عندما يعتذر المسؤول عن بقائه في منصبه
نوع من الصدق نادر جداً في شخصيات عاشت داخل دوائر السلطة، حيث الاعتراف بالخطأ يكاد يكون محرماً.
بلال الخلف – العربي القديم
أن يعتذر مسؤول سوري عن تقلده منصبًا في عهد الأسد، فهذا بحد ذاته أمر غير مألوف. فالتاريخ الحديث لم يسجل لنا الكثير من هذه الحالات، خصوصًا حين يكون الاعتذار صادقًا وليس مجرد تلاعب لغوي أو محاولة تبرئة للذات. وفي هذا السياق، يبرز اسم الدكتور محمد غازي الجلالي، رئيس وزراء سوريا الأسبق، كشخصية تستحق الوقوف عندها.
لم يكن الجلالي من الذين لمعوا في بلاط النظام، ولم يترك بصمة في مشهد الفساد الذي اتسمت به الحكومات المتعاقبة. على العكس، حين سألت عنه طلابه الذين درسوا على يديه، لم يذكروا أنه مارس “التشبيح الأكاديمي”، وهو أمر نادر في جامعات سوريا التي اعتاد أساتذتها، بحكم ولائهم للنظام، على فرض سلطتهم على الطلبة بطرق مختلفة.
لكن ما يجعل الجلالي حالة مميزة يمكن أن تسجل في التاريخ السوري ليس فقط ماضيه الأكاديمي، بل أيضاً موقفه عند سقوط الطاغية. لم يهرب كغيره، ولم يبحث عن مخرج آمن في العواصم البعيدة، بل اختار البقاء، والتعاون مع حكومة الإنقاذ بدلاً من التنكر للواقع الجديد. هذا في حد ذاته موقف يحمل قدراً من المسؤولية، حتى لو لم يكن موقفًا بطوليًا مطلقًا.
الأمر الأكثر لفتاً للنظر هو تصالحه مع نفسه. لقد قالها صراحة: “لم أكن شجاعاً بما يكفي لأقول لا علناً”. وهذه الجملة وحدها كافية لجعل الجلالي يختلف عن كثيرين ممن استمروا في الكذب على أنفسهم وعلى الناس، مدعين أنهم كانوا “مصلحين” أو “مغلوبين على أمرهم”. لكنه لم يكتفِ بالكلمات، بل كان تأثره واضحاَ حين ألقى بيانه قبيل انهيار النظام، وحين ظهر لأول مرة مع الإعلامي حسين الشيخ في مقابلة مليئة بالمشاعر، حيث لم يتمالك نفسه من البكاء، ليس ضعفاً، بل لأنه أدرك حجم ما عاشه السوريون، وحجم المسؤولية التي تحملها ولو كان جزءًا منها.
وفي لحظة الاعتذار، لم يكن يعتذر عن قرارات سياسية فقط، بل كان يعتذر للسوريين عن قبوله المنصب، وعن بقائه في سوريا وعدم لحاقه بالمعارضة في الخارج، كأنه يقرّ بأنه لم يكن شجاعاً بما يكفي لاتخاذ ذلك القرار في وقته. وهذا النوع من الصدق نادر جداً في شخصيات عاشت داخل دوائر السلطة، حيث الاعتراف بالخطأ يكاد يكون محرماً.
المفارقة أن سوريا عرفت رؤساء وزراء كثراً في عهد الأسد، لكن من يتذكرهم اليوم؟ أغلبهم كانوا مجرد أدوات، تحركهم أجهزة الأمن كما تشاء، أو شخصيات متملقة تسلقت على أكتاف الفساد. يكفي أن نقارن الجلالي بأسماء مثل عادل سفر، حسين عرنوس، وائل الحلقي، أو حتى عماد خميس، لنجد فرقاً هائلاً. هؤلاء كانوا أقرب إلى موظفي تنفيذ أوامر، لا رجال دولة. أما الجلالي، فرغم أنه شغل المنصب ذاته، فقد امتلك شيئاً مختلفاً: اعترافه بالخطأ، وتقديره لوزن الكلمة، واستعداده لأن يكون جزءاً من المرحلة الجديدة بدلاً من الهروب.
ربما لا يكون الجلالي بطلاً، لكنه بالتأكيد ليس مجرماً. وفي بلد أنهكته العقود من القهر والدماء، يكفي أحياناً أن يكون الإنسان نظيفاً، أو على الأقل أن يعترف بأنه لم يكن شجاعًا كما ينبغي. وهذا وحده يجعل اسمه يستحق الذكر.