الرأي العام

دلالات وقضايا | العودة إلى البربريَّة

في الحرب يربح قادة الطَّوائف والأعراق، ويخسر الأتباع!

د. مهنا بلال الرشيد – العربي القديم

في البدء كانت البربريَّة والحضارة هي الاستثناء؛ أستهلُّ مقالي بهذه الجملة لقناعتي التَّامَّة بصدقها، ونتيجة لجملة من الأبحاث الَّتي نشرتُ بعضها، وملخَّصها يدلُّ على شيوع الإنسان الشِّرِّير وانتشاره على حساب الإنسان الخيِّر؛ ونعني بالإنسان الشِّرِّير ذلك الإنسان الَّذي يستخدم قدراته العقليَّة والبدنيَّة بعيدًا عن رقابة الأخلاق، وينتهك بقدراته حدود الأخلاق والقانون. وحدث مثل هذا الأمر قبل 35 ألف سنة من وقتنا الرَّاهن، عندما تسبَّب جدُّنا الأوَّل أو الهوموسابينيز أو الإنسان العاقل أو إنسان الكلام الحديث سلوكيًّا بانقراض إنسان النِّياندرتال؛ وتشير بعض الأبحاث أنَّنا نحن-أحفاد الإنسان العاقل-تمتَّعنا بمعدَّلات ذكاء أعلى من معدَّلات ذكاء إنسان النِّياندرتال؛ نتيجة تعارف البشر (كبرى الحتميَّات التَّاريخيَّة)، والتَّعارف ههنا يدلُّ على تزاوج بين فردين (ذكر وأنثى) من مجموعتين بشريَّتين متباعدتين، التقتا مصادفة خلال البحث عن الطَّعام، ونتيجة هذا الزَّواج أنجب الزَّوجان جيلًا جديدًا ذكيًّا من البشر، في أدمغتهم طفرة وراثيَّة مسؤولة عن زيادة معدَّل الذَّكاء، وعن ظهور منطقة بروكا في الدِّماغ، وهي المنطقة المسؤولة عن نشوء اللُّغة وعُنفها أيضًا ومسؤولة عن الذَّكاء اللُّغويِّ مع اللَّعب بفنون القول أو فنون الخطابة أو السِّياسة أو اللَّعب على حبالها بالإعلام؛ مثل عبارة (الجار الأزرق)، الَّتي يستخدمها بعض السُّوريِّين اليوم تهرُّبًا من الإشارة إلى جرائم نتنياهو أو تظاهرًا بهروبهم من خوارزميَّات مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ.

المجد للأشرار

استخدم أبناء الإنسان العاقل أو أبناء إنسان اللُّغة الحديث سلوكيًّا اللُّغةَ بوصفها قدرة أو مهارة من مهاراتهم الجديدة المكتسبة من طفرتهم الوراثيَّة بشكل غير أخلاقيٍّ عندما وظَّفوها للتَّآمر ضدَّ أبناء عمومتهم من مجموعات النِّياندرتال؛ فخطَّطوا بها لجرائم المستقبل، وبها نسجوا المؤامرات أيضًا، وحرموا أبناء عمومتهم من المياه والنَّباتات وثمار الأشجار ومصادر الطَّاقة ومقوِّمات الحياة في محيطهم الحيويِّ في مرحلة تاريخيَّة عصيبة من مراحل القحط والجفاف؛ فأدَّى ذلك إلى انقراض إنسان النِّياندرتال في مرحلة تُعرف باسم مرحلة عنق الزُّجاجة أو قبلها بعشرة آلاف سنة؛ لينتصر الإنسان الشِّرِّير، ونتكاثر نحن الأشرار الَّذين نجيد صنع المؤامرات، ونستخدم ثقافتنا وخطابتنا ومهاراتنا وذكاءنا اللُّغويَّ ومنشوراتنا على مواقع التَّواصل الاجتماعيِّ بطرق ماكرة وخبيثة وبشكل غير أخلاقيٍّ أو غير قانونيٍّ أيضًا.

