العربي الآن

المذبحة كنظام سياسي: بين تحييد الذاكرة واستبداد التبرير

الجميع مشارك في تقديم قرابين الحفرة: المبرِّر، المتفرج، المحايد

محمد صبّاح – العربي القديم

“كان الجميع مصدومين بسبب فضيحة المذبحة، لكن لا أحد صدمه تكرارها. مع أن تكرار الفضائح هو الفضيحة الكبرى، لأن فضيحة التكرار تمحوها، وعلى نحوٍ رحيم، فضيحة النسيان. النسيان؛ ذلك الثقب الذي لا قرار له، والذي تغرق فيه الذكرى، سواء كانت ذكرى امرأة أحببناها، أو رواية عظيمة، أو مذبحة.”

بهذه الفقرة التي كتبها ميلان كونديرا، يمكن اختزال أبعاد أي مذبحة تُرتكب بحق الإنسانية.

لكن علينا أن نضيف اعترافاً صادقاً :

قد يكون التحيز للاستبداد فعلًا تعويضياً، يستمد شرعيته من نوازع الانتقام. فنزوع البعض إلى التبرير الدائم لممارسات السلطة الاستبدادية يستند إلى ذاتٍ «متهتكة» بفعل الإنجاز الكبير، حيث تتراكم التوترات والإحباطات والصراعات والتهديدات، لينشأ من هذا كله توافقٌ قهري يُنتج نظاماً قمعياً .

الجميع مشارك في تقديم قرابين الحفرة: المبرِّر، المتفرج، المحايد . لأن ما حدث لم يكن سوى مقولة بلاغية فارغة، تُعاد صياغتها في كل مرة لتبرير القمع المستدام، وتعزيز عالم بوليسي لا نهاية له.

إن التاريخ البشري ليس سوى قائمة طويلة من المذابح التي تم تبريرها، ثم إعادة كتابتها، ثم دفنها في ظلال النسيان. المذبحة ليست انحرافاً عن المسار، بل جزء من الآلية التي يُعاد بها تشكيل السلطة. وكما قال إريك هوفر: «التاريخ هو الدعاية التي نجت من الماضي.» فالتاريخ كما يُقدَّم ليس سجلًا محايداً، بل رواية يكتبها المنتصرون، حيث تُعاد صياغة الأحداث وفقاً لمصالحهم، فيما يُمحى الألم، ويُطمس صوت الضحايا.

المذبحة كنظام سياسي

المذابح لا تحدث فقط لأن القتلة يرغبون بالقتل، بل لأن هناك بيئة اجتماعية وسياسية تجعل القتل ممكناً، بل وضرورياً أحياناً. في عام 1792، عندما قُتل الآلاف في مذابح سبتمبر في فرنسا، لم يكن القتلة مجرد غوغاء ثوريين، بل كانوا جزءًا من منظومة تُعيد إنتاج العنف باسم الدفاع عن الثورة. في «كومونة باريس» عام 1871، تم سحق العمال الثائرين تحت شعار استعادة النظام. لم يُنظر إلى ما جرى بوصفه مجزرة، بل «تصحيحًا ضرورياً».

في التاريخ الحديث، تجسد مذبحة التضامن في سوريا واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبها نظام استبدادي بحق شعبه. مشهد الرجال المصفّدين بالأصفاد، الذين قُتلوا بدم بارد وأُلقيت جثثهم في حفرة جماعية، لم يكن مجرد عمل وحشي، بل كان نموذجاً فجّاً لما يحدث عندما يُرفع العنف إلى مرتبة الأيديولوجيا. هذه المذبحة لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت درساً بليغاً في كيفية تحويل السلطة القتل إلى ممارسة بيروقراطية، تُدار كما يُدار أي ملف حكومي آخر.

هذا ما يجعل قول ميشيل فوكو شديد الصلة: « الدولة الحديثة لا تعاقب، بل تنظم الموت.» فالدولة لا تحتاج دائماً إلى القتل المباشر، بل يمكنها أن تخلق الظروف التي تجعل القتل تلقائياً، مبرراً ، أو حتى غير مرئي.

كيف يصبح القتل مجرد إجراء؟

حين أجرى ستانلي ميلغرام تجربته الشهيرة حول الطاعة، اكتشف أن الإنسان العادي، حين يُوضع في سياق سلطوي، يمكن أن يتحول إلى أداة للقتل دون أن يشعر بالذنب. القتلة في المذابح ليسوا دائماً وحوشاً، بل قد يكونون رجال شرطة ينفذون أوامر، أو موظفين إداريين يصدرون قوائم اعتقال، أو حتى صحفيين يُعيدون صياغة الحدث ليبدو «حادثة أمنية» .

