مقامات أمريكية | كلّ الدجاجات بخير

د. حسام عتال – العربي القديم
هذا ما أعلنته زوجتي وهي تحشر نفسها في المقعد الأمامي للسيارة. زوجتي صغيرة الحجم نسبياً، لكن المعطف الشتوي السميك، وحقيبتها الكبيرة المتدلية من كتفها الأيسر، جعلتا دخولها في السيارة شاقاً. كنت قد “حمّيت” السيارة بسبب البرد الشديد الذي صاحب عاصفة الثلج التي مرت بنا البارحة، وتَرَكتْ ربع متر من الثلج على الحقول والشوارع وأسطح الأبنية، وانتظرت أكثر من خمسة دقائق قبل أن تتشرف زوجتي بالحضور. بعد أن أغلَقَتْ زوجتي باب السيارة، وضعت يداها في حجرها، وحدّقتْ في الطريق الذي رصّت عجلات السيارات الثلج فيه، فأصبح كطبقة من الجليد، أقرب منه لحلبة تزلج عن طريق سير.
“كلّ الدجاجات بخير.”
ظلت الجملة ترن في أذني وأنا أضع نظاراتي الشمسية اتقاءً لوهج انعكاس أشعة الشمس. رويداً بدأ لحن موسيقي يرافقها: كلّ الدجاجات بخير، كلّ الدجاجات بخير، لالللا لالللا… ترددت في ذهني كالأغاني التي تعلق أحياناً في الذاكرة فلا نستطيع التخلص منها.
“كلّ الدجاجات بخير.”
لماذا قالت زوجتي ذلك؟ وما الذي دفعها أصلاً لتذهب وتفحص قنّ الدجاج رغم أنها في ثياب الخروج بمعطفها الصوفي وحقيبتها الجلدية. فالقنّ في الطرف البعيد من مزرعتنا، وعليها أن تمشي دقائق لتتصل إليه؟ ربما خَشِيَتْ على الدجاجات من الصقيع… لكنها تعرف أن القنّ مدفأ بالوشيعة التي نستخدمها في الشتاء. فوق ذلك، هي تعرف أني أنتظرها في السيارة، ما دهاها؟
“كلّ الدجاجات بخير.”
ما القصة يا ترى… ما القصة… القصة… نعم، نعم هي القصة!
إنها افتتاحية القصة التي كنت أنوي كتابتها هذا الصباح، ولم يخطر لي جملة مناسبة.
“كل الدجاجات بخير.” هذا بالضبط ما كنت أنشده!
معظم الكتّاب يُعانون في صياغة جملٍ يفتتحون بها قصصهم، لذلك فهم يقضون وقتاً طويلاً في التفكير في الجملة الأولى. الجملة الأولى هي التي قال عنها الكاتب ستيفن كينغ: ” يجب أن تقول الجملة الافتتاحية للقارئ: اسمع، ادخل معي هنا. أنت تريد أن تعرف المزيد عن هذا”. الجملة الافتتاحية هي الفرصة الأولى، والوحيدة، لجذب انتباه القارئ من أول سطر. هي الأكثر ضماناً للتشويق، للدخول في قلب الحدث، لإيقاع الخصم من الضربة الأولى كما يقال.
ألبير كامو فعل ذلك في بداية قصته (الغريب)، فبدأ قصته بالشكل التالي: “أمي ماتت اليوم. أو ربما البارحة، لا أدري.”
يا لها من بداية! معها وضعنا كامو في المعمعة من السطر الأول. لقد ماتت أم البطل، هذا مؤسف… لكن كامو لا يكتفي بذلك، ولا ينتظر فيضيف مباشرة لغزاً وراء موتها، يزرع في نفس القارئ شك مدّعياً أنه لا يعرف متى ماتت بالضبط. كيف يمكن ذلك؟ هل هو يعني ذلك فعلاً؟ هل هو راوٍ يكمن لنا أن نثق به؟ نحن الآن مشدودون إلى الصفحة نقرأ بقية سطورها بنهم وترقب.
أما الكاتبة جيرترود ستاين فقد افتتحت قصتها (صنع الأمريكاني) بهذه الطريقة: “ذات يوم قام رجل غاضب بجر والده على الأرض عبر بستانه. “توقف!” بكى الرجل العجوز وهو يئن، “توقف! أنا لم أسحب والدي أبعد من هذه الشجرة.”
