أرشيف المجلة الشهرية

غزة معين بسيسو

بقلم: أحمد برقاوي

حين طلب مني الصديق محمد منصور أن أكتب عن غزة، تراءى لي مباشرة الشاعر الفلسطيني- الغزاوي معين بسيسو بروحه المتمردة وشعره الغاضب، وانتمائه الثوري في اللحظة الأجمل في تاريخ الثورة الفلسطينية. بل وراحت بي الذكرى وهو يلقي قصيدته الشهيرة: الصمت موت من على مدرج جامعة دمشق وكنت حينها طالباً جامعيا في السنة الثانية كان هذا في عام 1971

لماذا حضر بسيسو؟ لأنه يعكس في حياته روح غزة ليس في ذاك الزمان فحسب، وإنما في كل زمان.

الصمت موت 

والنطق موت

فالقول ليس ما يقوله السلطان والأمير

وليس تلك الضحكة التي يبيعها المهرج الكبير للمهرج الصغير 

فأنت إن صمت مت 

وأنت إن نطقت مت

قلها ومت.

كأن معين أراد أن يقول: أن  يصمت مثقف صمتاً كلياً في لحظات التحولات الكبرى واختلاف المواقف بين قوى الصراع بين قوى الشر وقوى الحياة الكريمة فهذا لعمري أسوأ ألف مرة من الانحياز العلني إلى قوى الطغيان،لأن مثقف الطغيان أعلن عن ذاته بكل وضوح، أما المثقف الصامت دون أي إعلان ولو كان الإعلان بلغة التورية فإنه يريد أن يحتفظ برضا الطرفين. إنها لصورة من صور الإنتهازية الرخيصة. بل إن مثقف الصمت هو في أعماقه مثقف منحاز للشر.

في تلك المرحلة من التاريخ كان مفهوم المقاومة متطابقاً مع ماهيته، لأنه يدل على واقعه الحق، فالمقاومة الحقة خلقت يومها شعر المقاومة، وهي التي أصبحت صفة كثير من شعراء فلسطين في الداخل والشتات.

لكن معين بسيسو المولود سنة 1928 عاش تجربة الكفاح الفلسطيني في غزة مبكراً وكان شاعراً لائياً على الدوام. 

وما زالت صرخاته الشعرية المعبرة عن روحه المتحدة بروح غزة تردد وكأنها صرخات ضد هذا الزمان.

نعم لن نموت،

نعم وسوف نحيا 

ولوأد القيد من عظامنا

ولو مزقتنا سياط الطغاة

ولو أشعلوا النار في جسمنا 

نعم لن نموت.

إن روح الفينيق هذه هي روح كل متمردي الشآم من غزة إلي حلب.

ترى لو أن أحداً قد قرأ هذا النص الآتي دون أن يعرف بأن قائله معين بسيسو الذي رحل عن عالمنا عام 1984 فإنه سيتصور بأنه نص ينتمي إلى هذه اللحظة المعيشة من تاريخ غزة الراهن:

البحر يحكي للنجوم حكاية الوطن السجين

والليل كالشحاذ يطرق بالدموع وبالأنين 

أبواب غزة وهي مغلقة علي الشعب الحزين

فيحرك الأحياء ناموا فوق أنقاض السنين

وكأنهم قبر تدق عليه أيدي النابشين 

وتكاد أنوار الصباح تطل من فرط العذاب

وتطارد الليل الذي مازال موفور الشباب

لكنه ما حان موعدها وما حان الذهاب

المارد الجبار غطى رأسه العالي التراب

كالبحر غطاه الضباب وليس يقتله الضباب

“قد أقسموا والشّمس ترخي فوقهم حمر الضفائر

أن يطردوا من أرضنا الخضراء تجّار المقابر

ويحرّروا الإنسان من قيد المذابح والمجازر

ويحرّروا التاريخ من قلم المغامر والمقامر”

لا شك عندي بأن الشعر العظيم لهو تجريد فلسفي جمالي آخاذ، ولهذا فإنه يظل مترابطاً مع تعينات الواقع المنتمية إلى هذا التجريد الجمالي، ولهذا أيضاً يظل شعراً لأجيال كثيرة تنتمي لأزمان متعددة.

 الفلسطيني عند معين بسيسو هو أوزوريس، وأوزوريس هذا قتله “ست” رمز الشر في الأسطورة المصرية، وقطّعه إرباً وألقاه في النيل، لكن حورس الذي الذي قرر أن يأخذ بثأر أبيه انتصر على الموت وبعث الحياة في أوزوريس إلي الأبد 

“‏إنهم يقولون عنك يا أوزوريس

‏ولو أنك ترحل إلا أنك تعود ثانية

‏ولو أنك تنام إلا أنك تستيقظ ثانية

‏ولو أنك تموت إلا أنك تبعث مرة أخرى

‏قف…

‏حتى يمكنك أن تسمع ما فعله حوريس لأجلك..

 إن حوريس يجمع لك أضلاعك حتى يلم شمل أجزائك دون نقص فيك

‏يا أوزوريس

‏انهض… إن حوريس يحبك” 

والحق إن القيامة من الموت وعي شامي بالحياة،وتتردد عن أكثر شعراء الشام، ولا تنفصل عن قيامة المسيح من بين الأموات.

إنّ شعبي العملاق في القمقم مثلي وفوقه الليل بحر

ويعاني الذي أعاني وهل يفرح نسر وفي السلاسل نسر!

وهو لا بدّ حاطم قيده الأسود يوما والنصر يتلوه نصر

فإذا الصرخة الكبيرة تدوّي  وإذا العالم المقّيد حرّ

وشاعر المقاومة هو شاعر الأمل، شاعر التمرد الوجودي، التمرد الكلي، تمرد على الوضع الإنساني، وروح غزة وفلسطين والشام كلها حاضرة في روح الأمل والتمرد عند شعرائنا الراحلين من عمر أبو ريشه إلى معين بسيسو مروراً بنزار قباني.

_________________________________________

من مقالات العدد الخامس من صحيفة (العربي القديم) تشرين الثاني/ نوفمبر 2023

زر الذهاب إلى الأعلى