خطوة واحدة إلى الوراء

بدأنا نحن وأشقَّاؤنا العاقلين أو الحديثين سلوكيًّا نتفلسف لغويًّا، وبدأنا نطبِّق مقولة لغويَّة ماكرة تقول: (أنا وأخي ضدَّ ابن عمِّي وأنا وابن عمِّي ضدَّ الغريب)؛ فتخلَّصنا من الغريب أوَّلًا، ومن ابن عمِّنا إنسان النِّياندرتال ثانيًا، وبدأنا نقتل بعضنا ثالثًا. وصرنا ننسج باللُّغة-بوصفها مهارتنا الجديدة والمتميِّزة-مؤامرات ضدَّ بعضنا؛ وجعلنا هذه اللُّغة الماكرة مقولات تاريخيَّة خبيثة تشبه المسلَّمات، الَّتي لا تقبل النِّقاش، وقدَّسنا أحقر كلمتين في هذه اللُّغة (القوميَّة أو العرقيَّة) و(الطَّائفيَّة الدِّينيَّة أو المذهبيَّة)، وتحت مظلَّة هاتين الكلمتين الجميلتين بحثًا وتنظيرًا، والحقيرتين باستخدامهما وتوظيفهما الخاطئ، قُسِّمنا نحن الأخوة من بني البشر، قُسِّمنا عِرقيًّا وبغير وجه حقٍّ إلى (ساميِّين وحاميِّين وآريِّين أو يافثيِّين)، ولو رجعنا خطوة واحدة إلى الوراء لاكتشفنا أنَّنا أخوة من أب واحد وأمٍّ واحدة، ثمَّ قُسِّمنا إلى لا دينيِّين وملحدين ووثنيِّين وحنفيِّين إبراهيميِّين ويهود سامريِّين وغير سامريِّين ومسيحيِّين أرثوذوكس وبروتوستانت وكاثوليكيِّين ومسلمين سنَّة وشيعة وعلويِّين ودروز وإسماعيليِّين، وكلُّنا يكابر، ويتعالى عن العودة إلى إنسانيَّتنا قبل هذا التَّقسيم، نتعالى على الرُّجوع ولو بخطوة واحدة إلى الوراء؛ فهذا يتخندق خلف شيخ العشيرة، وذاك يتخندق خلف القائد القوميِّ الكبير، وذاك يسوقه شيخه الدِّينيُّ؛ ليُذبح من قبل أخيه، أو ليمارس بنفسه الذَّبح ضدَّ أخيه مرضاة إلى شيخ القوم أو شيخ الدِّين أو الطَّائفة أو المذهب، وذاك يصيد بمهاراته اللُّغويَّة منشورات ومكاسب ومناصب وألقاب بين المتخاصمين، ولو رجعنا هذه الخطوة الوحيدة إلى الخلف؛ لتأكَّدنا أنَّنا في أصلنا من أبوين اثنين، وهذان الأبوان من طين أو تراب، ولتركنا شيوخ الأقوام والعشائر والأديان والمذاهب يقتتلون لوحدهم، ولتفرَّجنا عليهم دون المساهمة بأيِّ اقتتال!

اللَّعب على حبال اللُّغة واستغلال المهارات

يختلف توظيف المهارات في مجال الخير عن استغلالها الرَّخيص لتحقيق بعض المكاسب الدَّنيئة، فعندما كانت البربريَّة قاعدة عامَّة في أحوال البشر، وكانت الحضارة هي الاستثناء، حُكم المجتمع البربريُّ القديم أو غير المنظَّم عُرفيًّا بقانون الغاب وأخلاقيَّات الغابة أيضًا، فالضَّعيف يغيب عن أنظار القويِّ كيلا يقتله أو يفترسه، والفرد البدويُّ في المجتمع الَّذي يلتقط ثمار البراري، ويطارد حيوانات الصَّحراء ليصيديها يتفوَّق في الصِّراع المفتوح على كلِّ فرد من المجتمع الرِّيفيِّ أو المجتمع المدنيِّ؛ لأنَّه وببساطة أقوى منه بدنيًّا بسبب ركضه الدَّائم في البراريِّ؛ ولأنَّه يلعب في ميدانه؛ لذلك أنصحك إن كنتَ إنسانًا متحضِّرًا بألَّا يستدرجك أيُّ بدويٍّ إلى ميدانه، أنصحك باحترام القانون لأنَّك أكبر الرَّابحين في ظلِّ سيادته.