وهذا ما عبّر عنه إيريك فروم بقوله: «المجتمعات الاستبدادية تجعل القتل مقبولًا حين يكون في خدمة الدولة، وتحول الضحية إلى مذنب.» فحين تتحول الضحية إلى «إرهابي»، أو «خائن»، أو «عنصر غير مرغوب فيه»، يصبح التخلص منها ليس جريمة، بل ضرورة سياسية.

النسيان بوصفه جريمة ثانية

إذا كانت المذبحة هي الجريمة الأولى، فإن نسيانها هو الجريمة الثانية. وهذا ما يجعل قول جورج سانتايانا تحذيراً مستمراً: «من لا يتذكر الماضي محكومٌ عليه بتكراره.» النسيان هنا ليس مجرد فقدان للذاكرة، بل آلية لإعادة إنتاج الجريمة، حيث يُعاد تقديم القاتل كمُصلح، والمجزرة كـ«ضرورة مؤسفة».

لقد حدث هذا في أكثر من موضع في التاريخ، ليس فقط في مذابح الاستعمار، ولكن أيضًا في الأنظمة الحديثة. حينما قاد الملك ليوبولد الثاني عمليات الإبادة في الكونغو، لم يكن هناك من يوثق، لم يكن هناك مجتمع دولي يعترض، كان هناك فقط أيدٍ تُقطع، وأمم تُباد باسم «التجارة الحرة». لم يكن القتل فقط هو الجريمة، بل الطريقة التي أعيد بها تأريخ الحدث لاحقًا: لم يكن ليوبولد مجرم حرب، بل «ملكاً مثقفاً ».

أما في إسبانيا الفرانكوية، فلم يُسمح لأحد بالتحدث عن الجرائم التي وقعت خلال الحرب الأهلية، لأن الذاكرة تشكل خطراً على الاستبداد. وكما قال إدغار موران: «أكبر انتصار للمستبد ليس قتله للناس، بل قتله لذاكرتهم.»

_حين يصبح العنف طبيعياً:

إن أخطر ما في المجازر ليس وقوعها، بل تحولها إلى أمرٍ معتاد. برتولت بريخت عبّر عن هذا بشكل قاسٍ حين قال: «عندما تأتي المذبحة القادمة، لن يسأل أحد: كيف حدث هذا؟ بل سيقولون: لقد كان هذا طبيعياً .»

حين يفقد الناس صدمتهم تجاه العنف، حين يصبح القتل إجراءً إدارياً ، حين يُمحى اسم الضحية ليصبح رقماً في تقرير، نكون قد دخلنا في أخطر مراحل التبرير الجماعي. وهذا ما قصده ألبرت كامو حين قال: «أسوأ أنواع الجريمة ليست تلك التي تُرتكب بالسيف، بل تلك التي تُرتكب بالصمت.»

ما العمل؟

ما العمل إذن؟ كيف يمكن للذاكرة أن تنجو من لعبة التغييب التي لا تنتهي؟ كيف نواجه هذا الموت الرمزي الذي يلاحقنا في كل لحظة؟ التغييب ليس مجرد زلة عقلية، بل هو تجسيد لحالة من اللامبالاة العميقة تجاه الواقع، كأننا نغرق في بحر من التجاهل الطوعي، بينما العالم ينهار حولنا. كل مذبحة تتكرر في جسد الذاكرة كما تتكرر الحروب في جسد الأرض، وكأن الإنسان قد اعتاد أن يكون « شاهداً ميتاً »على نفسه.

لكن، هل يمكن للذاكرة أن تكون أكثر من مجرد ثقل يحمل جسداً مكسوراً؟ وهل من الممكن أن نرفض، مرة واحدة وإلى الأبد، هذه الدورة التي لا تنتهي؟ هل يمكن أن نخرج من هذا العالم الذي تكمن فيه الفجيعة في كل زاوية، حيث يصبح الإنسان مجرد أداة في لعبة أكبر منه بكثير؟ أليس كل فعل مقاومة مجرد وهم في مواجهة قوى لم نعد قادرين على فهمها؟

الذاكرة، إذا كانت حية، فإنها تشتعل بنار الأسئلة التي لا جواب لها، بنار الوجود الذي لا يرحم. نحن لا نملك رفاهية العيش في زيف السلام، بل في التوتر المستمر بين الذكرى والمذبحة. فالتغييب ليس فقط تدميراً لما كان، بل هو مقدمة لإعادة إحياء الصدمات التي نرفض مواجهتها، ولكننا نعلم أنها ستحضر حتماً.

ماذا نفعل حين يصبح العنف طبيعة، وحين تصبح الذاكرة عبئًا غير قابل لتحمله؟ هل نستطيع أن نكسر الدائرة الملعونة، أم أن الخيار الوحيد المتاح لنا هو أن ننتظر المذبحة القادمة، بينما نكتفي بأن نكذب على أنفسنا بأننا «نعيش»؟

______________________________

*كاتب وباحث فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى