نوافذ الإثنين | الديانة البوذية وطقوسها ومتشابهاتها في الثقافات الأخرى
تحرير وتنسيق: ميخائيل سعد
لاتزال الدراسات الخاصة بتاریخ الأديان عموما وتاریخ الأديان الآسيوية على وجه الخصوص، في أمس الحاجة الى البحث والموضوعیة وذلك لاعتبارات تاریخیة فرضتها هيمنة الدراسات على الأديان التوحيدية. من أجل ذلك حاولت التعرف على الأديان الآسيوية، وإعادة النظر بكل موضوعیة في نشأتها، وأهميتها بالنسبة لملايين البشر وقد اخترت واحدة من هذه الديانات وهي البوذية للتعريف السريع بها.
تسليط الضوء على الديانة البوذية، يعطينا فكرة عامة على الفروق بين الفلسفة في آسيا وتلك التي نشأت وتطورت في العالم الغربي.
إن عالمنا العربي والإسلامي أصبح بحاجة ماسة للاطلاع على أفكار وفلسفات وأديان الشعوب الأخرى، حيث تحتدم المواجهات الثقافية والفكرية والدينية على أكثر من صعيد، إن فهم وتفهم أفكار وديانات الشعوب الأخرى يسهل علمية الحوار والتعايش الحضاري.
البوذية
المبحث الأول: تاريخ نشأة البوذية ومؤسسها وانتشارها
نشأة البوذية: نشأت البوذية في شمال الهند في القرن السادس قبل الميلاد.
لمحة عن المؤسس: بوذا هو مؤسس البوذية، أحد الأديان الرئيسية في العالم. يُعتَبَرُ بوذا أيضًا معلمًا روحيًا وفيلسوفًا. وُلِدَ بوذا تحت اسم سيدارتا غوتاما في منطقة تقع الآن في نيبال حوالي القرن الخامس قبل الميلاد.
تاريخ حياة بوذا يتضمن عددًا من الأحداث الهامة والأساطير. وُلِدَ بوذا في عائلة ثرية وعاش حياة مرفهة في شبابه. ومع ذلك، شعر بالاستياء من الظلم والمعاناة في العالم وقرر أن يترك حياته الرغدة والرحلة بحثًا عن الإجابات لأسئلته الروحية. قام بترك عائلته وثروته وأصبح راهبًا يتبع حياة التنازل والتعبئة الروحية.
بعد سنوات من التأمل والتجويع الذاتي والممارسات الروحية، توصل بوذا إلى حالة تنوير روحي، أو “البوذية”، تحت شجرة البودهي في مدينة بودجايا (التي تقع الآن في نيبال).
من بعد تنويره، بدأ بوذا في تعليم الآخرين ما تعلمه، وهو ما يعرف اليوم بالدرس الأول للبوذية. على مدى السنوات اللاحقة، أسس بوذا تجمعًا من التلاميذ الملتزمين بتعاليمه وأسس البوذية كديانة منظمة.
انتشرت البوذية تدريجيًا في شبه القارة الهندية بعد وفاة بوذا. وفي القرن الأول الميلادي، انتشرت البوذية في آسيا الوسطى والصين وكوريا واليابان. وفي القرن الرابع الميلادي، انتشرت البوذية في جنوب شرق آسيا مثل بورما وتايلاند وكمبوديا وإندونيسيا. في القرن السادس الميلادي، انتشرت البوذية إلى تبت وبوتان وشمال آسيا.
في الوقت الحاضر، البوذية منتشرة في العديد من بلدان آسيا وحتى في أماكن أخرى من العالم.
المبحث الثاني: المبادئ والمعتقدات الأساسية
تعاليم البوذية تركز على أربعة حقائق نبيلة وثمانية مسارات نبيلة. تشمل الحقائق النبيلة التلاشي (العذاب والمعاناة الحقيقية في الحياة) وسببها وتلاشيها والمسارات النبيلة تتضمن الفهم الصحيح والنية الصحيحة والكلام الصحيح والعمل الصالح والمجهود الصالح والاهتمام الصالح والتركيز الصالح والتأمل الصالح.
الحقائق النبيلة الأربعة
الحقائق النبيلة الأربعة في البوذية هي الأساس الذي يقوم عليه تعاليم بوذا. تعتبر هذه الحقائق النبيلة أركانًا أساسية لفهم الحياة والتخلص من العذاب والمعاناة. إليك وصفًا موجزًا لكل منها:
الحقيقة النبيلة للعذاب (Dukkha): تشير إلى وجود العذاب والمعاناة في الحياة. تشمل العذاب الجسدي والعقلي والانتماء الشخصي والتغير والموت. تدرك البوذية أن العذاب جزء لا يتجزأ من التجربة البشرية.
الحقيقة النبيلة لأصل العذاب (Samudaya): تشير إلى أن العذاب ينشأ من الشهوة والرغبة والمحبة الملحقة بالأشياء المؤقتة والتعلق بها. يعتقد البوذيون أن الشهوة والتعلق هما سبب العذاب والمعاناة.
الحقيقة النبيلة لانقضاء العذاب (Nirodha): تشير إلى إمكانية التخلص من العذاب والمعاناة من خلال إزالة الشهوة والتعلق. عندما يتمكن الفرد من التحرر من التعلقات والرغبات الشخصية، يمكنه تحقيق حالة السلام الداخلي والتحرر الروحي.
الحقيقة النبيلة للمسار (Magga): تشير إلى المسار الذي يؤدي إلى التحرر من العذاب وتحقيق النور. يعتبر المسار النبيل طريقًا ثماني الأطراف يعرف بـ “المسار الثماني النبيل” أو “الثماني مسارات النور” (Noble Eightfold Path). يتضمن هذا المسار الفهم الصحيح، والنية الصحيحة، والكلام الصحيح، والعمل الصالح، والمجهود الصالح، والاهتمام الصالح، والتركيز الصالح، والتأمل الصالح. يعتبر المسار النبيل وسيلة لتحقيق الحكمة والراحة الروحية.
تعتبر الحقائق النبيلة الأربعة أساسًا لفهم الحياة والتحرر الروحي في التعاليم البوذية. من خلال فهم هذه الحقائق واتباع المسار النبيل، يمكن للأفراد أن يحققوا النور والسلام الداخلي.
المسارات الثمانية النبيلة
المسارات الثمانية النبيلة، المعروفة أيضًا بـ “الثماني مسارات النور”، هي جوانب مهمة في التعاليم البوذية. تشكل هذه المسارات النبيلة طريقًا شاملاً للتحرر الروحي وتطوير الحكمة والسلام الداخلي. إليك وصفًا لكل من المسارات الثمانية:
الفهم الصحيح (Right Understanding): يتعلق بفهم الحقيقة الأساسية للوجود والعالم والحياة. يتضمن فهم الحقائق النبيلة الأربعة، وفهم مفهوم العدم الدائم والتعاليم الأساسية للبوذية.
النية الصحيحة (Right Intention): يتعلق بتوجيه النية والقصد بشكل صحيح نحو الخير والتحرر. يتضمن تطوير الرغبة في الخير والتعاطف والتسامح والتضحية الذاتية.
الكلام الصحيح (Right Speech): يتعلق بالتحدث والتعبير بطرق صحيحة وأخلاقية. يشمل تجنب الكذب والثرثرة الفارغة والنميمة والتجريح والشتم، وتعزيز الكلام الصادق والمفيد والمحبة.
العمل الصالح (Right Action): يتعلق بالتصرف والسلوك بطرق صالحة وأخلاقية. يشمل امتناع عن القتل والسرقة والخيانة الجنسية، وتعزيز السلوك الحسن والعدل والعطف.
المجهود الصالح (Right Effort): يتعلق بالسعي النشط والمستمر للتحسين الروحي وتطوير الفضائل. يشمل التخلص من السلبية وتنمية الإيجابية وتعزيز الاستقامة وتحقيق التحرر الروحي.
الاهتمام الصالح (Right Mindfulness): يتعلق بتوجيه الاهتمام بشكل واعٍ ومنتبه للحاضر بدون الانغماس في الأفكار والانشغالات. يشمل ممارسة الانتباه والتأمل والوعي السليم في الجسد والعقل والمشاعر والظروف.
التركيز الصالح (Right Concentration): يتعلق بتطوير التركيز العميق والانصراف الشامل لتحقيق الاندماج والسكينة العقلية. يشمل تدريب العقل على التركيز العالي والتأمل العميق وتحقيق الحالة الاستنارية.
التأمل الصالح (Right Meditation): يتعلق بممارسة التأمل والتواصل المباشر مع الواقع وتحقيق الإدراك العميق والتحرر الروحي. يشمل استخدام تقنيات التأمل المختلفة مثل تركيز الانتباه والتأمل في الأنسجة الجسدية والتأمل في اللاّشيء والتأمل في الحقائق النبيلة.