يستفيد الرِّيفيُّ في قريته الزِّراعيَّة والمدنيُّ في عاصمته أو مدينه من تنظيم الحياة بالعلم والمعرفة والأخلاق، وينعم بسيادة الأمن والقانون، ولا يشعر بنعمته هذه إلَّا بعد زوالها، ولذلك نظَّمت القرى والمدن والممالك الزِّراعيَّة الأولى حياتها بالقانون على أساس العلم والمعرفة والحكمة والخبرة والأخلاق والفلسفة؛ وبالعمل المنظَّم تحت سقف القانون أو الشَّريعة تفوَّقت الأرياف والمدن المنظَّمة على جماعات الجمع والصَّيد؛ لأنَ السُّلطة الّتي تحتكر القوَّة، وتمارسها بالعدل ضدَّ الخارجين على القانون تحمي المجتمع، وحين تُطبِّق السُّلطة هذا القانون بلا هوادة مرَّة أو مرَّتين يحلُّ عنف اللُّغة أو صرامتها الواضحة في بنود القوانين محلَّ عصا الطَّاعة أو يحلُّ العدل مكان احتكار الدَّولة أو القرية أو المدينة للسُّلطة أو عصا الطَّاعة، ويدخل المجتمع مرحلة مزدهرة من مراحل التَّقدُّم، وينشغل فيها كلُّ فرد بشؤونه الخاصَّة، ويعرف الإنسان واجباته قبل أن يعرف حقوقه. وحين تتخلَّى أيُّ قرية أو مدينة عن هذه السُّلطة أو ترفض الاحتكام إلى سلطة القانون لأيِّ سبب من الأسباب تُعيد نفسها إلى مواجهة مباشرة مع جماعات أقوى منها في ظلِّ غياب القانون، وتخسر هذه المدينة نهضتها بكلِّ تأكيد؛ لأنَّ الشَّرَّ أقوى من الخير في نفوسنا جميعًا؛ لأنَّنا أبناء الإنسان العاقل الَّذي قتل أقرباءه قبل ثلاثين ألف سنة، ولأنَّ القوانين والأخلاق والمعرفة والعلم والحقّ والخير تحمي المجتمع المنظَّم، إنّها تحمي الضُّعفاء أو الخلوقين أو المهذَّبين أكثر ممَّا تحمي الغوغاء والمجعجعين؛ وهذا أكبر مكسب قد لا يعرفه الخلوقون المهذَّبون إلَّا عند زواله، وإن رأى بعض المنظِّرين أنَّ مكسب الأقوياء يكون بتكريس سلطتهم قانونًا، لكنَّني أجد أنَّ حماية حياة الضَّعيف وكرامة الخلوق المهذَّب بالقانون أكبر نفعًا، وإن قابلها تكريس سلطة الأقوياء من خلال القانون ذاته؛ وذلك لأنَّه ومن وجهة نظري أيضًا: إذا دخل الشَّرُّ في صراع حياديٍّ وسباق مفتوح ضدَّ الخير؛ فإنَّ الشَّرَّ سينتصر حتمًا؛ وبسبب طبيعة الشَّرِّ التَّهديميَّة السَّهلة يمكنه التَّدمير الواسع لوحده، وبسبب طبيعة الخير البنائيَّة الصَّعبة يحتاج إلى مساعدة القانون القائم على أساس المعرفة والعلم والأخلاق والعقل والحكمة والفلسفة، وعند رفض سلطة القانون أو سلطة الدَّولة يعود المجتمع إلى بداوته الأولى، ويخسر الضُّعفاء وأصحاب الأخلاق الحميدة الَّذين حماهم القانون، كما يخسر أيُّ كائن ضعيف في الغابة، ويكسب شيوخ القوميَّات والطَّوائف كما يكسب أيُّ كائن مفترس في الغابة، ويصيد البداة الأوائل؛ لأنَّهم يلعبون في ملعبهم، ويصيد في مثل هذا الماء العكر بعض الشُّعراء وبعض مَن أوتوا فصاحة أو خطابة، ويكسبون بعض المكاسب الَّتي ما كسبوها، ولن يكسبوها عند استقامة القانون ونضوج التَّجربة الدِّيمقراطيَّة.

