حول مذكرات أبي خليل القباني المفقودة

تيسير خلف
بقي موضوع مذكرات أبي خليل الشخصية المفقودة، لغزاً مدفوناً مع حفيده أحمد زهير القباني، الذي كان يحتفظ بها، أثناء إقامته في القاهرة، حين كان يعمل مساعداً للأمين العام للجامعة العربية. وقد كتب البروفيسور أكرم الميداني في جريدة “الأهرام”، أواخر العام 1952، حين كان طالباً في المعهد العالي للفنون المسرحية في القاهرة ما نصّه: “لقد سجّل القباني حياته الحافلة هذه في مذكرات، ظلت مخطوطة، حتى يومنا هذا، وقد بدأ في إعدادها للطبع أخيراً حفيده السيد أحمد زهير القباني..”.
ولمن لا يعرف أكرم الميداني، فقد تابع دراساته العليا، بعد مقالته تلك في الولايات المتحدة الأميركية، وحصل على الماجستير والدكتوراه، وكان السكرتير الأول في البعثة الدبلوماسية السورية في الأمم المتحدة، لكنه استقال في العام 1965، وتفرّغ للحياة الجامعية، فأصبح شخصية أكاديمية مرموقة في أميركا، وعميداً لكلية الفنون الجميلة في جامعة كارنيجي ميلون، وقد توفي في العام 2001 في بيتسبيرغ في ولاية بنسلفانيا الأميركية عن عمر بلغ 73 عاماً.
وكان الميداني على صلة مباشرة بزهير القباني، ومن هنا تكتسب المقالة التي كتبها في “الأهرام” أهمية خاصة؛ لكونها تلخيصاً لمذكرات أبي خليل كما ألمح إلى ذلك، واللافت فيها أن تحقيبه لحياة أبي خليل، ينسجم تمام الانسجام مع المعطيات التي توصلت إليها من خلال الوثائق العثمانية وصحف تلك المرحلة، أي أنه، وخلافاً لجميع الذين كتبوا عن القباني، جعل قصة الهجوم عليه من بعض الأوساط الدمشقية، وإغلاق مسرحه قبل وصول الوالي مدحت باشا، أن القباني عاود نشاطه، بعد وصول مدحت باشا، وواصل بعد إقالة الوالي العثماني، وهذا الكلام كان يبدو مستهجناً عند الذين ربطوا مصير مسرح القباني ومصيره بمصير مدحت باشا، وهذا خطأ كبير.
ومن غرائب الأمور، وأكثرها غموضاً إهمال الحفيد زهير القباني، في ما بعد لموضوع المذكرات، وحتى اليوم لا نعرف أين استقرت بها الأيام، فقد انتقل الحفيد إلى سويسرا مديراً لمكتب الجامعة العربية في جنيف، قبل أن يستقر في باريس، ليقضي بقية سنواته فيها، وتدركه الوفاة في أواخر تسعينيات القرن العشرين، من دون أن نعلم شيئاً عن مصير المذكرات.
ويبدو أن مشكلة أوراق ومخطوطات أبي خليل قديمة، ولسبب مجهول، كان من الصعب الوصول إليها، رغم المحاولات الحثيثة للكثيرين، وأولهم المؤرخ الفني حسني كنعان، الذي بدأ بجمع المعلومات عن رائدنا في العام 1946.
وكتب كنعان في مقال نشره في مجلة “الرسالة” القاهرية عام 1951 رداً على أسئلة، وجهها له الباحث الطالب في جامعة فؤاد الأول يومها، محمد يوسف نجم، حول أي معلومات عن أبي خليل وأوراقه، فأجاب بما يلي:
“لقد أجهدت نفسي كثيراً؛ لأحصل على نسخ منها، فلم أظفر؛ لأن ولده المرحوم خليل أودع مؤلفات والده، عند شريك له في المحاماة من آل العجلاني، ولما توفي خليل المذكور أنكرها واحتجزها لنفسه، كما فعل شقيق الشاعر الزين رحمه الله بأشعار أخيه الفقيد…”.
