش السوري، وهي بيئة منعزلة عن المجتمع، تحكمها أعراف وعلاقات بشريّة، وقوانين من نوع خاص. ففي هذه البيئة الموحشة، قدّمت الرواية عدداً كبيراً من الشخصيات لعساكر مجندين ومتطوعين، وحاولت أن ترسم ملامح العلاقات الاجتماعيّة لهذه البيئة، من خلال أحداث مرحليّة، شارك فيها الملازم عمر، أو خبرَها أثناء تفاعله مع هذه الشخصيات، كالضابط الفاسد الرائد علي، والضابطَين المأزومَين، بسبب الأحداث الجارية في سورية النقيب إبراهيم، والملازم أول نسيب، والضابطَين المتشنّجَين اللذين كانا في أشدّ الحماس لقمع المتظاهرين حسيب ورستم، ومجنّدين آخرين كالرقيب جودة والرقيب علي، والعسكريّ المسكين محمود وغيرهم، وقد كان لكلّ من هذه الشخصيات الثانويّة دورها المرحليّ في سير الأحداث، إلى أن انتصفت الرواية، بعد أن سُرّح الملازم عمر من الخدمة، وحدوث عمليّتَي انشقاق كبريين من القطعة. 

​بطل الرواية الآخر

المجنّد سعد الدين الذي عرفه الملازم عمر في الجيش، هو بطل الرواية الآخر، ولكن من وجهة نظر أخرى. وتشكّل المصادفات التي تجمعهما عدّة مرات، بعد التسريح منعطفاتٍ هامة في أحداث الرواية. فسعد الدين هو الشخص الذي بدأ موالياً للنظام، مع انطلاق الثورة، ثمّ تعرّض للإصابة أثناء مشاركته في حصار الجيش السوري لمدينة الزبداني، وبعد مقتل أبيه على أيدي عناصر الأمن في حلب، وجد نفسه في صفوف الجيش الحر، ثمّ تنقّل بين الفصائل، قبل أن ينضم إلى جبهة النُّصرة، ولينتهي به المطاف في صفوف تنظيم الدولة، ثمّ استطاع أنّ يفرّ إلى تركيا، قبل أن ينهار التنظيم، ليمارس التجارة والبزنس، بما غنمه من أموال.

​والهيلعيّ، هو لقب أطلقه أحد المجنّدين على سعد الدين، بسبب نشاطه الزائد أثناء الخدمة، وهو لقب جاء على سبيل الذم بما يشبه المدح، فهو شخص لا يمتلك من صفات الرجل الهيلعيّ، سوى الجرأة التي تضعه دائماً في صفوف الفريق المنتصر، ويدفعه استشعاره وذكاؤه إلى الهرب عند توقّع الهزيمة.

​ملامح نمطية وجغرافيا واحدة

تحاول الرواية تقصّي ملامح نمطيّة لثلاث شخصيّات عاشت الأحداث، ضمن جغرافيا واحدة، ولكن بنسبٍ متفاوتة، فالأوّل هو الملازم عمر الذي يمثّل المدنيين المتعاطفِين مع الثورة، وقد كان أضعف الشخصيات الثلاث، إذ عاش مؤمّلاً انتصار الثورة وتحقيق المعجزات، لكنّه كان مضطّراً دائماً في كلّ القرارات المصيريّة التي اتّخذها، ووجّهت حياته، قبل أن يقرّر في النهاية العودة إلى سورية، وهو على أبواب أوربا، من أجل إنجاز عملٍ ما، لم تذكره الرواية.

​أمّا الثاني، فهو المجنّد سعد الدين الذي يمثّل زمرة من الجشعِين النفعيين الذين حرّكتهم مصالحهم، فكان يجد نفسه في كلِّ مكانٍ تقتضيه مصلحته؛ ولذلك فقد كان نموذجاً للمنتصر الأكبر والأوحد، مما جرى في سورية في النهاية.

​أمّا الثالث، فهو الملازم علاء، وهو صديق الملازم عمر، وقد كان موالياً للنظام، وبقي كذلك حتّى النهاية، لكنّه كان أيضاً يمثّل فئةً من الخاسرين الذين قدّموا ما استطاعوا، في سبيل أن يقضي النظام على الثورة بالسرعة الممكنة، من أجل أن يعودوا لممارسة حياتهم، وفق الأفق الذي كان يتيحه النظام لهم.

​رواية واقعية لا توثيقية

تستند الرواية إلى الأحداث الحقيقية التي جرت في سورية، بين عامي 2011 – ٢01٥، دون أن يكون الهدف من ذلك تأريخ تلك الفترة من أحداث الثورة السوريّة، فهذه الأحداث إنّما تشكّل الأرضية التي تسير عليها وقائع القصة، وتتحكّم بمصائر شخوصها وأبطالها، فالرواية بهذا المعنى واقعية لا توثيقيّة.

​تنقسم الرواية إلى ثمانية فصول، تتضمن مراحل متعاقبة من الأحداث، تناوب فيها الأبطال على الظهور بنسب متفاوتة، إذ تبدأ القصة من منطقة عسكرية، هي مكان خدمة الثلاثة قبل اندلاع الثورة، ثمّ تصوّر الواقع الميداني في الجيش السوري في ذلك الوقت، ثمّ تنتقل إلى مرحلة اندلاع الثورة والانشقاقات، وتأثير ذلك على بنية الجيش السوري، قبل أن تنتقل إلى مرحلة تشكيل الفصائل المسلّحة وبدء المواجهات العسكرية، وترصد تحوّل أوضاع الناس في سورية على وقع هذه الأحداث المتسارعة، ثم تتناول حركات النزوح والهجرة بسبب القصف المستمر، والقبضة الأمنيّة والمعارك، وخلال ذلك يغيّر سعد الدين (الهيلعي) ولاءه بصورة كبيرة، ويتنقّل بين الفصائل، بما تُمليه عليه مصالحه وشبقه نحو النفوذ والغنيمة. تتكرّر لقاءات عمر المسرّح من الجيش بسعد الدين، تحت وقع المصادفات التي تخلقها أجواء الحرب، لكن ضمن سياقَين مختلفَين، فسعد الدين كان صاحب القرار في تنقلاته، أمّا عمر فكان يتنقّل مضطراً، تحت وقع القصف والتهجير والخوف من الاعتقال.

نهاية مفتوحة

في النهاية تتسارع أحداث الرواية مع انطفاء شعلة الثورة، ويلتقي الاثنان مجدّداً في إسطنبول، ويكون علاء ثالثهما. سعد الدين، كان قد سبق عمر إلى إسطنبول وافتتح مدرسة خاصة، جعلها واجهة لأعماله الأخرى، وهو من يعمل على إقناع عمر باللجوء إلى أوربا، بعد أن مهّد الطريق لعلاء، لكنّ عمر الذي شرع بتنفيذ ما أقنعه به سعد الدين، فاجأ مرافقه علاء قبل عبور الحدود البلغاريّة، وقرر العودة بدعوى أنّ لديه شيئاً لم يقم به، ويتحتّم عليه إنجازه، لتنتهي الرواية بهذه النهاية المفتوحة.

* (الهليعي) هي الرواية الأول للكاتب عبد القادر الجاسم، وقد صدرت في طبعة أولى عام 2022 وطبعة ثانية عام 2023 عن دار نرد للنشر والتوزيع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button