بهذه الافتتاحية ألقتنا جيرترود في وسط الحدث، فنحن، وكأنه بيدنا كاميرا سينمائية، نصّور هذا الخلل الأخلاقي المريع، إننا جزء منه نشارك الرجل وهو يجر والده عبر الأرض. ولكن جيرترود تضاعف للقارئ الحظوظ، وتجعله ينغمس بشكل أعمق وأكثر سوداوية، فالوالد نفسه كان قد فعل الشيء نفسه مع والده من قبل. من منّا لا يريد أن يتبين المزيد، أن يستجلي أسرار هذه العائلة ويرفع الغطاء عن خباياها؟
وتأتي طوني موريسون ببداية عظيمة لقصتها (النعيم) فتكتب: “أطلَقُوا الرصاص على الفتاة البيضاء أولاً”.
بهذه الجملة البسيطة فتحت طوني أبواب الجحيم أمام القارئ، وفعلت ذلك لقصة اختارت لها من بين كل الأسماء ‘النعيم’: من هم هؤلاء الذين يطلقون الرصاص؟ ولم يطلقونه؟ ولم هذه الفتاة؟ ولم البيضاء أولا؟ طوني أثارت دوامة من السطر الأول، ولا نملك خياراً سوى أن نبقى معها حتى النهاية.
“كل الدجاجات بخير.”
بعد سؤال وجواب مقتضبين بيني وبين زوجتي، وأنا أناور طريقي محاولاً تجنب انزلاق السيارة إلى جانب الطريق، اتضح لي أن زوجتي كانت، وهي تشرب قهوتها الساخنة صباحاً أمام النافذة الكبيرة، قد قرأَتْ في نشرة أخبار المزارعين، أن سُعار الطيور (bird flu) قد وصل إلى مقاطعتنا، وأن على مربّي الطيور أن يأخذوا حذرهم بتعقيم الأقنان، وبإزالة أي طير مصاب بسرعة كيلا ينتشر السُعار في بقية القطيع. هكذا، وببساطة، قد حُلّت معضلة الدجاج… ومعها معضلة افتتاحية القصة.
لكن هذا الحلٌ مؤقت، فبقية القصة ما زالت عالقة. ولدى كاتب “كل الدجاجات بخير” أن يتقدّم ويختار من عدد من الطرائق التي تؤهل هذه البداية لها. فيمكنه أن يجعل القارئ شريكاً في القصة بسرعة، أو أن يبعده عنها ويضع بينه وبين القارئ سدوداً وحواجز. يمكنه أن يجعل هذه البداية وسيلة للتعرف على طريقة الزوجين في التعامل مع بعضهما، هل هما متفقان؟ هل يتحاوران بيسر وسهولة؟ أم أنهما يُضخمّان أي حادث طفيف ويجعلا منه سبباً للخصام والقتال؟ هل يحترم الرجل صمت زوجته أم أنه يتمسخر عليها بفوقيّة؟ والزوجة، هل تعتذر عن تأخرها، أم أنها تجلس متأففة، صامتة بعدوانية مبطنّة، دون التصريح بأي تفسير لتصرفها؟
من ناحية أخرى يمكن للكاتب الكشف للقارئ عن أسرار العلاقة بين الزوجين انطلاقاً من هذه الجملة، ورسمه لهذا المشهد البسيط الذي يتيح له أن يسبر عناصر قصصية هامة. عناصر قد تصور البيئة التي تعيش فيها العائلة (مكان بارد مثلج، بيت ضمن مزرعة ريفية…)، أو حالة العائلة الاجتماعية، الثقافية أو المادية (زوجين في منتصف العمر، ميسوري الحال، لديهما شهادات عليا، أولادهما في الجامعة… الخ)، أو أن تمتد لتعطي علامات عن الصفات النفسية وخصائص طباع الزوجين (وئام، تناغم، خصام، شجار، تأزم، بين بين…). فهذا الحدث الذي يبدو بسيطاً تافهاً، ستدفع دلالاته للسطح ما هو مختبئ ومستتر في العمق، وفي الواقع إن قوته القصصية تكمن في بساطته الظاهرة، وخلوه من صفات الأحداث العظيمة أو الفادحة.
“كل الدجاجات بخير.”
هذه جملة افتتاحية تقول: اصغ جيداً، وتابع القراءة لأن الدجاجات قد يَكُنَّ بخير… ولكن ليس كل شيء آخر.