وهنا لا بد من الإشارة إلى قصة، تبدو أكثر غموضاً وإثارة للأسئلة، ففي الستينيات حضرت امرأة إلى مكتب الدكتور محمد يوسف نجم في الجامعة الأميركية ببيروت، وأعطته سبعة دفاتر، أخبرته أنها مسرحيات، عثرت عليها بين أوراق قريبها الشهيد رشدي الشمعة، أحد شهداء 6 أيار عام 1916، ورشدي الشمعة هذا كان من المسرحيين السوريين المجهولين، والذين صدر بحقه قرار عرفي من أعجب ما يكون، إذ تضمّن القرار أن الحكم عليه بالإعدام؛ كان بسبب التمثيليات التي كان يكتبها: “كان ألقى في دور التمثيل محاضرات، تشجّع الانفراد العربي واستقلاله..”.
ما يهمّنا هنا أن الدكتور نجم، أدرك أن الدفاتر السبعة، هي نصوص مسرحيات لأبي خليل القبّاني، كان يعرفها من خلال تتبّع أخباره، حين وضع رسالة الدكتوراه الخاصة به عن تاريخ المسرح العربي، وهي ثلاثة عشر نصاً هي: “يوسف بن تاشفين”، و”المعتمد بن عباد”، و”يزيد بن عبد الملك مع جاريتيه حبابة وسلّامة”، و”عبد السلام الحمصي”، و”رضية”، والمشهد الأخير من “مجنون ليلى”، و”الشيخ وضاح ومصباح، وقوت الأرواح”، و”ناكر الجميل”، و”الإسكندر”، و”مي”، و”نفح الربى”، و”القائد الخائن”، و”الوزير أبي الوليد بن زيدون. “
ولا أحد يعلم، لماذا لم ينشر الدكتور نجم هذه المسرحيات، ولا أين هي الآن؟ وهذه واحدة من الخطايا التي لا تُغتفَر لهذا الأكاديمي، الذي كان يفترض به أن يُودعها لدى مكتبة عامة! أما الخبر الآنف الذكر، فيشير إلى أن الشهيد رشدي الشمعة تتلمذ على يد القباني، الذي أعطاه نصوصه المسرحية؛ لكي يمثّلها مع رفاقه من هواة التمثيل، والذي عرفنا في ما بعد أن نشاطهم، كان يتركز في المدرسة العثمانية في دمشق، والشهيد عارف الشهابي كان أحدهم.
وثمّة مخطوطٌ لأبي خليل عنوانه: “رسالة في ضوابط الأنغام”، أشار إليه في رسالة كتبها لصديقه يحيى تللو أيضاً مصيره مجهول، ولو أننا نرجّح أنه شكّل الأساس لكتاب “الموسيقى الشرقي” لتلميذه كامل الخلعي، إذ إن كثرة الاستشهادات، والمعلومات المنسوبة للقباني في هذا الكتاب، تشير إلى أنه اعتمد نصاً مكتوباً، وليس معلومات متفرقة، جمعها عن طريق السماع، وربما أودع القباني، ما كتبه في هذا المجال لدى تلميذه في لحظة من لحظات اليأس، التي اعترته قبل أن يكمله، فاستفاد منه التلميذ، واستوعبه في كتابه، من دون الإشارة إليه كمخطوط، بل كمعلومات نقلها عن الأستاذ.
من المؤكد أن مذكرات القباني موجودة في مكان ما الآن، ربما مع ابنة زهير القباني، التي علمنا أنها كانت تقيم بين باريس، والإمارات العربية المتحدة، ولم نظفر بطريقه للقائها، وفي حال عثرنا عليها، فمن المحتم أنها، ستغيّر كثيراً من تصوراتنا وأفكارنا، حول تاريخ دمشق في تلك الحقبة المفصلية وتحولاتها الخطيرة.
من مقالات العدد الثالث عشر من (العربي القديم) الخاص بأدب المذكرات السياسية – تموز/ يوليو 2024