هذه هي المسارات الثمانية النبيلة في البوذية، وتعمل معًا كدليل شامل للتحرر الروحي وتطوير الحكمة والسلام الداخلي. تعتبر تلك المسارات أدوات تساعد الأفراد على تحقيق النور والتحرر من العذاب والمعاناة.
المبحث الثالث: الطقوس البوذية
تشمل البوذية مجموعة متنوعة من الطقوس التي تختلف من تيار إلى آخر ومن ثقافة إلى أخرى. إليك بعض الطقوس البوذية الشائعة:
التأمل والتحكم الذهني: يتم إعلان التأمل والتحكم الذهني بشكل شامل في التعاليم البوذية. يتم تعليم ممارسة التأمل وتحقيق الانصراف وتهدئة العقل من خلال تركيز الانتباه على النفس والتنفس أو على موضوع محدد مثل الفقاعات أو الأصوات.
صلاة والتأمل على المانترا: يُستخدم التكرار المتكرر للمانترا (كلمات أو عبارات مقدسة) في الصلاة والتأمل لتهدئة العقل وتعزيز التركيز وتوجيه الانتباه. يُعتقد أن التأمل على المانترا يمكن أن يساعد في تحقيق الوعي العميق والتحرر الروحي.
الزيارة والتبجيل للتماثيل والمعابده: يُعتبر التبجيل والزيارة للتماثيل والمعابده جزءًا مهمًا من الطقوس البوذية في بعض التيارات. يقوم المؤمنون بتقديم الزهور والبخور والإضاءة والتبجيل أمام تماثيل البوذا وأعلام البوذية كتعبير عن التبجيل والتقدير.
الإحتفالات والمهرجانات: يُحتفل بالمناسبات الدينية الهامة في البوذية من خلال تنظيم المهرجانات والاحتفالات. تشمل هذه المناسبات مثل ولادة بوذا (ويسمى بوذا بوساك) ووفاته (ويسمى بوذا داي) وتحقيق الإضاءة (ويسمى ويساك) وغيرها من المناسبات الهامة.
السير في البحث عن الإضاءة: يمارس بعض البوذيين السير المشي لمسافات طويلة كطقس ديني. يقوم الأتباع بالمشي ببطء وتركيز وتوجيه انتباههم نحو الوعي الحاضر، ويعتبر ذلك فرصة للتأمل وتحقيق السكينة الداخلية.
هذه بعض الطقوس البوذية الشائعة، ومع ذلك يجب أن نلاحظ أن الطقوس والممارسات تختلف بشكل كبير بين البلدان والتقاليد البوذية المختلفة
بعض الطقوس الدينية الفريدة للبوذية.
للبوذية العديد من الطقوس الدينية الفريدة التي تميزها عن غيرها من الديانات.
الفسحة: هي طقس بوذي يتم فيه تقديم الطعام والمشروبات للأرواح الجوعى والتوجهات الروحية. يتم إعداد وجبات طعام خاصة وتقديمها في معابدهم أو في الأماكن المخصصة لهذا الغرض. يُعتقد أن هذا العمل يعزز العطف والتعاطف تجاه جميع الكائنات ويساهم في تحقيق السلام الداخلي.
ممارسة الصمت: تعتبر ممارسة الصمت أحد الطقوس الفريدة في البوذية. يتم تنظيم فترات من الصمت المطلق حيث يجتنب الممارسون التحدث أو الاتصال الكلامي لفترات طويلة، وذلك لتهدئة العقل وتعزيز التركيز والوعي.
مهرجان وايساك: يحتفل بهذا المهرجان في البوذية الماهايانا للاحتفال بتحقيق الإضاءة وتلقي التعاليم من قبل بوذا. يتم خلال هذا المهرجان إجراء مسيرات ومحاضرات وممارسات تأملية وتبجيل للتماثيل البوذية.
تقديم العطور والزهور: تشمل الطقوس البوذية تقديم العطور والزهور كعربون للتبجيل والتقدير. يقوم المؤمنون بتقديم الزهور وترتيبها أمام تماثيل البوذا والأعلام البوذية كتعبير عن الحب والتقدير للتوجه الروحي.
تلاوة السوترا: يتم تلاوة السوترا، وهي مجموعة من النصوص الدينية المقدسة في البوذية، كجزء من الطقوس الدينية. يتم قراءة السوترا بصوت مرتفع وبترتيل خاص لتحقيق التأمل والانغماس في المعاني الروحية.