في الحرب

في الحرب يخسر الرَّاعي الكذَّاب، الَّذي خدع النَّاس؛ وقال: هذا ضربني، وضربني ذاك، وضربتني، وضرباني وضربتُني، ثمَّ تأتي الصَّفعة الحقيقيَّة أو الضَّربة القاصمة، ولا يعيره النَّاس والمجتمع الدُّوليُّ أيَّ اهتمام نظرًا لكذبه السَّابق والكثير، فكم كذب نتنياهو! وكم تاجر بأمن إسرائيل أمام الكونغرس، وكم تظاهر بالخوف من محرقة جديدة، وكان يتاجر بالسِّياسة، ويلدغ بسمومه الواقعيَّة هذا وذاك، ومثل نتنياهو من يستقوي به أيضًا، لكنَّني أجد في ترامب سياسيًّا لا يستحمل ادَّعاء جديدًا من ادِّعاءات الرَّاعي الكذَّاب، ولا يستحمل ادِّعاءات المرياع من أعوان الرَّاعي الكذَّاب، ومن السَّهل جدًّا على ترامب أن يستبدل المرعى والرَّاعي والمرياع أيضًا؛ ليتفرَّغ إلى تفكيك أسلحة العالم النَّوويَّة الَّتي تهدَّد أمان الأرض والبيئة والغلاف الجويِّ، وتسبِّبُ مع الأنشطة الشِّرِّيرة الأخرى تفاقم مشكلة ثقب الأوزون وغيرها أيضًا، وبظلِّ وجود الرَّاعي الكذَّاب والمرياع المدلَّل عنده سينشغل بال المالك، وقد يأتي قرار المالك باستبدال الرَّاعي والمرياع وممرَّ داوود والمقلاع في أيِّ لحظة.

في الحرب يخسر الضُّعفاء؛ لأنَّ القانون كان يحميهم، وإن كرَّس بشكل من الأشكال سلطة الأقوياء! في الحرب يخسر كلُّ مشارك بإضرام نيرانها، حتَّى ولو بمنشور على الفيس بوك، حتَّى وإن شارك بها بقشَّة واحدة مثل جربوع إبراهيم! وفي الحرب يكسب لبُرهة من يجيد الصَّيد في الماء العكر، ثمَّ يعود إلى خيباته وخساراته بعد انتهائها! في الحرب لا يخسر ولا يربح من يعتزلها؛ من يعتزلها أو من لا يجد ناقة ولا جملًا له فيها! في الحرب يربح من يجيد اللَّعب على حبال أحقر كلمتين من كلمات اللُّغة عند استخدامهما بشكل سيِّء؛ وهما (القوميَّة والطَّائفيَّة)؛ لكنَّ مكسبه هو مكسب المرابي والشَّريك المضارب! في الحرب يربح قادة الطَّوائف والأعراق، ويخسر الأتباع! وفي نهاية الحرب دائمًا يحضر الكهنة؛ ويلعبون على حبال اللُّغة حين يواسون المكلومين من أهالي الضَّحايا بعبارات اللُّغة المعسولة! في الحرب نخسر جميعًا؛ لأنَّ الشُّرفاء أبرز الخاسرين! في الحرب تخسر الدَّولة؛ لكنَّها تنهض لو عاد أبناؤها إلى رشدهم، وإن لم يعودوا إلى الدَّولة والرُّشد والقانون سيعودون إلى البربريَّة الأولى بكلِّ تأكيد!

زر الذهاب إلى الأعلى