هذه بعض الطقوس الدينية الفريدة في البوذية. يجب ملاحظة أن الطقوس قد تختلف بين التيارات البوذية المختلفة والثقافات التي تمارس البوذية فيها.
الطقوس البوذية المشابهة في الثقافات الأخرى.
هناك بعض الطقوس والممارسات في البوذية تشترك ببعض الشبه مع الثقافات الأخرى. وقد يكون هناك تأثير متبادل بينها. وهذه بعض الأمثلة:
التأمل والتحكم الذهني: يوجد تقارب بين ممارسات التأمل والتحكم الذهني في البوذية والممارسات المماثلة في الهندوسية واليوغا. فالتأمل والتحكم في الذهن يُعتبران جوانبًا مهمة في العديد من التقاليد الروحية في العالم.
التبجيل والصلاة: تجد لها ممارسات مشابهة في العديد من الثقافات والديانات. فمثلاً، التبجيل والصلاة أمام التماثيل والأيقونات والمعابد توجد في الهندوسية والبوذية والكاثوليكية والأرثوذكسية والإسلام وغيرها.
الصيام والتقارب الروحي: توجد تقاليد الصيام والامتناع عن الطعام والشراب لفترات زمنية محددة في العديد من الديانات والتقاليد، ويتم ذلك بهدف التقارب الروحي والتطهير الداخلي. وهناك تشابه في هذه الممارسات بين البوذية والهندوسية والإسلام والمسيحية وغيرها.
الحج والزيارات الدينية: ممارسات الحج والزيارات الدينية إلى مواقع مقدسة توجد في العديد من الديانات. فمثلاً، الحج في الإسلام، وزيارة معابدهم وأماكن مقدسة في البوذية والهندوسية.
تلك بعض الأمثلة على التشابهات في الطقوس الدينية بين الثقافات المختلفة. ومع ذلك، يجب أن نلاحظ أن هناك أيضًا اختلافات كبيرة بين الطقوس والممارسات الدينية في الثقافات المختلفة، وذلك بسبب التأثيرات الثقافية والتاريخية والفلسفية المختلفة.
المبحث الرابع: التفرعات الرئيسية للبوذية
تنقسم البوذية إلى عدة تفرعات رئيسية، أبرزها:
البوذية الهينايانا (الصغرى)، البوذية الماهايانا (الكبرى)، البوذية الفاجرايانا، البوذية الزن:
هذه هي أبرز التفرعات الرئيسية للبوذية، حيث تختلف كل تفرعة في تركيزها وممارساتها الروحية، رغم أنها جميعًا تشترك في الأساس الفلسفي البوذي.
الخاتمة:
إن أغلب الدراسات التي تناولت تاريخ الأديان، إنما كانت منصبة على تاريخ الأديان الإبراهيمية. وقد تم تجاهل الأديان الأخرى في العالم، التي يتبعها ملايين البشر. وإن استمرار تجاهل، وعدم معرفة الآخر يزيد من احتمال. ”صدام الحضارات“.
إن عالمنا العربي والإسلامي أصبح بحاجة ماسة للاطلاع على أفكار وفلسفات وأديان الشعوب الأخرى، حيث تحتدم المواجهات الثقافية والفكرية والدينية على أكثر من صعيد، إن فهم وتفهم أفكار وديانات الشعوب الأخرى يسهل علمية الحوار والتعايش الحضاري.
ملاحظة: هذا المقال جزء من دراسة طويلة بعنوان: مدخل إلى تاريخ الأديان الآسيوية، حررتها لقسم التاريخ في جامعة ماردين.
المصادر والمراجع:
السواح، فراس. موسوعة تاريخ الأديان في أربع مجلدات، دمشق: دار التكوين للطباعة والنشر، الطبعة الخامسة، ٢٠١٠
م. كولر، جون. الفلسفات الآسيوية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت: توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة ٢٠١٣.
كدرو، نرجس. أديان ومعتقدات المغول الإيلخانيين، أنقرة: سونغان، الطبعة ١، ٢٠٢٣.
سعيفان، كامل. موسوعة الأديان القديمة، معتقدات آسيوية (العراق-فارس-الهند- الصين- اليابان).، مدينة نصر،٢٠١٢
العبداني، عبد الله، الشامانية فلسفة للحياة سيات، ٢٠١٠
سميث، هوستن. أديان العالم، حلب: دار الجسور للثقافة، الطبعة ٣، ٢٠٠٤.
مونتريال ١٨/١١/٢٠٢٤